الناصرة-“رأي اليوم”- من زهير أندراوس:
يقول المثل إنّه مع الأكل تزداد الشهيّة، ربمّا ينطبق هذا المثل على السياسة الخارجيّة لإسرائيل، في كلّ ما يتعلّق بما تُطلق عليه تل أبيب السلام الإقليميّ مع الدول العربيّة السُنيّة المُعتدلة، فعلى الرغم من أنّ القضية الفلسطينيّة، بحسب المصادر في تل أبيب، لم تعُد تُشكّل عائقًا أمام هذه الدول لتشكيل حلفٍ على شاكلة حلف الناتو مع الدولة العبريّة، إلّا أنّ التنازلات المجانيّة التي تُقدّمها هذه الدول، تدفع إسرائيل إلى رفع السقف، سقف مطالبها من هذه الدول، وبالمُقابل تُخفّض من سقف استعدادها للتنازل، هكذا يُمكن تلخيص إستراتيجيّة رئيس الوزراء الإسرائيليّ، بنيامين نتنياهو، لحلّ القضيّة الفلسطينيّة.
وهذه الإستراتيجيّة ليست جديدةً على صنّاع القرار في تل أبيب، في ظلّ حالة الذلّ والهوان، التي تُميّز الوطن العربيّ، ويكفي في هذه العُجالة التذكير بأنّه عندما أقّر مؤتمر القمّة العربيّة في بيروت (آذار-مارس) من العام 2002 المبادرة السعوديّة، التي تحولّت إلى مبادرةٍ عربيّةٍ، كان ردّ رئيس الوزراء الإسرائيليّ آنذاك، أرئيل شارون، بأنْ أطلق العنان للجيش الإسرائيليّ بإعادة احتلال الضفّة الغربيّة ومُحاصرة رئيس السلطة في تلك الأيّام، ياسر عرفات.
ومن الأهميّة بمكان التذكير، بأنّ وزير الأمن آنذاك، بنيامين بن إليعزر، وصف المبادرة العربيّة في حديثٍ أدلى به لصحيفة (معاريف) العبريّة، بأنّها أكبر إنجاز حققته الحركة الصهيونيّة منذ تأسيسها، ذلك لأنّ المُبادرة العربيّة شملت تطبيعًا كاملاً مع إسرائيل، مُقابل انسحاب إسرائيل من الأراضي التي احتلتها في عدوان حزيران (يونيو) من العام 1967.
اليوم، وبعد مرور 15 عامًا على المُبادرة العربيّة، باتت الأخيرة موضوعةً على الرّف، لأنّ إسرائيل رفضتها، وقالت للعرب، وفي مُقدّمتهم السعوديّة: تنازلاتكم ليست كافيّةً. ويتبيّن أنّه بحسب رؤية نتنياهو، فإنّ المعادلة التقليديّة القائمة على التوصل إلى سلامٍ مع الأنظمة العربيّة، بعد حلّ القضيّة الفلسطينيّة، باتت نتيجة الودّ العربيّ معكوسة: السلام والتطبيع مع هذه الأنظمة أولاً، وتحديدًا الخليجية، يجران ثانيًا إلى حلٍّ وتسويةٍ، على المسار الفلسطينيّ.
علاوة على ذلك، بات واضحًا وجليًّا أنّ الودّ العربيّ الزائد يدفع ويُتيح لنتنياهو أنْ يتطلع إلى المزيد، وأنْ يتريث ويتراجع حتى عن المبادرة الإقليميّة، بعد أنْ باتت متاحة، الأمر الذي يشير إلى رهانه على إمكان التطبيع مع هذه الأنظمة، وفي الوقت نفسه إنهاء القضية الفلسطينية، بلا تنازلات، حتى وإنْ كانت شكليّةً.
الإسرائيليون يتهّمون وزير الخارجيّة الأمريكيّ السابق، جون كيري، بتسريب نصّ الوثيقة التي عرضها نتنياهو على رئيس المعارضة في الكنيست يتسحاق هرتسوغ، قبل ستة أشهر، والتي تضمّنت اقتراح تصريح مشترك لتحريك مبادرة السلام الإقليميّة، وكان يفترض بهما أنْ يُلقياه خلال قمّةٍ تجمعهما بالرئيس المصريّ عبد الفتاح السيسي، في القاهرة أوْ في شرم الشيخ، وربماً أيضًا مع الملك الأردنيّ عبد الله الثاني، في مطلع تشرين أول (أكتوبر) 2016. نص الوثيقة، والمبادرة التي لم ترَ النور نتيجة تراجع نتنياهو عنها، من شأنهما أنْ يُفسّرا مواقف وتصريحات وإجراءات اتخذتها إسرائيل والولايات المتحدة ودولٍ عربيّةٍ، ومن بينها زيارات لتل أبيب، في حينه.
ويأتي اقتراح نتنياهو على هرتسوغ، والذي تراجع عنه لاحقًا، بعد سبعة أشهر من قمةٍ سريّةٍ سبق لـ”هآرتس″ أنْ كشفت عنها، في مدينة العقبة الأردنية، في شباط (فبراير) 2016، وشارك فيها إلى جانب نتنياهو الرئيس المصريّ والملك الأردنيّ ووزير الخارجية الأمريكيّ جون كيري. وهذه القمّة، بحسب الصحيفة العبريّة، وما جرى التداول والاتفاق عليه خلالها، كانت الأساس الذي دفع نتنياهو إلى الاتصال بهرتسوغ، للبدء بمبادرة السلام الإقليميّة.
وساقت (هآرتس) قائلةً إنّه في 26 حزيران (يونيو)، التقى نتنياهو بكيري في العاصمة الايطالية روما، وبحسب مسؤولٍ أمريكيٍّ سابقٍ، سأل كيري نتنياهو عن خطته تجاه الفلسطينيين، فكرر نتنياهو أمامه موقفه: مبادرة إقليميّة مع دولٍ عربيّةٍ، كما عرضها في قمة العقبة قبل أربعة أشهر. ردّ كيري بأنّها غير كافية لدفع دولٍ عربيّةٍ، كالسعودية والإمارات العربيّة المتحدّة، لتنضّم إلى مبادرة سلامٍ إقليميّةٍ، واقترح عليه مبادرة إقليمية مختلفة: تشمل المركب الإقليميّ الذي يرغب فيه نتنياهو، عبر مؤتمر سلامٍ إقليميٍّ بمشاركة إسرائيل والفلسطينيين ودول عربيّةٍ سُنيّةٍ، بما يشمل السعودية والإمارات، وكذلك روسيا والصين ودولٍ بارزةٍ في الاتحاد الأوروبيّ، على حدّ تعبير المسؤول الأمريكيّ السابق.
ولكن نتنياهو، أضافت المصادر الأمريكيّة والإسرائيليّة، على حدٍّ سواء، ماطل وتراجع، كعادته، فالرجل يعرف أنّ الدول العربيّة، التي يُطلق عليها لقب الدول السُنيّة المُعتدلة، باتت تضع على رأس سُلّم أولوياتها التهديد الإيرانيّ المُحدّق، والإسرائيليّ يستغّل هذا التخوّف العربيّ حتى النهاية، ويعمل على تأليب الإدارة الأمريكيّة الجديدة، بقيادة دونالد ترامب، ضدّ طهران، وهو الأمر يلقي تأييدًا واسعًا من الدول العربيّة التي تخشى التمدد الإيرانيّ.
واللافت أوْ بالأحرى عدم اللافت، أنّ هذه الأمور تجري في ظلّ تغييب إسرائيليٍّ-عربيٍّ-أمريكيٍّ للجانب الفلسطينيّ، فرئيس السلطة محمود عبّاس، لم يُشارك في أيٍّ من الخطوات المذكورة، وكأنّ القضيّة الفلسطينيّة باتت غيرُ ذي صلةٍ بالنسبة للدول التي تتشارك الهمّ الإيرانيّ. لا بلْ أكثر من ذلك، إستراتيجيّة نتنياهو اليوم ترفض مقايضة لجم التهديد الإيرانيّ بحلّ القضيّة الفلسطينيّة، أوْ على الأقّل بالمُوافقة على عقد مؤتمرٍ إقليميٍّ مع الدول العربيّة السُنيّة.