عندما يسعى المجتمع إلى النهوض بمستوى معيشة مواطنيه تنصب جهوده على الارتفاع بدخله القومى كمّا وكيفا وهو ما يتطلب العمل فى اتجاهين : أولهما فتح مجالات جديدة تسهم فى إضافة منتجات جديدة أو زيادة مقدار ما يجرى إنتاجه، عن طريق الاستثمار فى أنشطة ومشروعات، عامة أو خاصة، تساهم أيضا فى فتح فرص عمل جديدة تساعد فى تخفيف معدلات البطالة. أما الثانى فيركز على تطوير إمكانيات الموارد المستخدمة فى الإنتاج، ودعم قدرات مختلف المنشآت العاملة فيه ورفع إنتاجية عناصر الإنتاج، بما فى ذلك تعزيز البنية التحتية لتسهيل حركة الأفراد والمواد وخفض تكلفتها، وتوسع زراعى رأسى يزيد من إنتاجية الأرض، ودعم مهارات العمال والمديرين، وكذلك إزالة ما يكون قد تسبب فى تعطل طاقات إنتاجية وتعويض ما قد يكون استهلك من أدوات ومعدات. وكثير من هذه الأمور لا يتطلب استثمارات إضافية ولا يستغرق وقتا طويلا، فيخفف من أعباء فترة تشييد المشروعات الجديدة، بل وقد يساعد على رفع كفاءة تشغيلها.
لذلك كنت أبدأ حديثى عن الاستثمار بعبارة «الاستثمار شر لابد منه»: فالانشغال به قد يلهينا عن اتخاذ خطوات قليلة التكلفة سريعة العائد تعظم أهميتها فى المراحل الأولى للتنمية، خاصة إذا ساعدت على الحد من الإفراط فى الاستدانة بغرض سد نقص فى إنتاج مواد لازمة للتشييد ولاحتياجات استهلاك المشتغلين فيه وإلا أدى إنفاقهم إلى رفع الأسعار والحد من حجم وقيمة الموارد الموجهة للاستثمار. كما أننا بتركيز الاهتمام عليه قد يغيب عنا الدافع الأساسى للقيام به وهو رفع مستويات معيشة كافة فئات المجتمع وما يعنيه ذلك من وفرة وجودة فى الإنتاج وملاءمة الأسعار وحسن توزيع الدخل وفق مقتضيات العدالة الاجتماعية، فضلا عن مراعاة أن كلا من الاستثمار والاستهلاك عملية مستمرة مما يفرض اتخاذ ما يلزم لتحقيق التوافق بينهما فى الحاضر والمستقبل. مع ملاحظة أن أفراد المجتمع يعنيهم الاطمئنان إلى تدبير ما يلزم لاستهلاكهم الجارى والحفاظ على ما يضيفونه إلى مدخراتهم لحين اتخاذ قرارات بتوجيهها إلى استثمار أو إلى استهلاك يتعدى المجالات المألوفة ويتطلب موارد تفوق مستويات الدخل المعتادة.
ولذلك فعندما دعيت فى منتصف 1957 للمساهمة فى بناء نماذج يتحدد فى ضوئها إطار الخطة القومية، تمهيدا لنماذج أخرى يتم بموجبها تحديد مفردات الاقتصاد القومى وحركتها المتناغمة نحو تحقيق الأهداف المقررة للخطة، والتى تمكّن المجتمع من السيطرة على موارده، قمت بتجميع ما أعدته وحدات لجنة التخطيط القومى من بيانات تساعد على التعرف على معالم العلاقات التى تربط بين المتغيرات الرئيسية للاقتصاد المحلى. وتجمعت لديّ سلاسل لتلك المتغيرات عن الفترة التالية للحرب العالمية الثانية بظروفها الاستثنائية، أى من 1945 وحتى أقرب سنة وهى 1956، مقاسة بأسعار 1954 لاستبعاد أثر التقلبات فى مستويات الأسعار. ولن أثقل على القارئ بالتفاصيل وأكتفى بالإشارة إلى أمور تقتضيها صلاحية تلك البيانات لاتخاذ القرارات، خاصة إذا اعتمد على كل منها بصورة منفردة لا تستشعر ما قد يوجد بينها من تضارب.
أولها أن الأدوات العلمية للتحليل القياسى أظهرت تضاربا فى تلك البيانات فطالبت بإعادة النظر حتى لا تبنى القرارات على بيانات مضللة. ثانيا اتضح أن الزيادات عبر الزمن فى أرقام الاستهلاك فاقت ما يناظرها فى الدخل، وهو ما يعنى أن معدل الادخار يتراجع بينما المنطق يقضى بتزايده. كان هناك احتمال بأن يكون هذا قد حدث فى السنوات التى تلت انتهاء الحرب جراء محاولة لتعويض حرمان تراكم خلالها موّله تسديد بريطانيا لمديونيات لأغراض إعاشة جنودها المعسكرين فى مصر، مما تسبب فى تراخٍ تفاقمت انعكاساته فى 1950 بوجه خاص. وترتب على ذلك عدم تجاوز الادخار 10% من الناتج الإجمالى، وعدم زيادة نسبة الاستثمار عن ذلك كثيرا، مما حصر معدل النمو بحدود نمو السكان، الأمر الذى يتطلب تغييرات جذرية لكى يمكن إعطاء التنمية دفعة تساعد على تحقيق الأهداف المنشودة. ولكن علينا أن ندقق فى صحة البيانات أولا.
وتابع الأمر فى منتصف 1959 د. إبراهيم حلمى عبدالرحمن سكرتير عام لجنة التخطيط القومى، تعليقا على مشروع أوّلى للخطة. ورغم أن التقديرات لفترة الأساس لم تبتعد كثيرا عن الصورة السابقة، إلا أن المقترح تضمّن عددا من الفجوات، مما دعاه إلى التنبيه إلى خطورة اعتماد 7% المحددة لمضاعفة الدخل فى عشر سنوات كمعدل لنمو الاستهلاك، وحذر من المبالغة فى نمو الاستهلاك فى المراحل الأولى اللازمة لتدعيم البنيان الاقتصادى، واقترح عدة تعديلات تجنب تعثر الخطوات الأولى للخطة. وجاءت النسخة الأخيرة من الخطة متضمنة تعديلات رقمية أظهرت فروقا كبيرة فى تقديرات الادخار والاستثمار فى فترة الأساس دون تغيير يذكر فى باقى عناصر الخطة وهو أمر يدعو للتساؤل. وصاحب ذلك توقع بتحول الميزان التجارى من عجز قدر بمبلغ 12.7 مليون جنيه إلى فائض فى السنة الخامسة مقداره 57.3 مليون يوجه لخدمة الديون المترتبة على الاقتراض فى بداية الخطة. وتم ذلك بتجميد الاستيراد عند حوالى 250 مليون جنيه وإحداث قفزة كبيرة فى التصدير. هذه الصورة المعدلة رقميا لم يصحبها تحليل عميق يثبت إمكانية حدوث هذا التغير الجذرى فى مقومات الاقتصاد بين عشية وضحاها.
وكنا آنذاك نستعين بخبراء عالميين أبرزهم اثنان اقتسما جائزة نوبل: تنبرجن الهولندى وراجنر فريش النرويجى. وكان الأخير ممن اعتنوا بالتحليل الديناميكى للاقتصاد وأرسى قواعد علم الاقتصاد القياسى منذ بداية الثلاثينيات. وخصص له عبدالناصر يوما كاملا ليجيب عن سؤال «كيف نخطط؟»، فعبر عن عظيم تقديره لأسلوب تفكير الرئيس، ونشر مقالا عن How to Plan. وأعد نموذجا يربط بين 115 بُعدا من أبعاد الاقتصاد القومى، للاستعانة به فى اختيار مشروعات الخطة للحصول على أمثل توليفة من أهداف الخطة كما تحددها الدولة. غير أن صعوبة الوصول إلى الدقة المطلوبة فى البيانات جعلت د. إبراهيم حلمى يقترح الاكتفاء بقنوات استثمار يعبر كل منها عن الملامح المشتركة لمشروعات متقاربة، وبناء عليه أطلق على النموذج اسم «نموذج القاهرة للقنوات» Cairo Channel Model. وحذر فريش من نواحى القصور فى مقترح الخطة فطلبت منه أن نستخلص من نموذجه نموذجا للاختبار لا الاختيار، نحسب به نتائج ذلك المقترح، فأسماه «النموذج الهيكلى skeleton وعلق فى 14/6/1960 (أى بعد بدء الخطة) على نتائج الحل الذى أجريت حساباته.
وقد شرح وجهة نظره فى محاضرة ألقاها فى جمعية الاقتصاد والإحصاء والتشريع 8/2/1964 عندما اتضحت المشاكل التى حذر منها آنذاك. وبيّن أننا عند مناقشة مقترح الخطة علينا ألا نقتصر على مستوى الدخل فى نهاية الخطة، بل يحب أن نتابع مسار بُعدين على مدى الخطة هما الاستهلاك الخاص والتطور التراكمى لرصيد ميزان المدفوعات لاختبار مدى قدرة الاقتصاد على تحمل حجم المديونية فى كل سنة. وكانت الحسابات التى أجريتها قد أظهرت أن السنة الخامسة ستشهد صافى دائنية 106 ملايين جنيه، منها 57 مليونا فى السنة الأخيرة كما ذكرنا. وهكذا أدى الأسلوب الذى تبناه الفريق الذى أعد الخطة إلى نتائج يأباها المنطق التحليلى المتكامل الذى لا يستطيع التعامل معه إلا من لديهم خلفية رياضية متقدمة. وكان لابد من وقفة لإعادة النظر فى الخطة الثانية التى أعد مشروعها بنفس أسلوب سابقتها.