أميركا تحمي ضعفها وراء جدران الخوف

آخر تحديث 2017-02-05 00:00:00 - المصدر: قناة الميادين

لعل أكثر المصدومين بإجراءات دونالد ترامب العنصرية ــ الفاشية، هم قوم من المثقفين التبسيطيين العرب المشدوهين "ألينَةً" بالديمقراطية التمثيلية الأميركية. فهم يظنّون أن ترامب سقط عنها على غفلة من الزمن ولا تلبث هذه الديمقراطية أن تعود سيرتها الأولى أو يخلق الله أمراً كان مفعولا. فمنذ عقود تجاوزت الأربعة أخذ هؤلاء، وراء كبارهم الدهاقنة في الغرب، بمعتقدات دين الديمقراطية الأميركية الجديد، ونشروا له طقوس عبادة تبشّر بوصفات السحَرَة للشفاء من الاضطهاد والاستبداد ومن كل داء. ومن بين ما تروي الحدّوثة في فصول حكايات الأطفال قبل النوم، يكفي التعبير عما "الشعب يريد" حتى يكون كل ما يريد من حريات وعدالة وكرامة على السمع والطاعة.

تكذيب الترامبية للحقائق العلمية الملموسة بشأن سخونة المناخ، ليس بدعته الخاصة

والعُهدة في ذلك على الراوي بأن حرية التعبير في بلاد الغرب واختيار "حكم رشيد" في صناديق الاقتراع، نموذجاً ومرجعية لباقي خلق الله الطامحين إلى الحرية وحقوق الإنسان. وأيضاً إلى الحقوق الإنسانية في العمل والمأوى والتعليم والصحة والطمأنينة والأمان كجنة عدن. وكل ذلك هو من مكارم عقلانية الحكم في علاقة "مواطنَة" مع مواطنين أفراد أحرار في داخل البلد ليس إلاّ. ولا شأن يُذكر لبلوغ هذه الجنّة المزعومة بالمراحل التاريخية وحجم البلد في المنظومة الدولية، ولا مصالح اقتصادية واستراتيجية وحربية للدول أو مصالح للقوى النافذة في داخل البلد وخارجه، ولا إيديولوجيا ولا جغرافيا وسياسات ولا من يحزنون. إنها نهاية التاريخ على ما يزعم فوكوياما بانتصار الديمقراطية التمثيلية الأميركية على الشمولية والإيديولوجيات والاستبداد إلى غير رجعة. وعلى مدى اتساع أحلام هذه الحدّوثة في حكاية "الشاطر حسن"، يثير ترامب صدمة خوف عميق من انكشاف الغطاء عن وصفة ميثولوجيا سحرية للخير العام فإذا بها تحمل على رأسها عنصرية فاشية عارية. لكن ما يجاهر به ترامب على رؤوس الأشهاد لا يختلف كثيراً عما تسير عليه الدول الصناعية والمنظومة الدولية في سياسات "ديمقراطية" أدّت إلى النتائج نفسها التي يدعو إليها ترامب.

ما يدعو إليه ترامب في بناء جدار الفصل العنصري مع المكسيك بشكل فجّ، وضعته إدارة بارك أوباما موضع التنفيذ بعد إقرار في الكونغرس العام 2006. وقد بلغت كلفة السور الأميركي الشائك حوالي 3,5 مليار دولار بينما نشرت 17 ألف عنصراً لمراقبة الحدود مزوّدين بأجهزة تصوير من الأقمار الصناعية بالإضافة إلى دوريات سيّارة ومروحيات وغيرها. وقد أشركت إدارة أوباما في عمليات اصطياد المهاجرين "متطوعين متقاعدين" من الفاشيين البيض وقامت بترحيل حوالي 1,2 مليون مهاجر في السنة بمعدّل 11 مليون مهاجر الذين يتوعّد ترامب بترحيلهم من دون مؤشر جدّي حتى الآن بقدرته على تنفيذ وعيده حتى النهاية، أو حتى توفير حوالي 16 مليار دولار لبناء جدار على طول 1600 كلم من أصل 3145 كلم.

معتنقو طقوس الديمقراطية التمثيلية الأميركية يستفزّهم في غالبيتهم بحق من دعوة ترامب لترحيل المهاجرين الجماعي على أساس عرقي وديني. لكن بناء الجدار والترحيل بذريعة قوانين "حفظ الأمن" أو "مكافحة المخدرات" كما ادّعت إدارة أوباما لا يزعجهم، إذا لم يقم به "حكم شمولي" كجدار برلين مثلاً حيث قامت الدنيا ولم تقعد. أما إذا قام به حكم ديمقراطي تمثيلي كإسرائيل أو حليف كالسعودية وغيرها فلا ضير أن يصبح الجدار نفسه ديمقراطياً. والأدهى أن إسرائيل تقيم جدارها على أرض فلسطينية مسلوبة، والسعودية تقيم أيضاً جداراً على أرض يمنية سليبة في قضية جيزان وعسير العام 1934 ولم تنتهِ في العام ألفين على الرغم من اتفاقية شبه سرّية مع الحكومية اليمنية. كما أن الولايات المتحدة احتلت أراضي المكسيك بغزوها ابتداء من العام 1845 وضمت أقاليم تكساس ثم كاليفورنيا ونيافادا ومعظم أريزونا وأجزاء من كولورادو، بذريعة إيفاء ديون بعض الأميركيين لا تتجاوز 3 ملايين دولار. وما بات مألوفاً في بناء جدران الفصل العنصري لتكريس سيادة الاحتلال، هو في سياق غير مسبوق لنشر طقوس الديمقراطية الأميركية فيما   تسميه خير البشرية و"القرية العالمية" بالانفتاح والحرية، لكن فقط في حرية انتقال الرساميل الكبرى وحرية التجارة في تكسير الحدود وغزو الأسواق، وليس في حرية التنقل بدعوى الحرص دوماً على الخير العام في "حفظ الأمن".

تكذيب الترامبية للحقائق العلمية الملموسة بشأن سخونة المناخ، ليس بدعته الخاصة. فمنذ أول قمة مؤتمر عالمي للمناخ العام 1979 رفضت أميركا وشركات بثّ السموم في سماء "القرية العالمية" وأرضها، الاعتراف بمسؤوليتها عن التسمم بل حفّزها الاتهام بالجرم المشهود على توظيف خبراء زور دفاعاً عن تضحياتها الجمّة في تعميم رفاهية الاستهلاك المحموم على البشرية. ولم يتغيّر الأمر في قمة الأرض العام 1992 في ريو البرازيلية ولا في كيوتو اليابانية العام 1997. لكن بدت الجريمة قابلة لنقاش "الرأي الآخر" حين أصدر مدير المالية العامة في الحكومة البريطانية "نيكولاس ستيرن" تقريراً بالخسائر الاقتصادية الهائلة الناجمة عن التلوّث العام 2006. لقد خاطب أصحاب الرساميل متعدية الجنسية بلغة "التقريش" الأقرب إلى العقول والقلوب. لكن ما يرقّ له القلب بدمعة رقيقة لدرّ العواطف في مهرجان باريس أمام الجمهور الكوني العريض العام 2015، لم يغيّر في عقل "التقريش" المالي سوى بعض الثرثرة المربحة في أهمية حماية البيئة وما يسمى "نشر الوعي" في البيئة ورسملة سوق الغزل بجمالها. والمعضلة في احترار المناخ الناجم عن سموم التلوّث هي معضلة تبديد ثروات طبيعية كونية منقولة من الأجيال السابقة إلى الأجيال اللاحقة إرثاً مشتركاً. ولعل أكثر ما ساعد القوى الغربية النافذة باستملاك معظم هذه الثروات العامة في المحيط الحيوي الكوني من هواء ومياه وبحار... إلخ، هو منظومة الديمقراطية الأميركية المعولمَة في الاقتصاد والسياسة والحرب والإيدولوجيا وفي تعميم سلوكيات ال البذيء لما تزعمه رفاهية الجنس البشري.

هذه المنظومة التي عاثت في الأرض خراباً وتدميراً، تضرب أيضاً خبط عشواء في أميركا والدول الغربية. وما الترامبية والفاشية المتصاعدة في هذه البلدان سوى من إفرازاتها الطبيعية. لكن الترامبية أقل شأواً من الشراسة المعهودة في بلد يتضعضع بأزماته فيضطر إلى حماية نفسه بجدران الخوف. والإدارة الجديدة تجاهر بعدائية بريّة للتنكيل بالهجرة والفئات الأكثر تمهيشاً من ضحايا الديمقراطية الأميركية. فهي تحاول بهذا التنكيل إشباع ذئبية العنصرية البيضاء، لكنها ترعب المرعوبين في بلدان كالسعودية والإمارات في المسارعة إلى تبييض صفحة ترامب من منع دخول المسلمين إلى أميركا. بل إلى مكافأة ترامب في تدفق المزيد من الأموال إلى أميركا وفق وزير النفط السعودي خالد الفالح. أما الدول الأخرى كبلد مثل الهند فهي تستفيد من فرصة الضعف الأميركي للخروج عن بعض وصايا نموذج الخراب، كما أعلن وزير المال الهندي "أرون جاتيلي" في موازنة "مخصصة مجدداً لمصلحة القرى والمزارعين والفقراء كما وصفها. ولا ريب أن انكسار ميثيولوجيا الديمقراطية الأميركية هي فرصه واعدة بعالم أفضل. فالخوف الأميركي هو تمهيد لإمكانية الإطاحة بأهم سلاح في يد أميركا وهو سلاح تقديس نموذجها في التدمير والخراب، والخوف من هذا الخوف هو أشدّ البلاء.

المصدر: الميادين نت

إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي الميادين وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً