وتصف صحيفة "هيرالد" الأثيوبية، مدعمة ذلك بالصور، كيف أن الآلات العملاقة "قد أحيت الأرض القاحلة في صحراء جوبا"، قبل عدة أشهر، من أجل إقامة السد الذي من شأنه أن يوفر للدولة الكثيرين فرص العمل.وأزمة نهر النيل بين أثيوبيا ومصر هي ليست بالأمر الجديد؛ فبالنسبة لأثيوبيا يشكل استغلال مياه النهر قضية استراتيجية ذات أهمية بالغة، وبعد أن يبدأ السد الجديد بالعمل، الأمر الذي سيتم على ما يبدو في عام 2017، فإنه سيمكن أثيوبيا من تخزين المزيد من مياه النيل على حساب مصر والسودان.وكما هو متوقع، فإن الأمر سيثير الكثير من المخاوف لدى هاتين الدولتين. وعلاوة على ذلك فإن البرلمان الأثيوبي قد أقر عام 2013 معاهدة تقضي بتقليص حق المصريين في استخدام مصدر المياه موضوع البحث.وقد وقّعت أربع دول إفريقية أخرى على الوثيقة وحولت القضية إلى موضوع جيو- سياسي من الدرجة الأولى في القارة الإفريقية، ووصفت السلطات الأثيوبية معارضة مصر بـ "أحلام اليقظة".
الروس قادمون
في مصر، وهي دولة تعاني من شح الأمطار، يشكل نهر النيل قضية هامة جداً في بلورة سياستها الخارجية والداخلية، وفي الشهور الأخيرة ضربت مصر موجة جفاف قاسية، من بين الأقسى في تاريخها، أدت إلى انحسار كبير في مستوى مياه نهر النيل، وحاول المصريون دائماً استجرار كميات كبيرة من المياه إلى أراضيهم، ويشكل بناء سد أسوان خلال الستينيات نموذجاً واضحاً على هذه السياسة.وتتفاقم مشكلة نقص المياه في مصر من سنة إلى أخرى، فنهر النيل، الذي تتبخر مياهه بوتيرة متسارعة ومتزايدة جداً في كل عام، لا يفي بكمية المياه المطلوبة سنوياً لسد أسوان. وعلى الرغم من أن سكان البلد في ازدياد، فإن المناطق الزراعية في مصر هي في حالة تراجع، وكان الرئيس أنور السادات صرح في السبعينيات بأنه "يفضل أن يموت الجنود في ميادين القتال الأثيوبية على أن يموتوا من العطش في بلدهم". وفي فترة رئاسة محمد مرسي وصل النزاع إلى ذروته؛ ففي صيف 2013 قال مرسي صحيح إنه غير معني بحرب مع أثيوبيا إلا أن "القاهرة لن تسمح بتطبيق الاتفاق لتغيير تقاسم المياه والذي وقعت عليه كل من رواندا وتنزانيا واوغندا وكينيا وبوروندي"، وأضاف مرسي مهدداً "إننا نترك كل الخيارات مفتوحة. ونحن لا نعارض إقامة مشاريع في حوض النيل لكن شريطة إلا تؤثر على الحقوق التاريخية والقانونية لمصر". وبعد مفاوضات طويلة اجتمع في شهر آذار/مارس 2015 زعماء مصر وأثيوبيا والسودان في العاصمة السودانية الخرطوم من أجل التوقيع على اتفاق يسمح لأثيوبيا ببناء السد مثار الخلاف، وقد عارضت مصر الاتفاق وذلك بذريعة أن المشروع سيُلحق الضرر بإمدادات المياه الخاصة بها من النهر.أما الرئيس السوداني عمر البشير فقد صرح خلال التوقيع على الاتفاق أن الحديث يدور عن "اتفاق تاريخي"، وأنه "لن يضر بمصالح الدول الأخرى عن طريق استخدام المياه". لقد حدد الاتفاق تفاصيل إكمال لسد، ونقل صلاحية دراسة تأثيراته المستقبلية على تقاسم حصص المياه إلى شركتين فرنسيتين هما BRL وارتيليا، إلا أنه وعلى الرغم من التوقيع الاحتفالي على الاتفاق فإن المصريين لا يثقون بتقارير الشركتين الفرنسيتين، وهم يحاولون الابتعاد عن المبادرات الإقليمية الآتية من باريس.وفي مقال نُشر في صحيفة "جيروزاليم بوست" تحت عنوان "الدبلوماسية المصرية تقصي فرنسا من المنطقة" جاء أن المصريين يريدون أن يقودوا المنطقة ولذلك هم يريدون الابتعاد على النفوذ الفرنسي وأن يعيدوا الدفء إلى علاقاتهم مع روسيا. وبالفعل فإن الروس ذاهبون للاستفادة من هذه الخطوة بشكل كبير جداً، فقد وقعت القاهرة منذ وقت قريب على اتفاق مع روسيا لبناء مفاعل نووي في منطقة الضبعة، الواقعة على شاطئ البحر الأبيض المتوسط. وهذا هو مشروع قومي ضخم جداً، والذي كان قد تم تأجيله لسنوات طويلة بسبب تعهدات مصرية للولايات المتحدة الأمريكية، والمفاعل الجديد سيقوم بتزويد قسم كبير من الكهرباء التي تستهلكها مصر.وقد أدرك الروس أن الكهرباء التي ينتجها سد أسوان ستتراجع في أعقاب بناء السد الجديد. وليس من قبيل الصدفة أنهم اقترحوا على المصريين تقديم الدعم للانتقال التدريجي إلى الطاقة النووية، واستثمروا أموالاً طائلة لبناء المفاعل النووي المزمع تنفيذه قريباً.ووفق ما جاء في مقال كتبه تسفي بارئيل في صحيفة هآرتس فإن "المشروع سيُشغل حوالي 20 ألف عامل خلال فترة بنائه، وحوالي أربعة آلاف عامل لصيانته وتشغيله بعد اتمامه". وهذا رقم كبير بالنسبة لدولة فقيرة يُطلب منها في كل عام توفير حوالي مليون فرصة عمل، والتي تواجه نسبة بطالة تصل إلى حوالي 13% بين مجمل السكان، وإلى 23% بين الشباب. وباختصار فإن روسيا تتحول لتصبح ضمانة الأمن الاقتصادي والعسكري لمصر. لقد استُقبل الرئيس بوتين استقبالاً حافلاً في مصر في بداية عام 2015. ومن فترة قريبة كان ضيف الشرف في حفل افتتاح قناة السويس الجديدة، ووقع على اتفاق لإقامة منشأة نووية جديدة في مصر. والصفقة التي تقدَّر قيمتها بحوالي 3 مليارات دولار، والتي جرى التوقيع عليها بين روسيا ومصر بعد أن دُفعت قيمتها من قبل الإمارات، ضخت الكثير من المال في الاقتصاد الروسي الذي يعاني من العقوبات الاقتصادية الغربية. كما وقع الروس والمصريون على العديد من الاتفاقات في مجال الغاز الطبيعي، وتم الاتفاق أيضاً على أن يقوم الروس ببناء منطقة صناعية روسية على امتداد قناة السويس. ووصل العائد التجاري عام 2015 إلى 5.5 مليار دولار، وهو ما يساوي زيادة بنسبة 86% مقارنة بعام 2013. نتنياهو يحل محل دحلان
لقد كان لهذه التطورات تأثيراً دراماتيكياً على الدبلوماسية الإقليمية. فما هو السبب الذي حدا بالرئيس المصري عبد الفتاح السيسي لإرسال وزير خارجيته سامح شكري إلى القدس، وبالذات الآن، بعد أن عاد بنيامين نتنياهو من أثيوبيا؟ وهل تم هذا بالصدفة؟ إن الجواب واضح: فالسيسي يريد أن يضغط على رئيس الحكومة الأثيوبية عبر إسرائيل وذلك ليحقق شروطاً أفضل في صفقة "سد النهضة". وكما كتب تسفي بارئيل في هآرتس فإن "مصر تقدر بأن إسرائيل تمتلك عوامل نفوذ على أثيوبيا، وأنه إذا لم يكن بمقدورها (إسرائيل) منع إقامة السد فإن بوسعها، على الأقل، التأثير عليها لتنسيق تقاسم المياه مع مصر بشكل لا يضر باقتصادها". والأثيوبيون غاضبون على المصريين، وحتى أن رئيس حكومة إسرائيل، الذي أرسى علاقات طيبة مع أثيوبيا، يستطيع أن يعمل كوسيط بين الدولتين. والتوقيت هام جداً: إذ يُفتتح اجتماع "مؤتمر وزراء خارجية دول حوض النيل" يوم الخميس (21 / 7 / 2016) في أوغندا. وقد ترك نتنياهو وراءه في أوغندا أرضاً صالحة لتقدم المفاوضات، وحرص على ألا تتضرر المصالح المصرية من بناء السد. كما أن الاقتراح المصري لمؤتمر السلام الإقليمي له علاقة بذلك: فهذا الاقتراح جاء لتحييد المبادرة الفرنسية وتحجيم نفوذها في المنطقة. وفي المحور الإقليمي الجديد الناشئ هناك الكثير لما يمكن لمصر أن تربحه من علاقات جيدة مع إسرائيل، على حساب الفلسطينيين. حيث كان محمد دحلان، من حركة فتح، قد توسط في عام 2015 بين كل من مصر وأثيوبيا والسودان. أما الآن فقد سُحبت مهمة الوساطة من دحلان وأعطيت لإسرائيل. ويعتقد الكثيرون أن مصر تقدم ضريبة كلامية للسلطة في غزة، وأنه لن تقف بحزم وراء فكرة دولتين لشعبين.وحتى وإن لم تستطع مبادرة السيسي للسلام الإقليمي الصمود فإنه بوسع إسرائيل أن تتوقع أن يبقى السيسي حليفاً لها في كل ما يرتبط بحركة حماس في قطاع غزة، وفي ما يتعلق بالحرب ضد داعش الذي يواصل توسيع سيطرته في سيناء. والعدو الواضح من وجهة نظر السيسي يكون هو العدو الواضح. وهنا، يوجد لمصر الكثير مما يمكن أن تربحه من الشراكة مع إسرائيل، وليس مع فرنسا المكلومة. ترجمة: مرعي حطيني