بعد غرق عبّارة السلام في العام 2008 التي مات فيها ما يقرب من 1500 مواطن، تمّ العثور على الصندوق الأسود للعبّارة، وإذاعته في وسائل الإعلام. حتى الآن، يُعدّ حادث عبّارة السلام من أكثر الحوادث إيلاماً للوعي الجمعي المصري، ليس فقط بسبب غرق هذا العدد الكبير من المواطنين الذين يعمل أغلبهم في دولة السعودية ليعيل أسرته، أو لأنهم تركوا في البحر لساعات طوال من دون أن يمر بجوارهم قارب أنقاذ واحد، أو لاستهتار الشركة صاحبة العبّارة والسلطات المصرية بأرواح الناس، فقط لأنهم فقراء، أو للأحكام المزرية التي لا ترقى لمستوى الفاجعة، ولكن التسجيل الصوتي للصندوق الأسود قد أفزع المواطنين، وجسّد حجم المصاب، فقد سمعنا صوت مساعد القبطان وهو يقول: المركب بتغرق يا قبطان..
فيجيبه القبطان: استنى بس...
فيرد المساعد وقد ارتعش صوته بالبكاء: أستنى إيه بس؟ المركب بتغرق يا قبطان..
وفي الخلفية أصوات الركاب وهم يردّدون الشهادتين.
علمنا مصير الركاب رحمة الله عليهم، لكننا حتى الآن لم نعلم مصير قبطان عبّارة السلام. يقال أنه هرب بواسطة قارب صغير، ولا نعلم شيئاً عن أسرته ولم تظهر جثته.
بالطبع حدثت لمصر فواجع أخرى متتالية على مر التسع سنوات الماضية، لكن الجملة البليغة: أستنى إيه بس؟ المركب بتغرق يا قبطان.. بهذا الصوت المتهدّج المرتعش، قد جرت مثلاّ في مصر.
عقب الحادث، ظل المصريون يردّدون على مسامع الرئيس المخلوع محمّد حسني مبارك: المركب بتغرق يا قبطان. علّه يسمع أو يصغي. لكنه لم يسمع حتى خرج الناس عليه في 25 يناير وتخلّى مجبراً عن الحكم في الحادي عشر من فبراير.
ثم توالت الأحداث. حتى وصلنا إلى ما نحن فيه الآن.
حالياً، من المفترض أن السلطة قد عادت بكاملها إلى المؤسسة العسكرية في صورة الرئيس عبد الفتاح السيسي، ومن المفترض أنه أمسك بزمام الأمور حتى تنعم البلاد باستقرار بعد سنوات من الاضطرابات والقلاقل وحكم مفزع للتّيار الإسلامي اقترفوا فيه كل الحماقات والغباوات والدناءات التي كانت في متناول أيديهم في تلك الفترة.
وها نحن صبرنا لمدة عامين في انتظار ذلك الاستقرار المنشود، وأظن أنه قد آن الأوان لترديد تلك المقولة الخالدة بخلود فواجع مصر المنكوبة: المركب بتغرق يا قبطان. علنا نجد أذناً واعية.
داء مصر دائماً ينقسم إلى شقين لا ثالث لهما: الفساد والظلم.
في شق الفساد، كان المستشار هشام جنينة قد حذّر من جرائم فساد تقترف في مؤسسات الدولة، مما من شأنه تكبيد الدولة خسائر فادحة، وتحميل الشعب ما لا يطاق من النوائب. فما كان من رئيس الدولة إلا أن أعفاه من منصبه. ولم تكتف الدولة بعزل الرجل من منصبه بسبب التقرير الذي أعدّه حول الفساد، بل تمت محاكمته بتهمة نشر أخبار كاذبة. ما يعني أن مصر، ولله الحمد، تنعم بالنزاهة والشفافية، وأن ما كتبه الرجل في تقريره محض هراء. ليس لدينا أي فساد، وما ورد في التقرير هو أخبار كاذبة، ولا داعي لذكر حملة اللجان الإلكترونية التابعة للنظام والتي اتهمت الرجل بأنه ينتمي إلى جماعة الأخوان المسلمين.
طيب.. الحمد لله. واحنا نكره؟
لكننا فوجئنا بأن الرئيس السيسي يحدّثنا عن الفساد، وعن أنه لا يتسامح معه، وعن أن الفساد يعوق مسيرة مصر!
ثم ترد أخبار عن تورّط أحد مستشاري مجلس الدولة في قضية رشوة، ثم يتم تأكيد انتحاره في محبسه!
ثم ترد أخبار عن اختفاء 32 مليار جنيه، ثم يتم تكذيب الخبر.
ثم أخبار عن أن الفئران أكلت مليار جنيه، ثم يتم تكذيب الخبر.
ترتفع الأسعار بشكل جنوني، ويخبرنا الرئيس بأننا فقراء "آآآآآآوي"، فيتساءل النائب محمّد أنور السادات عن شراء 3 سيارات في مجلس الشعب بمبلغ 18 مليون جنيه، فتصوّت لجنة القيم بمجلس الشعب بإسقاط عضوية النائب. هممممم... لا واضح أن مكافحة الفساد تجري على قدم وساق.
كلما أشار شخص إلى واقعة فساد تمت معاقبته بدلا من التحقيق في ادعاءاته.
وفي إطار شعار: “من سيتكلّم سيعاقب"، وذلك بانتقالنا إلى الشق الثاني من داء مصر، ألا وهو الظلم، تم تشميع مركز النديم الذي عرف بتعامله مع حالات التعذيب في أقسام الشرطة وإصدار تقاريره بهذا الصدد، وإعادة تأهيل ضحايا التعذيب، وذلك عقب انهمار سيل من حالات الوفاة على إثر التعذيب في عدد من أقسام الشرطة، منها حال تعذيب في كفر الزيات، ومنها حال مجدي مكين، ثم إخلاء سبيل الضابط المتهم بقتله بعد أن قال الدفاع عن القتيل بأنه مدمن مورفين! ولا أعلم أن القانون المصري يقر بأن مدمن المورفين عقوبته القتل في قسم الشرطة.
طب وبعدين؟
المركب بتغرق يا قبطان.
أكلما تحدّث شخص عن سلبيات أو مخالفات تمت معاقبة المتحدّث؟
وإلى متى سيظل الناس يتحملون غلاء الأسعار والفساد والظلم والقهر؟
إذا كان الرهان على أن الناس منهكة ومجهدة، إلى جانب خوفها من داعش والتيّار الإسلامي، فهذا رهان خاسر، هناك نظرية شهيرة تقول بأنك حين تريد التخلّص من فأر دخل منزلك عليك أن تترك له مهرباً، لأنك إذا حاصرته لن يجد بداً من الهجوم عليك ومقاتلتك بشراسة ويا قاتل يا مقتول.
هذا في التعامل مع الفئران، فما بالك بالتعامل مع البشر؟ المصريون ليسوا فئراناً، وإن كانوا فئراناً فهذه ليست الوسيلة المثلى للتعامل معهم.