محمد مغوتي
في شتنبر 2012، وبمناسبة انتخابه أمينا عاما جديدا لحزب الإستقلال، توصل حميد شباط برسالة ملكية وصفته ب” المناضل والقيادي الملتزم والمثابر والمؤمن بنضال القرب”. حينها رأى المراقبون في وصول شباط إلى موقع القيادة في حزب ” آل الفاسي” بداية لمرحلة جديدة في تاريخ هذا الحزب الذي حافظ باستمرار على قوة إنتخابية معتبرة، وشارك في عدد كبير من الحكومات المتعاقبة سواء بثوب سياسي أو تقنوقراطي… غير أن مرحلة شباط هذه حملت موقفا سياسيا غير مسبوق بعد بضعة أشهر من تسلم منصبه القيادي، حيث أراد إرباك حكومة بنكيران، وقرر مغادرة التحالف الحكومي في ماي 2013، لكن حساباته كانت خاطئة تماما، لأن التحالف واصل مسؤوليته الحكومية باستقطاب حزب بديل هو التجمع الوطني للأحرار. أما الأمين العام الإستقلالي فقد دخل في حروب كلامية مفتوحة ضد رئيس الحكومة، ووجه له كل أنواع النقد والإتهام بمناسبة أو بدونها. واتضح بعد ذلك أن خروج الإستقلال من الحكومة كان ضربة موجعة للحزب، لأن الإصطفاف إلى جانب البام في المعارضة لم يخدم حزب الميزان، بل أثر عليه بشكل سلبي، وهو ما ظهر بوضوح في نتائج الإنتخابات التشريعية الأخيرة التي خسر فيها الإستقلاليون 15 مقعدا برلمانيا بالمقارنة مع النتائج التي تحصلوا عليها في انتخابات نونبر 2011.
الواقع أن شباط أدرك أنه أخطأ التقدير قبل موعد الإنتخابات المذكورة، فخلال الأشهر القليلة التي سبقت الإنتخابات التشريعية التي عرفها المغرب يوم 7 أكتوبر 2016، بدا واضحا أن الأمين العام لحزب الإستقلال قد خفف من حدة حروبه الكلامية ضد بنكيران والبيجيدي، لأنه أدرك أن الحزب الإسلامي يتجه إلى الفوز في الإنتخابات المرتقبة، وغداة ظهور نتائج الإقتراع أبدى حزب الإستقلال استعداده للمشاركة في الحكومة التي عين بنكيران رئيسا لها. وهكذا انتقلت العلاقة بين حزبي الإستقلال والعدالة والتنمية من النقيض إلى النقيض، فقد أصبح شباط هو الحليف الأول لبنكيران ضد القوى التي تسعى إلى إضعافه وعرقلة مساعيه في تشكيل الحكومة، حيث تبنى حزب الميزان خطا “تحريريا” جديدا يدافع بشراسة عن بنكيران وحزبه، ويهاجم بنفس الحدة أيضا حليف الأمس حزب الأصالة والمعاصرة، ويستخدم مفاهيم غير معهودة في القاموس السياسي لحزب الإستقلال مثل: ” التحكم ” و” الدولة العميقة”… وعندما وقف التجمعيون في طريق الطموح الحكومي للأمين العام لحزب الإستقلال وصلت المشاورات إلى حالة البلوكاج التي مازالت قائمة حتى اليوم، لكن اندفاع الزعيم الإستقلالي أوقعه في المحظور لينطبق عليه المثل العامي القائل: “مشا يبوس ولدو عماه”، وذلك عندما ورط الدولة في مأزق ديبلوماسي مع موريتانيا، الأمر الذي تطلب إصدار بيان توضيحي من وزارة الخارجية، وتدخل الجهات العليا لرأب الصدع في العلاقات مع الجارة الجنوبية. وهكذا كانت ضريبة هذا المنزلق اللفظي هي إسقاط حزب الميزان من مشاورات تشكيل الحكومة.
كانت “زلة موريتانيا” بداية لحرب معلنة بين حزب الإستقلال والدولة، وظهر جليا أن صانعي القرار في السلطة لم يغفروا لشباط زلته تلك، وظهر ذلك جليا عندما شن أحد مستشاري الملك هجوما مباشرا على القيادي الإستقلالي، حيث شرح في برنامج تلفزيوني على قناة عمومية حجم الضرر الذي خلفته تصريحات شباط على الديبلوماسية المغربية وعلى علاقات البلد بدول الجوار وبالتزاماته الإفريقية في هذه المرحلة الحساسة التي يستكمل فيها المغرب خطواته للعودة إلى الصف الإفريقي. هذا الهجوم الرسمي على الأمين العام لحزب ” آل الفاسي” أظهر درجة التصدع في علاقة الإستقلاليين بالدولة، لكن شباط الذي يدير حزبه بعقلية نقابية، ويفتقد للحكمة والرصانة السياسية -التي صنعت براغماتية حزب الإستقلال وحافظت على قوته وحضوره باستمرار- وقع في الفخ من جديد ولدغ من نفس الجحر مرتين، فقد أراد أن يبلغ المغاربة بأن خروج حزبه من المشاورات الحكومية كان مستهدفا ومخططا له من طرف جهات نافذة في الدولة، ولم يكن بسبب حسابات حزبية ضيقة. لذلك اختار المواجهة عوض المهادنة، وأراد أن يظهر للسلطة بأنه رقم صعب، وبدأ يظهر نفسه للرأي العام في جبة المناضل السياسي الذي يدافع عن الحق ويرفض الإنبطاح، لكن لسانه خانه مرة أخرى حينما لمح في برنامج تلفزيوني على قناة ” فرانس 24″ بأن حياته أصبحت مهددة عندما صرح بأنه ” يتبرع بأعضائه للشعب المغربي سواء مات موتا طبيعيا أو مات مستشهدا”. وهذا كلام خطير لأنه يتهم جهات ما باستهداف حياته، وربط هذا الكلام بتداعيات المواقف الأخيرة يجعل الدولة في قفص الإتهام. أما القشة التي يبدو أنها ستقصم ظهر شباط، فهي تلك المقالة المنشورة على الموقع الرسمي للحزب قبل أن يتم سحبها بعد ذلك، والتي اختارت أن تصطاد في المياه الراكدة لواد الشراط. لذلك كان من الطبيعي أن تبادر الدولة إلى الرد من خلال البيان الشديد اللهجة الذي أصدرته وزارة الداخلية وتهجمت فيه بوضوح على شباط الذي قال عنه البيان:
” كلما وجد هذا المسؤول الحزبي نفسه في وضعية سياسية صعبة قد لا تخدم مصالحه إلا ووجه اتهاماته بشكل عبثي غير مسؤول عوض التعامل مع الإشكالات المطروحة بما يقتضيه منطق الحكمة وتستوجبه متطلبات الممارسة الديمقراطية النبيلة”.
بيان وزارة الداخلية نقل الصراع بين حزب الإستقلال والدولة من مستوى التجاذب السياسي إلى مساطر القانون الجنائي، خصوصا وأن المقال المثير للجدل تحدث عن موت مدبر لكل من القيادي الإتحادي احمد الزايدي ووزير الدولة عبد الله باها في أو قرب وادي الشراط. وهو ما يطرح علامات استفهام كثيرة حول الموضوع، ويتطلب أجوبة شافية تزيل كل الشكوك التي عادت إلى الواجهة بعد مطالبة عائلة الزايدي بفتح تحقيق حول ما تضمنه مقال الموقع الرسمي لحزب الميزان.
يبدو أن النهاية السياسية لشباط تبدو وشيكة بعد كل هذه الأخطاء التواصلية التي راكمها طيلة الفترة التي قضاها على رأس حزب الإستقلال، وخصوصا في الآونة الأخيرة. وبالرغم من قوة الجناح الذي يقوده الأمين العام الإستقلالي، وتمكنه من تحييد معارضيه داخل الحزب وإضعافهم من خلال تفعيل مسطرة التأديب التي أفضت إلى توقيف ثلاث قيادات وازنة لمدة 18 شهرا، فإن مساعيه للترشح لولاية ثانية على رأس الحزب تلقت ضربات موجعة، ويبدو أن الخط المعارض لطريقة تدبير الحزب من طرف شباط سيتقوى أكثر خلال الأيام المقبلة في أفق انعقاد مؤتمر الحزب في شهر مارس المقبل الذي يرجح أن يعيد التيار الفاسي من جديد إلى قيادة الحزب وفتح صفحة جديدة مع الدولة لاستعادة الرضا الذي ضيعته شعبوية شباط.