الكاتب / د. مظهر محمد صالح
عندما تقلب دفاترك الفلسفية فانك قد تفاجأ بالمذهب الهيدوني او المُتعوي القائل: ان اللذة او السعادة هي الخير الاوحد في الحياة.
وهناك على امتداد الحضارة الانسانية من يقول ان المتعة او السعادة هي السلعة الجوهرية في تسيير الحياة.
اذ يُعبرالمذهب الاخلاقي للهيدونية عن فكرة مفادها ان جميع الافراد يمتلكون الحق بفعل كل شيء وعلى وفق ما اوتوا من قدرة للحصول على المتعة،وان تعظيمها يحتم بلوغ فكرة المتعة الصافية (والتي لاتعني سوى التسلية مطروحاً منها الآلام).
فمتعة الافراد ينبغي ان تتخطى وعلى نحوٍ بعيد مقدار الآلام التي يتعرضون اليها.
وقد اخذت الهيدونية مبادئها الاخلاقية من المدرسة القيرونية المنسوبة الى الفيلسوف أرستيوس القيروني (احد تلامذة سقراط) في اليونان القديمة والقائلة: ان اللذة هي هدف الحياة وان السعادة هي السلعة العلوية التي طالما نبحث عنها.
في حين جاء المذهب الهيدوني في الحضارة السومرية للعراق متجسداً في ملحمة كلكامش التي دُونت مباشرة بعد اختراع الكتابة مشيرة الى ماياتي: إشبع بطنك، مارس حياتك الزوجية ليل نهار ودع يومك يسوده الفرح ولاتغفل فرصة الرقص والموسيقى، وان اجماليات هذه القضايا هي من اهتمامات الرجل الحصرية.
وبهذا سجلت الحضارة السومرية الخطوة الموثقة الاولى للهيدونية او المتعة في تاريخ البشرية في الالف الثالث قبل الميلاد.
تناول الاستاذ فريد فيلمان في كتابه الموسوم: السعادة والحياة الجيدة، الصادر عن جامعة اوكسفورد في العام2006 تفصيلاً طبيعة الهيدونية وصدقيتها وتنوعها، موضحاً المضمون الاقتصادي للهيدونية بكونها ذات علاقة بقضية المنفعة الاقتصادية، اي البحث عن السرور والمتعة.
اذ عُد الانموذج الاقتصادي الهيدوني احد المتغيرات المستقلة ذات الارتباط بنوعية المتغيرات الاخرى والتي منها نوعية المنتجات التي نسعى الى اقتنائها او نوعية العمل الذي نسعى اليه.
فالانموذج الاقتصادي للاجور على سبيل المثال ياتي منسجماً وفكرة التباين.
اذ يحصل العاملون على اجر اعلى لآعمال قد لا تجلب السعادة اليهم. وبغض النظر عن هذا وذاك فقد تصدى الفلاسفة المنفعيون في القرنين الثامن والتاسع عشر الى الدور المركزي للسعادة الهيدونية التي اهملها اتباع مدرسة الفيلسوف كانط او الكانطيون.
فتنصرف النظرية الاخلاقية للسعادة لدى الفلاسفة المنفعيين الى تعظيم الاشياء ذات الاشباع العالي والنوعية الجيدة في المجتمع وهم يتبنون في ذلك مايسمى بالمذهب النتائجي، فالعبرة بالنتائج حقاً.
اذ تُقرن ثروة الاخلاق بالافعال التي تحددها او تقررها نتائجُها .وان اعظم المساهمين في الفلسفة المنفعية هما جرمي بنثام وجون ستيوارت ميل في القرنين الثامن والتاسع عشر وكلاهما من المدرسة الهيدونية .اذ يسعى كلا الفيلسوفين في نظريتهما الى البحث عن الاشياء الجيدة للمجتمع، وان جميع الافعال موجهة نحو تحقيق مقدار اكبر من السعادة.
وعلى الرغم من ان كلا الفيلسوفين يسعيان الى تحقيق السعادة ،الا ان مدرسة جرمي بنثام تختلف عن مدرسة جون ستيورت ميل في التصدي للهيدونية. فالمدرسة الهيدونية التي تتبع بنثام ،تُعرف بالمدرسة الكمية او المنهج الكمي .إذ يعتقد بنثام بأن قيمة السعادة او المتعة يمكن قياسها كمياً.
وان قيمتها يُعبر عنها بكثافة المتعة مضروبةً بطول فترتها وليس اعتمادها كرقم مجرد.
ولكن يبقى التساؤل قائما عن كم هي المتعة وما هي فترة امتدادها؟ لذا ينبغي ان تقاس جميعها كمياً.
اما المدرسة الهيدونية الاخرى، والتي يدافع عنها جون ستيورت ميل، فهي تلك التي تتبع المنهج النوعي في بلوغ المتعة او السعادة.
حيث يرى جون ستيورت ميل ان هنالك مستويات مختلفة من السعادة. فبالتاكيد تتفوق النوعية العالية للمتعة او السعادة على النوعية المنخفضة منها.
فالوجود البسيط في الحياة يعطي مدخلاً اسهل للحصول على المتعة البسيطة لكونها تهمل مناحي الحياة الاخرى والعكس بالعكس.
ختاماً، اعتقد شخصياً ان الهيدونية الريعية (المجتمعات المنتجة للنفط الخام) هي ذات مداخل سهلة ولكن ذات مخارج عميقة النوعية وتتمتع بكميتها الواسعة لتشمل مناحي الحياة كافة. وهو ما نسميه مجازاً بالمدرسة الثالثة كما اتصورها (اي الهيدونية الريعية).
ولكن اثبتت التجربة الراهنة لبلدان الاوبك ان ركون السعادة على فقاعة اسعار الزيت الاسود والعيش الرغيد على عوائد نقدية تدفع بها فوهات براميل النفط ،قد اخذت بالمنهج الهيدوني الثالث الى قمة الهاوية وانهيار سُبل السعادة،ذلك بفقدان التنمية والتنويع الاقتصادي المعمق للسعادة واستدامتها. فبالريع النفطي وحده لاتبنى الامم سعادتها ولا تؤسس لهيدونيتها قط..!.
مرتبط