مع تراجع حدّة الأحداث التدميرية لـ"الربيع العربي"، وبداية التفهّم لحقيقة مخططاته التي استهدفت تدمير القوى والدول الفاعلة في أمننا، وأعادت مختلف مناحي الحياة في العديد من بلداننا العربية عقوداً إلى الخلف، لا بدّ من وقفة تحليلية أستهلّها اليوم آملةً أن أُتابع التركيز عليها كلّما سنحت الفرصة لذلك.
إنّ أكبر خسارة في أوقات الحروب عامّة هي خسارة الأجيال، إذ إن أولى ضحايا الزمن المضطرب دائماً تكون الطفولة والشباب.
ولذلك ظهرت دراسات عدّة في العالم تنبّه إلى أن أهم ما يجب الانتباه إليه في الأوقات الصعبة هو التعليم.
ففي الوقت الذي تنشغل فيه أجهزة الدولة والمجتمع برمّته في محاربة الخطر الداهم للوجود العربي، فإنّ خطراً آخر لا يقلّ كارثية يتسلّل إلى كل بيت عربي، من دون أن يحمل سلاحاً أو يسفكَ دماً. وهذا الخطر يتمثّل في الآثار التي تركتها الحروب والصراعات على نفوس وعقول وتفكير ومستقبل الأجيال الصاعدة.
في حزيران/ يونيو عام 2011، زارني مسؤول سابق من نيكاراغوا، وفي ذلك الوقت كان الكثيرون يتوقعون انتهاء الأزمة في سوريا قبل عيد رمضان أو عيد الأضحى، وقال لي هذه الحرب على سوريا قد تستمرّ سنوات، وأرجو أن أفيدكم من تجربتنا بألّا تستدعوا المعلمين والأساتذة للخدمة في الجيش لأنكم بعد عشر سنوات من هذه الحرب ستجدون أنكم فقدتم جيلاً كاملاً، وسيكون من الصعب عليكم إعادة بناء الإنسان، وهذا هو أكبر تحدٍّ واجهناه نحن في نيكاراغوا.
واليوم، وبعد ستّ سنوات على اندلاع هذه الحرب الإرهابية الظالمة التي شنّتها قوى البغي والعدوان والخيانة، نجد أن الأطفال والشباب هم الذين دفعوا الثمن الباهظ، وهذا يعني أن مستقبل البلاد يواجه التحدّي الأهم المتمثّل في هذه الشريحة العمرية، والتي بعد سنوات قليلة ستكون الشريحة الأساسية التي تمثل عصب الحياة في الاقتصاد والسياسة والثقافة وكل مجالات الحياة.
في الوقت الذي تنخرط فيه القوى العسكرية في محاربة إرهاب مموّل وموجّه من دول إرهابية استعمارية وعربية خائنة لأمّتها، لا بدّ من الانتباه إلى أن معركة أخرى لا تقلّ أهمية أبداً في حياة البلاد المستقبلية كان يجب أن تبدأ البارحة، وهي معركة بناء الإنسان.
ولا شكّ في أن التعليم هو من أهم أولويات هذه المعركة وشروط نجاحها. وإذا ما ألقينا نظرة على واقع الشباب في معظم بلداننا العربية، وواقع المتخرّجين في المدارس والجامعات، نجد أن المستوى التعليمي لهؤلاء لم يعد يقارب في جودته وتحصيله المستوى الذي كنّا نعرفه ونعيشه قبل عقود قليلة.
والجميع يتحدث عن هذا ويشكو من الضعف الهائل في مستوى المتخرّجين، والذي طبعاً ينعكس في الحلقة الأخرى على مستوى التعليم منذ مستوياته الأولى إلى أن تكتمل الحلقة المفرغة، ويصبح الناتج الجامعي الضعيف ينعكس ضعفاً أكبر على الناتج التعليمي في الحلقات الدراسية الأولى.
فضلاً عن انعكاس هذا الناتج على دوائر العمل الصناعية والزراعية والحرفية والثقافية، إلى أن يصبح هذا المنتج الجامعي كالريح التي تأخذ كل شيء في طريقها، أو كاللون الذي يصبغ كل الأشياء في البلاد بلونه، ما هو المطلوب إذاً؟
المطلوب هو ألّا تنتظر بلداننا حالة الاستقرار كي تبدأ بتفكير جدّي حول بناء الإنسان، بل أن تعتبر المعركة التعليمية جزءاً لا يتجزّأ من المعركة العسكرية، وأن نضع الخطط المدروسة أوّلاً لوقف نزيف هجرة الشباب، وتوفير مجالات العمل والحياة لهم، وثانياً لإعادة التفكير العميق والجذري بالمناهج وأساليب التعليم وقوانينه، والأهم من ذلك براتب المعلم والأستاذ وشروط حياته والظروف التي تحيط به، والعمل على تحسينها كي يتمكّن من تكريس كلّ طاقته لبناء الجيل، وليس للحصول على لقمة العيش وإعالة أسرته.
وفي بعض الأحيان، وفي بعض المواضيع قد لا تتمكن الكوادر المحلية من وضع خطة إنقاذ سريعة تستفيد من آخر منتجات العلم والبحث العلمي في البلدان المتقدّمة، وهنا لا ضير أبداً في الاستعانة بخبرات ساهمت في إعادة النظر بنظم تعليمية في بلدان عاشت تجارب مماثلة لبلداننا، ومن ثم تفوّقت على الظروف وأبدعت؛ كاليابان على سبيل المثال لا الحصر.
بعيداً عن الكتابة الرّسمية، وفي حلقات مجتمعيّة، كلّنا نلاحظ انقلاباً في عادات وحياة هذا الجيل، جيل شباب الحرب، إذ أخذت المقاهي تنتشر في كل مكان، وأصبح روّادها من أبناء وبنات العشرينات يمكثون لساعات ويدخنون النرجيلة.
أما الشباب الطموح، الذي يريد أن يدرس ويبني، فهو إمّا على أبواب السفارات بحثاً عن "فيزا"، وإما في البحث عن طريقة ما توصله إلى مدرسة أو جامعة في بلد ما.
أما المكتبات والمراكز الثقافية، فهي خاوية، والكتاب العربي في أسوأ أحواله نشراً وانتشاراً، وذلك لأن القراءة اليوم بين الشباب العربي تعتبر من العادات النادرة.
من هو القادر على تصحيح مسار جيل كامل سوى نظام تعليمي يدرس كل هذه الظواهر ويضع الحلول الاستراتيجية لها، مستعيناً بآخر ما توصّل إليه العلم في دول أخرى كي لا تلي حقبة الحرب حقبة عصيبة أخرى، تعاني خلالها بلداننا من انعدام الكوادر، والافتقار إلى الحلقة المنتجة، والبقاء في حلقة مفرغة يصعب كسرها، والخروج منها.
قد يبدو هذا للبعض سابقاً لأوانه، ولكنه في الحقيقة ضرورة ملحّة، اليوم وليس غداً، لا بدّ وأن تواكب كل الخطوات المهمة التي تُتّخذ من أجل تحرير الأرض والإنسان.