فيلم “تريستانا” للمخرج الأسباني لويس بونويل.. امرأة تبحث عن الحب والحرية

آخر تحديث 2017-01-19 00:00:00 - المصدر: راي اليوم

باريس ــ حميد عقبي:

لا حب ولا حرية في المجتمع البرجوازي، فهو لا يعطي أي أهمية لهذه الاحتياجات كي تستمتع فئة بسيطة بالسعادة والملذات الدنيوية، بينما تكون غالبية المجتمع، مجرد خدم ووسائل للمتعة والترفيه لمن يملك المال والنفوذ الديني والسياسي، لعل هذه الأفكار الأساسية التي يعيد طرحها المخرج السينمائي لويس بونويل في أغلب أفلامه، في فيلم”تريستانا”1970  يطرح هذه الأفكار في قالب سهل بعيداً عن التعقيدات الشكلية السريالية الجنونية التي أمتاز بها، لكن بونويل لا يتنازل عن لغة السينما باعتبارها فن شعري وليس ثرثرة نثرية أو روائية، ماذا يحدث في هذا الفيلم؟ وما هي الجماليات التي أضافها بونويل للفن السينمائي؟

اعطاء مساحة للصوت والحوار لا يعني اِقصاء الصورة للمرتبة الثانية بالفيلم، الصوت يأتي أحياناً كعنصر يشوش على الصورة، كونه يحمل صورة متخيلة غير مرئية تزاحم وتنافس الصورة المعروضة، في بداية هذا الفيلم نرى مجموعة من المراهقين يلعبون، نرى أحدهم عنيفاً، هذا المراهق هو ابن الخادمة التي تعمل بمنزل البرجوازي دون لوبيه، الشاب المراهق أبكم وغامض يظل كلغز بالفيلم، في هذا المشهد خلط بين صوت أجراس الكنيسة القوي و أصوات هذه اللعبة العنيفة في ساحة مدرسة أو مركز داخلي للبكم، نرى الأم وتريستانا مع المسئول عن هذا المكان، الذي يقرر خروج هذا الأبكم كونه عنيف وغير مستجيب للتعلم فمن الأفضل خروجه للعمل، نرى تريستانا شابة جميلة بلباس أسود، تلبسه حداداً على موت أمها، تظهر كأنسانة رقيقة رحيمة متدينة، تذهب للكنيسة تحتفظ بالصليب التي تركته لها أمها، تعيش في بيت رجل عجوز برجوازي لكنه في مرحلة الانهيار حيث يعاني من أزمة مالية تدفعه لبيع بعض التحف واللوحات الثمينة، هو لا يؤمن بالدين ولا يطيق سماع أو رؤية أي شيء يتعلق بالكنيسة، هذا الرجل قام بتبني هذه الجميلة كابنه، يفرض عليها عدم الخروج من البيت ثم يستغلها جنسياً، كأننا هنا أمام حكاية أو أسطورة الجميلة والوحش، لكن الوحش هنا إنسان عجوز أناني ملحد ومستغل لهذه الجميلة، يحاول سجن جسدها وروحها له وحده لمتعه الشهوانية الحيوانية.

دون لوبيه،هذا العجوز استعارة للانحطاط الأخلاقي والروحي والقسوة البشعة للطبقة البرجوازية التي يبشر بونويل بسقوطها وانهيارة وموتها في بداية الفيلم، حلم تريستيانا بموت لوبيه هو أشبه بأمنية داخلية عميقة للشابه الجميلة، هذا الحلم تحليل لوضع هذا الشابة الحبيسة بين عالميين، عالم الدين الذي يستولي على روحها والعالم البرجوازي الذي يستعبد ويستغل جسدها الأنثوي، في هذا الحلم ترى تريستانا نفسها تصعد لقمة الكنيسة حيث الأجراس الضخمة والمنظر الخلاب للمدينة من الأعلى، تصعد بصحبة الأبكم ومراهق آخر، خلال هذا الصعود ينكشف جزء من فخذها المغري، يحاول الأبكم لمس أجزاء حساسة من جسدها، تظهر كمراهقة صغيرها تطوق للذة الجنسية لكنها تمانع أو تتمانع، تظهر مرحة وسعيدة بمشاكسات الأبكم ورفيقه، تصل للقمة تحاول تحريك الجرس الضخم فجأة ترى رأس البرجوازي دون لوبيه معلقاً ، هنا ربط بين دلالة دينية وأخرى اجتماعية، الرأس المعلق يبدو مخيفاً هو دلالة للموت للعالميين اللذان يستعبدان هذه الإنسانة الجميلة، تنهض مفزوعة تسرع الخادمة لمساعدتها ثم يأتي العجوز بملابس النوم ليطمئن عليها، هذا الحلم يأتي قبل أن تتحول علاقة الأبوة إلى علاقة زوجية وجنسية دنيئة.

هذه الفتاة فقدت أمها، فقدت الحب والحنان، هي تشبه شخصية فرديانا في كونها ترى الدين لمنقذ أو قادر أن يحقق لها السعادة والطمانينة الروحية، هي ساذجة بهذا الاعتقاد، هي بسيطة وعفوية أشبه بطفله منها كفتاة شابة، لذلك هي بحاجة لضربة عنيفة وتجربة قاسية كي تكفر بالدين وتعرف حقيقة وبشاعة الرجل العجوز، في أحد المشاهد بعد خروجها من الكنيسة يكون العجوز بانتظارها ثم يطلب منها قُبلة، تُقبل خده لكنه يطلب قُبلة من الفم، تستسلم له، بعد وصولهم للبيت يدعوها إلى فراشه، هنا يغلق الباب في وجه الكاميرا، تظل الكاميرا محدقة بالباب للحظات، بونويل يدعونا لتخييل الحدث ولا يعرضه يفعلها كثيراً عند عرض حدث جنسي أو حدث عنيف أو اغتصاب، ما يوجد خارج الكادر قد يكون هو الأهم والمفزع والمقزز والمثير، أحياناً يُظهر صوتاً للحدث الغير مصور ولكنه هنا يلتزم بالصمت كي يتيح لنا فرصة التخييل لهذه الجريمة البشعة.

عندما  يُقصي و يحذف بونويل حدثاً عنيفاً او جنسياً فلا يعني أنه يتورع أو يشفق علينا، بالعكس هو يهول من هذا الحدث، سينما بونويل تتسم بالعنف والقسوة والجنس من العناصر الأساسية، هنا يمارس بونويل هذا الحذف كأسلوب شعري مثير لخيال المتفرج كي يكون مشاركاً وإيجابياً وليس مجرد متلقي لحكاية ما.

نرى العجوز مريضاً بعد ذلك المشهد ،هو لا يملك القوة الجنسية ليشبع فتاة شابة، هو بفعله هذا دنس روحها أثار فيها الشهوة، تتحول من طفلة إلى امرأة تفتقد لحب حقيقي وشوق للجنس، يبيع لوي بعض التحف كي يشتري للفتاة ملابس بدلاً من فستانها الأسود، هنا باع شيء ليشتري بعض رضاء وحب الفتاة ليغريها ويفرض السيطرة عليها، كونه لا يدرك معنى الروح فهي مجرد شيء من الأشياء التي يستمتع به، هو يعلم أنها لا تحبه كأب أو زوج، لذلك يحاصرها ويمنعها من الخروج، كي تظل جارية مطيعة وتجهل العالم الخارجي الذي يتغيير، لا يمنعها من التدين رغم كفره، كونه يعلم ضعف الدين وعجزه ولن يشجعها على الثورة أو يدفعها للعصيان، الدين من وجهة نظر بونويل هو وسيلة خضوع وضعف للشعوب.

الشخصيات في هذا الفيلم معقدة لا يقدم المخرج تحليلاً كافياً لسماتها، كل شخصية هي عبارة عن ميتافور لعالم معين، الفيلم سلسلة وفضاء للصراع بين هذه العوالم، كل حدث يكشف لنا العالم الداخلي النفسي والفكري للشخصيات، تعالوا نتأمل بعض هذه الأحداث في أحد المشاهد تسير تريستانا مع دون لوبيه، نسمع صرخة سيدة تقول “حرامي حرامي..أمسكوا بهذا الحرامي”، نرى شاب يركض بعد أن سرق حقيبة نسائية سوداء يسلك طريقاً، نرى الشرطة تركض ورائه يتوقف الشرطي ليسال العجوز لوي عن الشارع الذي سلكه السارق، يقوم لوي بتضليل الشرطة و يشير لهم باتجاه خاطىء، تستغرب الشابة لكذب العجوز يبرر كذبه بأنه وقوف مع الضعيف ضد الشرطة كونها قوية، هذا العجوز يحاول تضليلنا هو يدافع عن نفسه، فهو سيسرق جسد هذه الجميلة التي كانت تلبس فستان أسود، هنا اللون الأسود يربط بين الحدثيين، هنا أيضاً سخرية من القانون والشرطة تطارد شاب سرق حقيبة يد نسائية وتجهل جريمة هذا العجوز الذي يسرق ويستعبد جسد وروح هذه الإنسانة.

هنا أيضاً الصراخ يأتي من امرأة لا نراها كأنها تنبه هذه الشابة كي تشعر بما يُسرق منها لكن يظهر أنها بحاجة إلى تجربة ووسيلة أخرى كي تشعر بأنوثتها، ربما تجربة حب وممارسة جنسية مع شاب قد تمنحها القوة للعصيان والثورة وهذا ما سيحدث.

تصاب الشابة بالإكتئاب والحزن و تتذكر أمها الميتة بسبب هذا السجن والعبودية، يسمح العجوز لها بالخروج شرط أن ترافقها الخادمة، مع خروج الشابة و احتكاكها بالعالم الخارجي رغم محدوديته، يصبح لها رؤية خاصة للاشياء، في مشهد يسبق مشهد تورطها مع العجوز بعلاقة جنسية نراها بالكنيسة تقترب من تمثال لشخص مقدس ممدد، يغريها هذا التمثال وجهه يشبه وجه العجوز البرجوازي، تنحني علي، هذا الفعل به نوع من الرغبة الجنسية و الاغراء، ثم تسلم جسدها للعجوز، هنا ربما يريد لويس بونويل القول لا فرق بين هذا التمثال كرمز للدين وبين الرجل العجوز كجزء من طبقة متعفنه أخلاقياً، بعد خروجها عدة مرات تبدأ باظهار وجهة نظرها، في أحد المشاهد تكون مع  العجوز  للتنزه، تساله عن رأيه في أحد الأعمدة والأقواس الأثرية يسخر من سؤالها ويرد بأن هذه الأشياء لا تثير اهتمامه ولا يرى أي اختلاف، تدور حول أحد الأعمدة لتبدي إعجابها به وترد بأنه لا يوجد في الكون شيئان متشابهان، علينا التمعن جيداً في الأشياء المتشابهة لندرك الفروق، لا يرتاح لوي من هذه الحكمة يطلب منها أن تسرع وتكف عن التفكير، هنا يصبح العجوز قلقاً بسبب نضوج فكر الفتاة، فالنضوج الفكري هو ما يهدد وينذر بزوال التسلط والعبودية.

ترتبط تريستانا بعلاقة عاطفية مع شباب فنان، تعترف له بمحنتها، الحب هنا منحها القوة بعد أن تتغلب على خوفها ، نرى في مشهد التعارف بين الشابة والفنان يسير هذا المشهد بالتوازي مع مشهد قتل كلب مسعور، هذا الكلب هو استعارة و رمز للخوف  ووحشية وقبح العجوز لوبيه، تصبح الفتاة سعيدة ولا تخاف من العجوز، في أحد المشاهد تقوم برمي الصندل الذي كانت تحرص على وضعة بقدم العجوز، خلع الحذاء وتلبيس الصندل يتم بحركة أشبه بالركوع، رمي هذه الاداة بسلة القاذورات هو إعلان للثورة، الحرية لن تتحقق إلا برمي البرجوازية في سلة القاذورات، هذا ما يريد قوله بونويل، لكنه يمرر هذه الأفكار في شكل استعارات وإشارات، لا يعني هنا الخوف من الرقابة و أنما هو أسلوب سينمائي شاعر يحرص على أن يحرك خيال وفكر المتفرج.

تهرب تريستانا مع حبيبها الفنان الشاب، يحزن دون لوبيه العجوز  ليس لأنه فقد ابنة بل كونه فقد جسد أنثوي كان منبع اشباع لشهواته الحيوانية، تعود تريستانا بعد زمن مريضة وتعتقد أنها ستموت تفضل الموت في بيت لوبيه، يتم اجراء عملية وقطع رجلها كي تشعر الشابة بطعم الحياة تتجه بحواسها إلى الموسيقى تظل معظم وقتها تعزف على البيانو، هذا التغيير الجسدي يصاحبه تغيير فكريوروحي، أصبح لدى الفتاة إحساس بعدم وجود الحب، لذلك لا تحزن على فراقها مع الشاب، هنا بونويل يريد قول شيء آخر من خلال شخصية الفنان، فالفن في هذه المرحلة الزمنية الهامة مازال غير قادر على تحرير الإنسان من العبودية والمرأة بشكل خاص، أفلام بونويل هي منبع الهام للحركات الثورية الاجتماعية والفكرية، في 1968 قامت بفرنسا ثورة الطلبة الشهيرة ضد الأنظمة و القوانيين الاجتماعية وكان لها تأثيراً كبيراً على جميع البلدان الأوروبية، لعل أهم  المكاسب لهذه الإنتفاضة هي الحرية الجنسية والسعي للحصول على مساوة المرأة بالرجل في كل شيء.

يظل لوبيه مغرماً بالشابة رغم إعاقتها، هذا الإعجاب شهواني محض كونه لا يرى فيها إلا الجسد الأنثوي،هذا العجوز نموذج للبرجوازية التي يمكنها فعل أي شيء لكسب مصلحة أو شهوة، تتزوج تريستانا بهذا العجوز نراه يدخل الكنيسة لأول مرة، هنا الكنيسة باعت هذه المرأة لهذا الهرم، مراسيم الزواج أشبه بطقوس جنائزية، لكن الشابة تنتصر لحريتها وترفض الذهاب إلى فراش العجوز وتُسمعه ما يكره، تريستانا اكتشفت زيف وكذب الكنيسة وكذب الرجال فأصبحت كافرة بالحب والدين، في نهاية الفيلم يكرر المخرج عرض حلم تريستانا الرأس المعلق بالناقوس ثم نشاهد دون لوبيه يصرخ ويطلب النجدة، تتعمد تريستانا بعدم دعوة الطبيب وفتح النوافذ، يموت هذا العجوز أخيراً، هنا بونويل حقق رغبة هذا الشابة بالتخلص من هذا الوحش ونيل حريتها، لعل موت هذا الرجل مكأفاة سخية من المخرج للشابة نظير كفرها بالدين وبالمجتمع البرجوازي البشع.