السـفير ابراهيـم يسري
يشير تتابع التطورات السياسية والاستراتيجية والاجتماعية التي يمر بها عالمنا في القرن الواحد و العشرين إلي أن النظام الدولي والعلاقات بين الدول الكبيرة والصغيرة وبين الدول الغنية والفقيرة يخضع لمرحلة تشهد تطويرا جذريا بعد فشل نظام يالتا سان فرانسيسكو الذي شهد صياغة ميثاق الأمم المتحدة.
ولما كان أي تغيير جذري يتوقف علي ادراك الدول الكبري (أمريكا و اوروبا و روسيا ) وفي مقدمتها الولايت المتحدة الامريكية كاقوي واغني دول العالم و اكثرها تاثيرا ونفوذا ، فقد تابعت مقالات وابحاث معاهد البحث في العالم الغربي باهتمام خلال العام الماضي والتي تستشرف ضرورة رسم سياسة امريكية جديدة في الشرق الأوسط والعالم كله خاصة لوضعها أمام الادارة الامريكية القادمة بعد اوباما، ولسنا نحلق في الهواء عندما نستشرف بوادر هذا التغيير المرتقب.
فعلي مر العصور اتسمت السياسة الخارجية الامريكية بالمرونة وفقا لتغير التوازنات العالمية للحفاظ علي المصالح الأمريكية وتامين وضعها كاقوي دولة في العالم. واقرب وصف لضرورة هذا التغيير هو ما كتبه ريتشارد هاس ومارتين اينديك و السفير الأمريكي السابق كارلوس باسكوا:
The international order created by the United States today faces challenges greater than at any time since the height of the Cold War…
None of these threats will simply go away. Nor will the United States be spared if the international order collapses, as it did twice in the 20th century. In the 21st century, oceans provide security.
Nor do walls along borde.strategies to sustain the present international order are much the same as the strategies that created it….
وشارك في هذه الأفكار كتاب وخبراء معروفين مثل Joseph I. Lieberman: وFred Hiatte و Joseph S. Nye Jr و Jackson Diehl وJeffrey Goldberg وCharles Glassو Gareth Porter
فضلا عن الاستراتيجيين التقليديين مثل كيسنجر و بيرززنيسكي وغيرهم.
وقد يساعدنا استشراف هذا التوجه ما تتسم به السياسة الامريكية التقليدية من مرونة، فمنذ مبدأ الرئيس مونروسنة 1823 بالحد من نفوذ اوروبا في امريكا اللاتينية، الذي نادى فيه بضمان استقلال كلِّ دول نصف الكرة الغربي ضد التدخل الأوروبي، والذي طوره روزفلت الي سياسة العصا الغليظة التي ادخل أمريكا في مستنقع التناقضات والحروب التي خاضتها أوروبا بعد ان تبين لهأنَّالدولالأوروبية لها ما يبرِّر مُحاولتها حماية أرواح مواطنيها وممتلكاتهم، لمواجهة الإتحاد السوفييتي فيما سمي بالحرب الباردة و استراتيجية الردع.
وفي وقتنا الحالي استشرف الكثير من كبار الكتاب و السياسيين ومعاهد البحث الحاجة الي تغييرات ملموسة مع قدوم الادارة الآمريكية الجديدة بعد انتهاء ولاية الرئيس باراك اوباما .
ولن نتطرق هنا الي النقد الذي وجه لسيلسة الرئيس اوباما و التي وصفها البعض بسياسة الانسحاب من المسرح الساسي العالمي وخروجه عن المؤسسية و عن خروجه عن الكتاب السياسي الامريكي American playbook وهو نقد غير منصف في بعض جوانبه ،
ومع ايمان عميق بأنه حان وقت التغيير في السياسة الأمريكية ألا انني اتطرق الي معني آخر للتغيير ، فبينما تعالج المقالات و البحوث الغربية التغيير بمعني التاهب الأمني واستخدام القوة لكل من يهدد مصالحهم دون بذل جهد حقيقي في استيضاح الدوافع غير الإجرامية التي تدفع الي ارتكاب هذه الاعتداءات .
و لعلنا نعترف هنا بأن النظام العالمي الجديد الذي اتفق علي شكله في يالتا وفصله ميثاق الامم المتحدة في سان فرانسيسكو الذي تضمن مبادئا مبهرة و نبيلة في ادارة العلاقات الدولية أهمها تحريم استخدام القوة و احترام سيادة الدول ووحدتها الاقليمية وخص في فصله السابع مجلس الأمن في استخدام القوة لدفع العدوان بواسطة قوة دولية توضع تحت تصرفه وهو ما لم يتم حتي الآن.
ومن الواضح أن هذا النظام قد شاخ و فشل في ادارة الدولية بسبب حق الاعتراض او الفيتو الذي احتكرت به خمس دول اسلوب التعامل مع الافعال التي تهدد السلم و الأمن الدولي الأمر الذي فرض عليه الحصول علي موافقة القوي الخمس ذات المقاعد الدائمة. والذي تفادته الولايات في مواجهة الازمة الكورية باستصدار قرار الاتحاد من أجل السلم الذي يخول الجمعية العامة اختصاصات المجلس اذا أعجزه الفيتو عن ممارستها.
وترتب علي الانتهاكات الصارخة للميثاق و استخدامه لحماية مصالح الدول الخمس بالمجلس بالتحالف مع الدول الغنية G7 مما يتضمن انكارا بشعا لحقوق و مصالح الدول الصغيرة و الفقيرة بحيث تزداد الدول الكبري ثراءا و تعاني الدول الصغري من مشاكل الفقر وعدم التنمية مع استمرار الاستيلاء علي مواردها باسعار زهيدة و تصنيعها و بيعها بارباح كبيرة.
واستمر هذا الوضع ما يجاوز نصف قرن الي أن ظهرت مساوئه في الفوضي الضاربة بالمشرق من أفغانستان للعراق لسوريا للبنان لمصر لليبيا ، والي هجمات باريس و نيس و بلجيكا والمانيا واحداث تكساس واورلاندو و فيلادلفيا و قبلها 9/11 في امريكا وانفجارات المترو السابقة في بريطانيا واسبانيا، بل بلغ الأمر إلي مغامرة تدفق مئات الالوف من الدول الفقيرة و المضطربة الي اوروبا بطرق غير مشروعة مما اثبت أن أمن أوروبا لا ينفصل عن أمن دول الشرق الأوسط و افريقيا، وتعاصر ذلك مع عودة الممارسات العنصرية في امريكا.
ومن المهم أن يؤخذ في الإعتبار الاتجاهات الخطيرة التي عبر عنها دونالد ترامب المرشح الجمهوري والتي تتبني أفكار العصا الغليظة التي نادي با روزفلت في علاقاتها الخارجية ولكن مع اعادة النظر في العلاقات مع اوروبا و حلف الاطلنطي و الدول الآسيوية الغنية و الغلو في تأييد اسرائيل والاعتراف بالقدس عاصمة لها، وفي الداخل تتخذ مواقف عنصرية وعداء شديد ضد الاسلام ووقف الهجرة و بناء اسوار لحماية امريكا و أكثر من هذا يعد بحماية الشذوذ الجنسي بكل حالاتهLGBT ويكرس تفوق و استعلاء الجنس الأبيض علي غيرها .و علي الجانب الآخر لا تدعو هلاري كلينتون المرشحة بتغييرات هامة أو جذرية في الداخل و الخارج و يؤكد التزامها بالسياسة المؤسسية الأمريكية.
ومن المثير أن القادر و الواعد بتغييرات جوهرية في السياسة الأمريكية هما دونالد ترامب و المرشح الديموقراطي بيرني ساندرز الذي ينحدر من أصل يهودي و لكن صلاته ضعيفة بالصهيونية الأمريكية وعلي رأسها الايباك بل اشيع أنه ملحد وهو الوحيد منذ أمد طويل الذي تبني دعوة ويليام سكرانتون بانتهاج سياسة متوازنةEven Handed Policy بين اسرائيل و العرب كما ينادي باصلاحات اجتماعية متبنيا سياسة ذات مضامين اشتراكية والذي ايده نحو عشرة ملايين مواطن أمريكي، ولكنه لم يلق قبولا من المؤسسية السياسة الامريكية.
ولعل امريكا بقوتها العسكرية و استقلالية نموها الاقتصادي هي الدولة الوحيدة القادرة علي اقناع اوروبا بالخروج من دائرة موروثها الاستعماري والاستغلالي وان ذلك سيعود عليها بمزيد من المكاسب و يؤمنها من طوفان الهجرة غير الشرعية و يحقق أمنها .
خلاصة ما تقدم هوالادراكبعجز نظام يالتا سان فرانسيسكو و استفحال استـــغلال الدول الدول الكبري ،في القرن الواحد والعشرين بعد ثورة الاتصالات والتقدم العلمي، مما يستتبع اصلاح النظام الحالي او ابتداع نظام جديد يتفادي السلبيات الحالية.
وأظن أن الولايات المتحدة هي القادرة علي ابتداع سياسة جديدة للتعامل مع العالم الجديد تستاصل بها جذور الاهاب بتفادي اسبابه و ذلك باعتبارها أقوي و أغني دول العالم دون المساس بمصالحها الحيوية، و لكن استطلاعات الرأي لا تبشر بخير بل قد نشهدا تطرفا شديدا و استعلاءا في استخدام أمريكا للقوة في علاقاتها الدولية.
ولعل أول ما يمكن به تحليل احتمالات التغيير هو أنها حبيسة السياسة الأوروبية بموروثاتها من الفكر الاستعماري القديم و التعصب الديني و العرقي و نظريات صراع الحضارات.
ونذكر بأن بريطانيا كانت قد استدرجت الولايات المتحدة باغراء توريثها النفوذ البريطاني بعد اتخاذ حكومة ادوارد هيث سياسة ما سمي شرق السويس التي تضمن سحب قواتها من قواعدها الآسيوية وخاصة في الخليج مطمئنة لحلول امريكا محلها وانتهي الأمر باقامة قواعد بحرية و جوية في بعض دول الخليج التي جلت عنها بريطانيا في السبعينيات بعد ان قسمتها واختارت حكامها .
ونتصور استخلاصا من العرض السابق فإن الضروريات التي نراها للإصلاح من وجهة النظر العربية والصغيرة تتمثل في خروج السياسة الأمريكية والأوروبية من سيطرة الفكر الاستعماري الذي عمل علي السيطرة بالقوة العسكرية علي العالم ما يراوح ثلاثة قرون ساد فيه نهب ثرواتها و اضعافها وضمان تبعيتها لها.
وعلي هذه الخلفية نري أن العالم في القرن الحالي في حاجة تغيير ملحوظ في العلاقات الدولية حتي لو تضمن القليل من العدل والتنمية لكي يحظي بالسلام و التعاون بعد تزايد الادراك باننا نعيش في كوكب واحد. علي ضوء ما أثبتته حروب الشرق الأوسط من تدفق النازحين غير الشرعيين الي اوروبا مما سبب لها الكثير من المشاكل والمخاوف التي تتصل بأمنها فضلا عن تدفق الافارقة المنتظم متذ أعوام.
وقد ترسم الأفـــكار التالية بدايات ف ادراك أهمية التغيير الناجز في السياسية الدولية:
اقلاع الدول الكبيرة عن استخدام القوة أو التهديد بها ومنع الدول الصغيرة من ذلك ووضع اساليب وصياغات فعالة لذلك وهو مبدأ مقرر في ميثاق الأمم المتحدة الحالي.
أن تدرك الدول الغنية G7 أن الوقت قد حان لتوسع الشراكة في المشروعات الاقتصادية الدولية مع الدول الفقيرة، وأن لا يقتصر الأمر علي منح معونات مالية واجتماعية رمزية والبدء في مساعدة الدول الفقيرة في بناء تصنيع اصيل يتعدي التصنيع الاستهلاكي الذي يدعم استمرار سيطرة الدول الغنية واستغلالها.
كما أن علي الدول الكبري العدول عن سياسة تنصيب وتاييد الحكام الدكتاتوريين والعسكريين الذين يخضعون لنفوذها، وألا تقف في وجه الاصلاحات الديموقراطية التي ستساعد علي تعزيز استقرار وأمن العالم بأسره.
كاتب مصري