الكاتب / د.مظهر محمد صالح
ا-مدخل: اثارت بريطانيا ومنذ انتمائها الى الاتحاد الاوروبي في العام 1973 قضيتين اساسيتين ادت في نهاية المطاف الى ترجيح كفة دعاة الانفصال عن الاتحاد الاوروبي، الذي اكده استفتاء 23 حزيرن 2016 والذي اشرته قضيتان رئيسيتان شكلتا جوهر موضوع الانسحاب وهما:اولاً ان قوة الاتحاد النقدي الاوروبي الذي ظلت بريطانيا بعيدة عن الاندماج في تلك الوحدة النقدية الاوروبية ادى الى اضعاف القدرة التنافسية للاقتصاد البريطاني وغلبة كفة المجموعة الاقتصادية لدول (منطقة اليورو) وان هذا الامر نجم بالغالب عن غياب التنسيق والتناغم الحقيقي بين السياسة النقدية للبنك المركزي الاوروبي والسياسة النقدية لبنك انكلترا وبلوغهما مرحلة ما يسمى بالتمانع المتبادل وثانياً يتمثل موضوع الانسحاب بمشكلة تدفق المهاجرين غير الشرعيين الى الجزر البريطانية عبر اوروبا ،اذ يُقدر عددهم اليوم قرابة المليون مهاجر وما يترتب عليه من مشكلا ت اجتماعية وعرقية وتنافس غير مشروع في سوق العمل البريطانية. واللافت ان ذلك الانسحاب بات متوافقا مع مطالب اجزاء اخرى من اوروبا بالانفصال عن الاتحاد الاوروبي نفسه ،بل وبدأت تفجر اشكالات دستورية واقتصادية ومؤسساتية سلبية رتبها الاستفتاء آنفا.وازاء النزعة اليمينية التي يقودها المحافظون بالانسحاب من الاتحاد الاوروبي والتي تؤيدها قوى اليمين الاوروبي و الامريكي علانية ، قد جعل من فكرة الكتل الاقتصادية الموحدة الكبرى وتطبيقاتها الراهنة ومستوى ارتباطها بتطور الراسمالية تحت مطرقة التفكيك ،بل ان العولمة الراسمالية المركزية نفسها غدت متخمة بفخاخ الشك واللايقين . فلاغرابة ان نشهد اليوم انطلاقات جديدة لمفهوم الدولة-الامة او الدولة-القومية تقودها قوى اليمين في الغرب الراسمالي بدلاً من الدولة-السوق ،فضلا عن الترويج للحركات العنصرية ضد المهاجرين من الشعوب الاخرى الى المركز الراسمالي الغربي والذين ينعتوهم بالغرباء، رافضين التعددية المجتمعية والانسجام الثقافي والحضاري بين البشر.فعلى الرغم من ان العصر الذي نحياه هو عصر المعلوماتية (اي الثورة التكنولوجية الرابعة-الثورة الرقمية والجينية) وهو بحق عصر التواصل السريع بين البشر داخل الدول والمجتمعات والشعوب. الا ان اشكالية التواصل الاقتصادية والمجتمعية داخل المنظومة الراسمالية العالمية على الرغم من سرعة وشائج علاقاتها،فانها لاتعني ان العالم قد غدا منصهراً في بودقة القرية الاقتصادية والمجتمعية الصغيرة، بل ان ثمة (اغتراب) مجتمعي خطير يمتلك حواجز وفواصل وقيود مضنية وسميكة يفرزها النظام الراسمالي نفسه وباستمرار وهي اقوى من الحدود السياسية بين الدول.
فقدرة التواصل من الناحية التاريخية بين مناطق العالم، سواء بين الراسمالية المركزية في عهودها الماركنتالية او التجارية القديمة والبلدان المحيطية كالمستعمرات وغيرها ، قد اُطلق عليها بالعولمة القديمة .وهي في حقيقة الامر ليست عولمه بل هي نمط انتاج وعلاقات انتاج ووشائج وترابطات غير متكافئة داخل النظام الراسمالي العالمي ليس الا. ففقدان التجانس الاقتصادي والتكنولوجي وتكافوء القوة والثروة بين مركز الراسمالية وبلدانها المحيطية منذ نشوء التراكم الاولي لراس المال لايمثل سوى دورة حياة النظام الراسمالي الساعي الى الربح وتركيز الثروات وتحويلها الى المركز الغربي مهما تبدلت مراحله وتغيرت ثوراته التكنولوجية الاربعة المتعاقبة. وبين الحقيقة والوهم،يبقى التساؤل القائم :هل ان الراسمالية المعولمة هي شيءٌ جديد ام مستحدث ؟ يلحظ انه حالما وجدت الراسمالية (بظهور الملكية الخاصة لوسائل الانتاج ونمط وعلاقات الانتاج الملازم لها) فانها اخذت بالانتشار عالمياً.فالملاحون البحريون الذين قهروا المحيطات وواصلوا رحلاتهم من القارة الاوروبية باتجاه القارات الاخرى في القرنين الخامس والسادس عشر هم في حقيقة الامر قد رسموا خارطة الطريق لانتشار الراسمالية االتجارية كما يقول جيمس فولجر (في كتابه الموسوم :الراسمالية /اوكسفورد 2015 ) حيث انهم هيأوا سبل انتشار تلك الراسمالية الماركنتالية عالمياً.فالمثال على ذلك هو تطور التجارة الاطلسية البحرية الثلاثية الابعاد. اذ ابتدأت بصيد العبيد من على شواطيء غرب افريقيا و تولت نقلهم كقوة عمل منتجة مباعة في حقول ومزارع القارة الامريكية او منطقة البحر الكاريبي ،ولم تعد تلك السفن البحرية الى اوروبا الا وهي محملة بالسكر والخمور والقطن كثمن للعبودية وقيمة ما قام بانتاجه اولئك الرجال والنساء المستعبدين .في حين اسهمت ثورة الاتصالات الاولى في القرن التاسع عشر من خلال اكتشاف الهاتف وقوة الاتصالات التي حطمت المسافات البعيدة واسهمت في توليد نمط من التشابكات والعلاقات والاواصر التجارية والاقتصادية والبشرية ربما لا يختلف عن توجهات العولمة الحالية ، رافقها تطور هائل في النقل بالسفن والقطارات من خلال اتساع استخدام قوة البخار باستعمال الوقود الاحفوري لتحريك دواليب السفن والقطارات وجعل نقل البضائع التجارية والمواد الخام من القارات البعيدة الى اوروبا وامريكا اكثر يسرا واقل كلفة في القيمة والوقت.
وبهذا لم يختلف واقع النظام الراسمالي عبر تطوره كظاهرة ذات وشائج وصلات مع مناطق العالم البعيدة منذ العصر الماركنتالي خلال تفكك القرن الوسيط وحتى الوقت الحاضر لكي يستمر التساؤل نفسه:هل الراسمالية هي ظاهرة معولمة بالطبيعة؟ يمكن القول ثانية ان عبارة الراسمالية المعولمة غدت المنطلق او المكان المشترك الذي على اساسه تعيد الراسمالية انتاج نفسها وصياغة اسسها ومنطلقاتها.فالمبالغ العملاقة التي تتدفق حاليا متنقلة بين اسواق العالم والتي تقدر ب 5 تريليونات دولار يومياً هي واحدة من ظواهر هذه العولمة.في حين تمارس الشركات المتعدية الجنسية والمتعددة الجنسية ادارة نشاطات انتاجية في بلدان مختلفة تنتهي بتكامل المنتج الواحد في منطقة مختلفة من العالم.كما ان اسواق السلع والخدمات وكذلك اسواق عوامل الانتاج(العمل وراس المال) تتحد في توليد الانتاج على نقطة جغرافية واحدة بالرغم من تباعد المسافات بينها. هذه هي الحقائق التي تغلف الراسمالية المعولمة وتؤثر في حياة الناس يومياً. ومع ذلك، هنالك الكثير من الاوهام التي تغلف فكرة العولمة الراسمالية نفسها.لذا فان انسحاب بريطانيا من تشابكاتها وروابطها الاوروبية هي المسالة التي تجعلنا ان خوض في مفهوم يسمى باوهام العولمة بدلاً من حقائق العولمة.
2-الراسمالية المعولمة: الحاضر والمستقبل ،على الرغم من ان الراسمالية المعولمة جاءت تعبيراً مختصراً لمفهوم شاع تداوله في العقود الاخيرة من القرن العشرين ليجسد لنا بان المؤسسات الراسمالية و تطبيقاتها قد انتشرت على مساحات جديدة من العالم وادت الى ربط اجزاء بعضها البعض بطرق مبتكرة قادت الى تحولات في العالم نفسه الذي نعيشه اليوم، وان الراسمالية غدت نظاماً سائداً و مستمراً في المدى المستقبلي المنظور.،لكن الراسمالية نفسها مازالت تغرق بالاوهام النافية لعولمتها وعلى وفق الاتجاهات الموضوعية الاتية:
الوهم الاول: ترى الراسمالية المعولمة انها ظاهرة حديثة العهد ترتبط( بالعصر الرقمي -عصر المعلوماتية) في حين ان الراسمالية هي ظاهرة عالمية منذ نشاتها وارتبطت تشابكاتها الجغرافية بمختلف القارات والمناطق التي كانت ومازالت تعيش عصر ما قبل الراسمالية بسب تفوقها التكنولوجي سواء باستخدام وسائل النقل البحري والنقل بالقطارات وظهور الهاتف و تطور وسائل الاتصال في القرن التاسع عشر او استخدام الانظمة الرقمية في القرن الحادي والعشرين.فهي راسمالية منجذبة نحو بؤر المصالح وليس نحو الاندماج المعولم بالضرورة. وعلى هذا الاساس ظل تطور الراسمالية المركزية منفصلاً عن محيطه المتعثر ،سواء على الصعيد المؤسسي او الانمائي .وان التفرقة مازالت واضحة للعيان بين اقتصاد العالم الاول المتقدم و اقتصاد العالم الثالث المتخلف حتى اللحظة.
الوهم الثاني: تدعي الراسمالية المعولمة بانها وفرت تدفقا لرؤوس الاموال على الصعيد العالمي.ولكن حقيقة الامر ان رؤوس الاموال المتمثلة بالاستثمار الاجنبي المباشر والمتصدي للقطاعات الحقيقية هو مازال متركزاً و بنسبة 70بالمئة في الاقتصادات المركزية الكبرى نفسها وتحديداً في قطاع الخدمات المتقدمة كشركات التامين والمصارف والاتصالات و غيرها والتي تُسهل جميعها قوة الترابط والتعامل داخل المجموعة الراسمالية المركزية التي لايزيد عددها اليوم على 20 بلداً غنياً جاذبة للاستثمار الاجنبي المباشر. في حين ترتخي الراسمالية المركزية المعولمة حتى مع محيطها الاقرب لها (اي اوروبا المركز/كالمانيا على سبيل المثال لاتعني اوروبا المحيط/ كاليونان). وهذا هو جل الصراع ومصدر الفزع الاوروبي ومخاوفه من انسحاب بريطانيا كراسمالية مركزية من النادي الاوروبي.وخوف العولمة الراسمالية المركزية من فقدان وجودها تدريجياً.
الوهم الثالث: هو انقسام العولمة وتحيزها الى المركز الراسمالي الصناعي الام بدلا من كونها متعددة الاطراف مع محيطها الابعد. فلا تختلف ازمة اسواق الطاقة اليوم كثيرا عن ازمة اسواق المال في الماضي القريب عند تعرضهما للاخفاقات السعرية المؤثرة في إستدامة النمو والاستقرار الاقتصادي . فانهيار الاسواق المالية العالمية في ازمة العام 2008لاتختلف في آثارها السلبية على النشاط الاقتصادي في بلدانها عما تتعرض اليه اسواق الطاقة من انهيارات سعرية منذ منتصف العام 2014 وحتى الوقت الحاضر وأثر ذلك في تفاقم الضائقة الاقتصادية التي تتعرض اليها البلدان المنتجة للنفط في الوقت الحاضر. فمازال المدافعون عن الراسمالية المعولمة يرون فيها الحل الوحيد في التصدي للمشكلات الاقتصادية العالمية الخطيرة كالتلوث والفقر والامراض وسوء التغذية وتزايد المجاعة .وان ثمة مليار انسان حول العالم يعاني قلة حصوله على المياه النظيفة.وطالما ان المشكلات الاقتصادية و غيرها لاتحل نفسها بنفسها ،فأن واحدة من المصاعب التي لايمكن تخطيها في عالمنا اليوم (كالتقليل من استخدام السيارات وفتح الحدود امام التجارة الدولية او تحسين الصحة العامة ومواجهة الامراض المزمنة التي تحيط بنا على سبيل المثال) والتي لامناص من مواجهتها وإحتوائها بكونها من النواقص والعيوب التي لاتلائم اخلاقيات ومباديء عصر العولمة. فبالرغم من ذلك يبقى التساؤل المهم:هل العولمة متحيزة في سياساتها و تعمل من طرف واحد لمصلحة المركز الراسمالي في مواجهة مشكلات الاقتصاد العالمي ولاسيما المحيطية منها ؟ كلنا يتذكر انه عندما تعرضت المصارف وشركات التامين الكبرى في نيويورك الى سلسلة من الافلاسات والانهيارات المالية في مطلع خريف العام 2008 حيث اضطرت حكومة الولايات المتحدة بالتوجه الى البنوك المركزية في دول العالم المتقدم،ابتداءً من البنك المركزي الاوروبي في فرانكفورت وانتهاءً بالبنك المركزي الياباني في طوكيو وهي تحثهم على فكك مايسمى بفخ السيولة الذي كبل الاقتصاد العالمي ، وذلك عن طريق تعظيم الاصدار النقدي( في اطار ما سُمي بسياسات التيسير الكمي ) بغية تجنيب العالم مخاطر الركود والتدهورالاقتصادي عن طريق تدوير الائتمانات وتحريك عجلة النشاط الاقتصادي الدولي. ولاننسى المثال الشهير الذي ساقه الاقتصادي ( راندي إيبنك) في كتابه الصادرفي نيويورك في العام2009 والذي جاء تحت عنوان:إقتصاد القرن الحادي والعشرين،إذ يوضح راندي في مثاله ،مشخصا الاقتصاد المعولم في وقت الاًزمة، قائلاً:عندما تريد الضفدع الجلوس في إناء من الماء الساخن فأنها ستقفز حالاً خارج الاناء خشية موتها! ولكن عندما ترقد الضفدع مسترخيةً في إناء من ماء بارد ترتفع سخونته تدريجياً حتى يصبح شديد الغليان فان الضفدع سيطفوا ميتاً داخل ذلك الاناء.
فسكوت العولمة اليوم امام تدهور السوق النفطية ودخول مجموعة الدول النفطية في عجز في موازناتها المالية و موازين مدفوعاتها في وقت مازال معظمها يسترخي في اناء الركود والبطالة اوالعوزالشديدين دون ان تبادر الدول الصناعية بتقديم يد المساعدة العاجلة في مِنحٍ اوقروض ميسرة ولو عن طريق مايسمى باتفاقات التبادل النقدي
بمعنى ان تضع البلدان الصناعية ودائع كافية لدى مصارف البلدان النفطية لتستخدمها في سد احتياجاتها لمواجهة ازمتها المالية الراهنة ،اذا ما كانت العولمة متعددة الاطراف حقاً ام لا. بل على العكس فان صناديق الثروة السيادية لمجوعة البلدان النفطية الغنية هي مصدر صراع خفي بين المركز الراسمالي الغني والاغنياء الجدد من مناطق النفط الخام وغيره وهو امر غير مرغوب فيه ذلك بجعل المركز الراسمالي يحمل اكثر من هوية في تعريف الراسمالية المعولمة والسماح للاغنياء الجدد بتوليد هيمنة مركزية مصدرها محيط العالم غير المعولم.وخير من كتب عن ذلك هو( توماس بكتي) في كتابه :راس المال في القرن الحادي والعشرين، الصادر في العام 2009 ،عندما انذر بان العالم الراسمالي المركزي سيدفع جل ايجارات قطاع العقار في الحواضر الاوروبية كعوائد استثمارات صناديق الثروة السيادية التي يمتلك احدها على سبيل المثال امير من امراء النفط.!!! ولكن تتحدث العولمة المركزية عن مجموعات الفائض النفطي في صراعاتها المركزية ولم تاخذ بالاعتبار مجموعات العجز النفطي.
الوهم الرابع: يرى مناصرو الراسمالية المعولمة بانها الظاهرة التاريخية التي ستوحد العالم وتؤدي الى تكامله ،ولكن حقيقة الامر ان مزيداً من الانقسامات والانشطارات في الكيانات السياسية والاقتصادية تحدث اليوم في العالم.كما ان مزيداً من الانقسامات يشهدها العالم في انقسامه وتقسيمه على اساس التفاوت الاقتصادي واللامساوة والناجمة بالاساس عن تفاوت في الثروات والدخول.فالمكون الرئيس لعدم المساواة في الدخل العالمي (معامل جيني) عند مطلع الالفية الثالثة انقسم الى مجموعتين يطلق عليهما البرفسور داني كوا( من المجلس الاقتصادي الوطني الماليزي ) ب:قمم التوأم: فالمجموعة الاولى التي تضم 13 بالمئة من سكان العالم وتتلقى اقل من 50 بالمئة من الدخل في العالم ،تضم الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا واستراليا واليابان وتضم اكثر من 500 مليون نسمة حيث متوسط دخل الفرد السنوي فيها يقارب 12 الف دولار .اما المجموعة الثانية،التي تضم 42 بالمئة من سكان العالم ولكنها تتلقى 9بالمئة من الدخل العالمي،والتي تضم هذه المجموعة الهند واندونيسيا والصين وتتالف من ملياري انسان ونيف ،الا ان نصيب الفرد فيها من الدخل لايزيد على 1000 دولار الا قليلاً. وان 50 مليون شخص في العالم يحصلون على دخل سنوي يعادل دخل قرابة 3 مليارات شخص من فقراء العالم سنوياً.
الوهم الخامس و الاخير: ترى الراسمالية المعولمة بانها أعادت تنظيمها على اساس الدولة-السوق العابر للسيادة وليس على المستوى المحلي او الوطني.ولكن في ظل الانقسامات الدولية الراهنة والتي آخرها ظاهرة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوروبي او ظاهرة (بريكست) فان مبدأ الدولة-الامة او الدولة القومية مازال هو الاساس في تحديد هوية البلدان و توجهاتها ونشاطات تعاونها الانتقالي بين مختلف الامم الراسماية المركزية.
3-الراسمالية المعولمة:اعادة تشكيل
تتميز العولمة الراسمالية الراهنة بفارق واحد عن العولمة القديمة (التي تمثلها اوروبا حاليا) بكونها قوى متروبولية قديمة استمالت الى إقامة كتلة اقتصادية كبيرة معولمة قوية على مستوى المركز الراسمالي نفسه وعملت على اشاعة كتل اقتصادية متفاوتة القوة والتاثير في مجموعة البلدان المحيطية البعيدة او النامية. وهي ممارسة عملية لنظرية مستحدثة في تكوين التراكم العالمي وتدويره في اطار بناء كتل احادية كبيرة لمجموعة بلدان مركزية يطلق عليها بالراسمالية المعولمة مركزياَ (كالاتحاد الاوروبي).وان جل ما يميز الراسمالية المعولمة الجديدة في العقود الراهنة، هي ان مراكزها امست متصلة ببعضها كقوة جماعية مع محيطها العالمي ، مكونة بذلك عولمة مركزية قوية، مقارنة بالعولمة القديمة التي كان المركز المسمى: بالمتروبولتيان (لندن ،باريس، بروكسل…) يتصل بمحيطه منفرداً و تغلب عليه صفة العلاقة الاستعمارية وقت ذاك او ماكان يعرف بعصر الاستعمار.
تؤشر حقيقة انسحاب بريطانيا من الاتحاد الاوروبي(العاصمة المالية لاوروبا) واعادتها لاتفاقاتها وملحقاتها من قواعد تنظيمية وحقوق ملكية وحقوق العلامات التجارية وقوانين البيئة والتعريفة الكمركية مع 50 دولة ، بمثابة الخطوة الاولى نحو تشظي العولمة الراسمالية المركزية الاوروبية وبداية العودة الى نظرية المتروبولتيان القديمة للراسمالية المركزية المفردة .وان تسويغ هذه التوجهات ياتي من امرين مهمين وهما:
الاول:يؤشر الانسحاب البريطاني(بريكست) بان تفرد الاتحاد الاوروبي باعتباره نوعاً جديداً من انظمة الحكم الراسمالية المعولمة مركزياً وعلى فق بناء في الاقتصاد السياسي يسمى ب: <الدولة-السوق> يؤشر تاثيراً عميقاً على جميع الخاضعين لمظلته،وعلى الرغم من ذلك يبين التاريخ السياسي ان تطور صيغ سياسية جديدة نادراَ ما يمر بسلام وهو الامر الذي اشرته كاثلين مكنمارا في مقالها المنشور مؤخراً في مجلة الفورن بولسي في 2حزيران 2016 والذي جاء تحت عنوان :الديمقراطية الزائفة،موضحة بان الانقسامات بين اولئك الذين يتصورون حياة افضل في ظل الاتحاد واولئك الذين يخالفون ذلك يقود لا محالة الى خلق فجوة منطقية غدت واضحة بين انصار العولمة المركزية ممن شهدوا حياة افضل ومستوى اعلى من التراكم الاقتصادي وهم ينظرون الى المستقبل بامل، وبين اولئك الذين شهدوا حياة اقتصادية متدهورة ومستوى ادنى في بلوغ التراكم الاقتصادي المنشود.والثاني، بين حزن السيدة ميركل مستشارة المانيا التي عدت الانسحاب البريطاني ضربة موجعة للاتحاد الاوروبي،وبين صيحة القيادية في الجبهة اليمينية الفرنسية مارلين لوبان :النصر للحرية،فان الافاق تؤشر ثمة خروج عدد من الدول ومغادرتها الاتحاد الاوروبي ذلك لارتفاع معدلات النزعات القومية الشعبوية والتي تاتي لاسباب اقتصادية واجتماعية.اي مغادرة نمط الدولة- السوق ولاسيما سيادة سوق العمل المعولمة مركزياً ،الى الدولة –الامة وتكوين تجمع مركزي متروبولي راسمالي معولم اصغر او اكبر حجما مقارنة بالاتحاد الاوروبي . بعبارة اخرى خلق اقطاب جديدة للعولمة الراسمالية المركزية متجانسة في الارث الثقافي واللغوي والقومي ومتقاربة في السياسة الخارجية ازاء قضايا العالم .وربما سيكون المحور القطبي المركزي القادم والمنافس للاتحاد الاوروبي هو :العولمة الراسمالية المركزية الانكلو- سكسونية . اذ لم تخفىِ واشنطن قلقها الدائم من تعزيز مكانة المانيا داخل الاتحاد الاوروبي وخشيتها من ان تتصدر برلين تطويرها لقوة سياسية واقتصادية جديدة هي قيد الانشاء لتطوير الراسمالية المعولمة الاوروبية كقوة مركزية صاعدة. وبهذا فان الراسمالية المعولمة اخذت باعادة انتاج نفسها والتحول من النمط الاحادي المركزي والكتل الكبرى كالاتحاد الاوروبي الى النمط المتعدد المراكز وهي مرحلة مابعد بريكست .ذلك لطالما اعتبرت بريطانيا نفسها ولاسيما المحافظين فيها ،انها دولة اطلسية اكثر منها اوروبية ،متخذة سياسة اقتصادية وخارجية اكثر قرباً من الولايات المتحدة الامريكية.الا ان ذلك لم يكن يمنعها من التطلع الى تحقيق مصالح سياسية واقتصادية كبرى من خلال الانضمام الى النادي الاوروبي وعلى مدار اكثر من اربع عقود من ناحية وتعطيل قوة محور برلين-باريس من ناحية اخرى لمنع الهيمنة المركزية الفرنسية -الالمانية على القرار الاوروبي.
4-الاستنتاجات:
اولاً، ان الراسمالية تتجه في مرحلة مابعد بريكست الى عولمة نفسها مركزيا وفق نمط آخر يختلف عن العولمة التي سادت الاتحاد الاوروبي بكونها راسمالية ذات نمط مركزي عابر للقومية والاختلافات اللغوية والاثنية و لدرجة التفاوت في المقدرة الاقتصادية، بالتحول الى اقطاب من الراسمالية المركزية ذات التجانس اللغوي والثقافات المشتركة.وعليه يمكن ان نتوقع نشوء عولمة راسمالية مركزية على مستوى العالم الصيني وعولمة راسمالية مركزية انكلو سكسونية تضم انكلترا والولايات المتحدة وكندا واستراليا ونيوزيلاندا وغيرها.وربما تتطلع فرنسا الى عولمة الراسمالية الفرانكفونية مركزياً. ثانياً، اتاحت العولمة الراسمالية المركزية وما رافقها من حرية في التجارة والتحويل الخارجي وانتقال مرن في العمل وراس المال الى نشوء كيان هيلامي غير شرعي للعولمة الراسمالية المركزية وهي :العولمة الموازية .فالتحولات الشاذة في النظام العالمي ولدت اسواق موازية عابرة للسيادة والحدود (من مهربي النفط والخامات المعدنية وتجارة السلاح والرقيق والمخدرات وغسل الاموال وتجارة الاعضاء البشرية وطمر المواد الملوثة والمشعة) والتي تقدر عملياتها السنوية بنحو صار يزيد على 5 بالمئة من الناتج العالمي. اذ ولدت تلك العولمة الموازية كيانات سياسية مارقة ، تستخدم ايديولوجية عابرة للامم كالايديولوجية الدينية.فالكيان (الداعشي) الذي يدعي هيمنته على 37ولاية مزيفة في شتى بقاع العالم هو انموذوج لولادة ظاهرة شاذة اُسقطت من رحم العولمة الراسمالية المركزية كقوة منفلتة.بعبارة اُخرى جسدت داعش ظاهرة لتطور مشوه في النظام العالمي اتخذ من الدين ذريعة ايديولوجية للامتداد واختراق الحدود الرسمية للدول .ذلك لكون الدين ظاهرة عالمية تُسهل امتداده ليشكل نواة موازية لظاهرة العولمة المركزية والتي يمكن تسميتها اصطلاحاُ بالعولمة الموازية اللا مركزية.
ثالثا، ربما سيحل حلف شمال الاطلسي محل الاتحاد الاوروبي في العودة الى تجميع قوى عسكرية مختلفة الثقافات بفاعلية اوسع لإداء دورين :الاول: توليد مظلة عسكرية حمائية معولمة مركزية للقوى الاقتصادية الغربية القديمة كالاتحاد الاوروبي والحاق الجيش الاوروبي يسياساته وقراراته اللوجستية والعملياتية. والثاني،تفادي ولادة قوى حربية مستقلة جديدة ناجمة عن القطبية المتعددة للراسمالية المركزية تسمح باستخدام القوة للهيمنة على مناطق النفوذ الجيوسياسي في العالم او الصراع على الاسواق مجددا ومن ثم اعادة انتاج نمط مماثل للحربين العالميتين (الاولى والثانية) والتي كانت بسبب صراعات الراسمالية المركزية الميتروبولية الاوروبية واليابانية على اسواق العالم ونهب ثروات مستعمراته .لذا قد يتطلب ولادة جيش افقي نظامي معولم يمتلك اليد الطولى في قمع نشوب حروب افقية محتملة داخل المعسكر الراسمالي المركزي المعولم المستقبلي المتعدد الاقطاب. واخيرا، فقد ولدَت العولمة الموازية الراهنة حروباً عمودية النمط من خلال تكوين تشكيلات ارهابية مسلحة غير نظامية متمثلة بداعش التي تمتد ساحتها بين سوريا والعراق وشمال افريقيا والخليج العربي وصولاً الى المركز الراسمالي نفسه . ختاما، تقود القوات المسلحة العراقية (من الجيش والحشد الشعبي والبيشمركة والتشكيلات العشائرية الوطنية المؤتلفة) حربا عالمية بالانابة( و بنمط نظامي افقي) لتحرير بلدات العراق ومدنه لاعادة الاستقرار والامن الى النظام العالمي في مواجهة الارهاب الداعشي ذو (النمط العشوائي العمودي) الذي هو وليد العولمة الراسمالية المركزية وانفلاتها الى ظواهر موازية بايديولوجيات شاذة معولمة عابرة لسيادة الامم.
مرتبط