اخبار العراق الان

عبد الإله المنصوري: في ذكرى رحيل شهرزاد المغربية .. المرنيسي إنسانة وعالِمة:

عبد الإله المنصوري: في ذكرى رحيل شهرزاد المغربية .. المرنيسي إنسانة وعالِمة:
عبد الإله المنصوري: في ذكرى رحيل شهرزاد المغربية .. المرنيسي إنسانة وعالِمة:

2016-12-05 00:00:00 - المصدر: راي اليوم


عبد الإله المنصوري

بحلول يوم 30 نونبر تكون قد مرّت سنة كاملة على رحيل الباحثة المغربية المُقتدرة الأستاذة فاطمة المرنيسي، بعد رحلة طويلة في محراب العلم والمعرفة؛ عرفتها الساحة الفكرية والثقافية العربية والمغربية باحثة بارزة في مجال علم الاجتماع وفي قضايا المرأة وحقوقها، وخاصة في مقاربة البنيات الذهنية التي أفرزت ثقافة مُشوهة (بفتح الواو وكسرها معا) تنظر للمرأة نظرة غير سليمة ولاإنسانية حتى، تنطلق من النموذج الإرشادي (الباراديغم) “الجاهلي” الذي يستبطنه تيار عريض داخل المجتمع، مثلما اهتمت في السنوات الأخيرة بقيم التصوف والإبداع الفني بشكل عام.

تعرفتُ عليها أولاً عبر إبداعاتها الفكرية التي ضمَّنتها كتبها المعروفة، قبل أن أتعرف عليها عن قرب في الثلاث سنوات الأخيرة قُبيل رحيلها، بعد تواصلي معها لاستضافتها في برنامج “المشاء” الثقافي، وكم اكتشفت فيها جوانب إنسانية عميقة؛ اهتمامها بالفقراء والمستضعفين والمهمشين في حَواري المدن وفي النّجوع والمناطق النائية التي تعاني من الهشاشة وإهمال الدولة ونُخب المركز، وكيف كانت تتطلع إلى التنقل إليهم ودعمهم وإسنادهم واجتراح أنشطة ومَعارض وإبداعات لتحريرهم من واقع الفاقة والعجز والفقر والإهمال.

 وهي الخِصلة التي أكبرتُها فيها، خاصة عقب موجة “الكبرياء البورجوازي” التي تضرب أسماء من عالم الثقافة والإبداع لم يصل أغلبها إلى تحقيق الإشعاع الذي وصلته الراحلة المرنيسي، حيث كان تواضعها شيمة من شيم العارفين والعلماء؛ يضاف إلى ذلك عدم ترددها في الاعتراف بعدم معرفتها بهذا الموضوع أو بهذه المعلومة، أو شُكرها لمن أهدى لها معروفا أو علما أوكتابا، حيث كان لسانها يلهج بالاعتراف كلما كانت هناك مناسبة. ناهيك عن شغفها العلمي بحثا عن آفاق جديدة لم تهتم بها من قبل خاصة في مجالات التصوف والتراث الفقهي والفنون المختلفة.

أستحضر هنا واقعتين كانت تتلذذ بِحكْيِهِما عرفانا وتقديرا؛ الأولى قصة اهتمامها بابن قيم الجوزية (شمس الدين أبو عبد الله محمد بن أبي بكر الزُّرعي الفقيه الدمشقي المعروف في المذهب الحنبلي الذي كان تلميذا لابن تيمية وعاش في القرن الثامن الهجري/الرابع عشر الميلادي)، وكيف أنها كانت تتحدث مرة في أحد المؤتمرات العلمية عن تعريف لقيمة المحبة وما يجاورها من المفاهيم في التراث الغربي، مُستبعدة اهتمامها بنظيرتها في التراث العربي الإسلامي ما خلا عند الصوفية، فما كان إلا أن نهض أحد الحاضرين (أعتقد أنه إيراني) وحدّثها عن وجود هذه المفاهيم في التراث العربي عند مجموعة من الفقهاء وفي مقدمتهم ابن قيم الجوزية، مما أثار استغرابها وخلق رغبة جارفة لديها للاطلاع على أدبيات هذا الفقيه لتكتشف تيارا دافقا من المفاهيم المرتبطة بالمحبة وما يدخل في بابها ويجاورها، مما دفع بها إلى تأليف كتاب في الموضوع أخذ اسم :”خمسون اسما للمحبة” اختارتها المرنيسي، بكل حب وعشق، من كتاب ابن قيم الجوزية “روضة المحبين ونزهة المشتاقين”، الذي يعتبر من أحسن الكتب التي ألفت في موضوع الحب، وأكثرها فائدة، وجمعاً للأحاديث والآثار في هذا الباب ، وأحسنها انتقاء لأخبار المحبين والعشاق (طبعا دون إغفال طوق حمامة ابن حزم، ولا ابن الجوزي في ذمّه للهوى، ولا ترجمان أشواق ابن عربي..). ورغم ذلك لم يشفع لكتابها هذا الاهتمام به من طرف التيار التقليدي الذي يحسب نفسه على مدرسة ابن القيم والتراث بشكل عام.

ولتعميم الفائدة عند العرب والعجم جعلت الأستاذة المرنيسي كتابها ذاك مزدوج اللغة، إذ تجمع صفحاته بين العربية والفرنسية، حيث ساهمت الأستاذة فاطمة الزهراء أزرويل في الترجمة.

وقد ظلت الأستاذة المرنيسي تحكي هذه القصة دون مُركب نقص أو إحساس بالعقد الذي يسِم الكثير من مثقفينا اليوم.

أما الواقعة الثانية في سِجلها المليئ بقدر كبير من الاعتراف بالجميل، حين اشترطت علي قبْل تصوير الحوار معها أن نستضيف الراحل محمد الوالي العلمي، صاحب دار أبي رقراق للنشر، ومالك “مكتبة عالم الفكر” بالرباط لأنه شكل علامة أساسية في حياتها يوفر لها ما تشاء من كتب حتى لو كانت خاصة بمكتبة منزله، “لقد كان فضل هذا الرجل علي كبيرا، أشعر في حضرة مكتبته وكأني في بغداد أو دمشق أو الأندلس″، تقول لي فاطمة المرنيسية كما كان يحلو لي أن أدعوها (كانت تستحسن صنيعي هذا، حيث كنت أقوم بتأصيله من داخل التراث العربي حين كان لقب المرأة أو نِسبتها تؤنّث ولا تُذكَّر، مستحضرا لها اعتماد الرُّميكية، ليلى العامرية ورابعة العدوية…)، لقد كانت خفة ظلها واضحة للعيان ولا تحتاج إلى استكشاف. إذ كم كانت تُحبذ باسمةً أن أعمد إلى الحديث معها بكلمات من قاموس أهل الشمال التي تُذكرها بأهلها في فاس وربْعها في بادية مرنيسة.

احتفظت المرنيسي باعتزاز خاص بانتمائها العربي بسبب ما نشأت عليه من قيم في أولى المدارس العربية الوطنية الخاصة التي أنشأها الوطنيون حتى لا يدرس أبناء المغاربة في مدراس فرنسا الاستعمارية، وهو تأثير ملاحظ حتى على الصورة التي كانت تقدمها عن نفسها من خلال الملابس والحلي وما يتبعها من مستلزمات.

أثار انتباهي في اهتمامها الفكري كيف أنها استطاعت التحرر إلى حد بعيد من النسق الثقافي الفرنكوفوني الذي يُقيد جزءا مُهما من نُخبنا المثقفة في عموم المغرب العربي الكبير، وهو تَحرُر لعبت فيه دراستها وأبحاثها في أمريكا الشمالية دورا كبيرا كما يبدو.

كانت دائمة الإلحاح عليّ لحضور منتديات للنقاش الفكري تنظمها مع دائرة من المثقفين والمبدعين، حيث كانت لا تفتأ تؤكد أنها تستفيد منها الشيء الكثير. وهذا هو ديدن الإنسان العالِم بحق؛ تواضعٌ في البدء لطلب العلم، وتواضعٌ في المنتهى حين يصبح واحدا من النخبة المفكرة التي توجه الرأي العام.

إنها المرنيسي التي صنفتها صحيفة “الغارديان” البريطانية ضمن لائحة المناضلات الـمائة الأوائل الأكثر تأثيرا في العالم، وذلك ضمن تصنيف أجرته، بمناسبة اليوم العالمي للمرأة قبل رحيلها بأربع سنوات.

كانت الراحلة الكبيرة من أوائل المغربيات والعربيات اللواتي درسن العلوم السياسية بجامعة السوربون في باريس، مثلما كانت من أولاهن اللواتي درسن بجامعة “برانديس كنتاكي” الأميركية، حيث ناقشت أطروحتها في علم الاجتماع هناك لتعود بعدها إلى المغرب أستاذة في علم الاجتماع في جامعة محمد الخامس في الرباط. حيث نجحت فيما قدمته من دراسات بتشخيص متميز للمشاكل التي تعيشها المرأة العربية مقارنة بنظيرتها الغربية، كما استطاعت أن تقارب هذا الموضوع اعتمادا على ما يمكن أن نسميه بعملية “نقد مزدوج” للأطروحتين الاستشراقية الغربية من جهة، ولتلك التقليدية التي سادت في المخيال الاجتماعي لغالبية الشرائح داخل المجتمع العربي من جهة ثانية، مما جعل مقاربتها تتسم بالتميز والأصالة المنهجية، وجعلها تحصل على جوائز عالمية اعترفت لها بما تبذله من جهد.

كنت أسألها عن تقاعدها وعن مشاريعها الفكرية فكانت تخبرني أن طموحها لا ينتهي، وأنها بصدد إنجاز عدد من المشاريع لا تنتهي، فأيقنت أن روحها تتوثب دائما للمزيد من العطاء، حيث كانت تؤكد دوما على أن المُعول عليه هو الشباب وأنها تتعلم منهم الشيء الكثير بعيدا عن أية أستاذية مدّعاة. لذا كانت متحمسة للروح التي سرت في الشباب (وكذا في المرأة) إبان الحراك الثوري العربي، تتوقع دوما أن ينتصر “حُلمُها” في التغيير تجاوزا لبؤس الأوضاع القائمة.

لذا ينطبق عليها وصف الأكاديمية التي كانت تؤسس لنظريتها على أرضية نضالية واضحة تعتمد الميدان منطلقا لها.

رحلت شهرزاد المغربية أو العربية إلى “ما وراء حجاب” هذا العالم، بعد أن أزاحت الغطاء عن سلطانات تَولَّيْن رئاسة دول في التاريخ الإسلامي (في الوقت الذي يمنع فيه بلاد الحرمين المرأة من سياقة السيارة حتى اليوم!). رحلت بعد أن قدمت قراءتها لموضوعات حارقة تمس المواطن المغربي والعربي في كيانه الفردي والجماعي، تاركة وصيّتها مكتوبة يحملها إرثها الفكري، تلك الوصية التي تنتصر للإنسان وتدعو  للمحبة والتواصل وتجاوز سوء الفهم وحل الخلافات وفقا لمنطق التعايش والقبول بالاختلاف تأسيسا لمجتمع الديموقراطية والعدالة الاجتماعية الذي يحتضن الجميع ويضمن الوجود الإنساني الكريم للرجال والنساء على حد سواء.

في ذكرى مرور سنة على رحيلها، يتم إطلاق كرسي يحمل اسمها بشراكة بين جامعة محمد الخامس في الرباط والمركز البحثي التابع للمدرسة العليا للتسيير، تكريما لها على ما خلّفته من إرث فكري ومعرفي تنويري أضاء للمغاربة وللعرب ولعموم المثقفين في العالم (باعتبار أنها كتبت باللغة الانجليزية عددا من كتاباتها). وهي مبادرة تنضاف لمبادرات أخرى مثل الموافقة على اقتراح فريق مستشاري فيدرالية اليسار الديموقراطي في جماعة أكدال/الرياض تسمية أحد شوارع الجماعة باسمها. إنها مناسبة للتأكيد على أهمية هاته المبادرات وغيرها، بما يجسد ثقافة الاعتراف برموز الثقافة والفكر، بما يساعد على تجاوز ما نعانيه من نقص فادح على هذا المستوى، في انتظار أخرى ليس أقلُّها التفكير في مؤسسة تحمل اسمها.

رحم الله الأستاذة فاطمة وأجزل لها الثواب في الأعالي وخَلَّد ذِكْرها في العالمين.