الكاتب / رقية تاج
بعيدون عن الوطن.. قريبون جداً من جراحه ومآسيه، أرواح هائمة في منافي شدّوا الرحال إليها هرباً من الفقر والظلم والحرب؛ ولا زالت الأخيرة تستعر في دواخلهم، ولا يزالون ينزفون من طعنة الخنجر المغروس في خاصرة الوطن رغم البعد والغربة.
كل أولئك حالات متعددة لأناس فرقّت الحروب والظروف القاسية شملهم، وتختلف أسباب الهجرة لديهم ونتائجها، وكذلك درجة الانتماء للوطن في نفوسهم رغم البعد المادي عنه؛ وهو محل الشاهد في تحقيقنا الذي أجريناه مع أشخاص من بلدان مختلفة التقيتُ بهم على أرض الواقع وآخرين على صفحة (الفيس بوك)، وكان سؤالنا عن بذور الوطن في دواخلهم، ومدى تأثير الوطن الأم والبعد والظروف على نموها؟!
للإنسان ألف حبيبة ووطن واحد!
“قرأتُ يوما أن أشجار البرتقال في حيفا تموت ما أن تتغيّر يد زارعها”.. هذا ما قالته ندى (فلسطينية وتعيش في إحدى البلدان العربية) وتسترسل في حديثها: “لازالت شجرة الوطن في قلبي، فجذورها مغروسة هناك، رغم أنني لم أرَه يوما، فولائي الأول والأخير له وحده، ولا دخل للبعد عن أرضه في درجة حبي له، فالأصل والدم هو المهم، وما زاد من قوة انتمائي له هو خصوصية أرضي الأم فهي ليست مجرد وطن بل قضية أتبنّاها وأدافع عنها، أنا هنا كجسد فقط ولكن روحي هناك حيث وطني وقومي، فبذور الانتماء عندي زُرعت من أيدي والديّ بكثير من الحب والاهتمام”.
أما رُسل (عراقية الأصل سورية المنشأ وتعيش في احدى البلاد الاوروبية) فتختلف مع ندى في بعض من هذه النظرة حيث تقول: “شتلات الياسمين تسلّقت حول جدران قلبي، وعطرها الفوّاح يعبق معي في كل مكان، ومسقط رأسي يرافق مسقط قلبي، والإنسان ينتمي للأرض التي نشأ فيها وترعرع بين زهورها، فتحتُ عيني وانا في هذه الديار الجميلة، ربما كنتُ مختلفة في اللون معهم، لأني كأصل وجنسية لستُ منهم، إلا أن تربتهم ضمتنّي واصناف اخرى وجمعتني مع ابنائها بحب ومودة، فاستحقّت مني كل الوفاء، لستُ ناكرة لأصلي ولكني لم أرَ وطن والديّ إلّا عدة مرات ولم أعش بين أضلعهم فكيف انتمي لمن لا اعرفهم، الانسان يختار أمّه التي ربتّه وكبّرته عن التي أنجبته”.
وعن سؤالنا بخصوص حالها في بلاد الغربة تقول: “اُقتلعتُ من أرضي اقتلاعا؛ فماتت زهرتي هناك، حيث بيتي وزقاقي ومدرستي وصديقاتي وتربتي التي سأرجع يوما اليها وأُدفن فيها، فجذور الانسان إمّا تنمو في أرضها أو تموت في غيرها، ومهما تغربت في البلدان التي قد أحبها مع بلدي الأصلي، ولكني كما يقول نزار قباني: للإنسان ألف حبيبة ووطن واحد!”..
ويوجد من يخلط بين هذين الاتجاهين، وهي إيمان (عراقية عائدة من بلاد الغربة)، وتشاركنا برأيها وتجربتها:
“عدتُ من نصال الغربة الى وطني الأم بعد 33 سنة تغرّب في سوريا وكندا، برأيي ان الوطن هو الحضن الدافئ وهو الأب والأم وقبل كل شيء هو الكرامة، الغربة التي عشتها جعلتني اعرف ان انتماء الانسان الاول والاخير لوطنه (الأم)، عشتُ في أجمل بقاع الدنيا والتي تعتبرها الناس جنة الله على الأرض ولكن ذرة من تراب الوطن تعدل كل ذلك، وكان لي وطن (بديل) كما اعتقدت، ولي حنين دائم له الى الان وهو سوريا، وكنت اتصور انه لن استطيع ان اعود واعيش في العراق وانه انتمائي له، ولكن عندما رجعت لحضن وطني العراق، شعرتُ بكياني وأحسست بمواطنتي وكرامتي، ويوم بعد يوم ازددتُ تعلقا بالعراق وحباً لهذا الوطن العظيم”.
وتردف إيمان قائلة: “أعطتني الغربة نتيجة مفادها أن لا يمكن ان يوجد وطن ثاني كوطن الأم، ومن الممكن تشبيه الوطن البديل بزوجة الأب التي مهما تتحنن على أولاد زوجها ولكنها لن تعوض حنان الأم.
“ان شاء الله سيرجع الأمان للعراق؛ للنخلة التي مهما لفحتها شمس الابتلاءات فهي لازالت واقفة وصامدة كرامتها، ستنفض بلادنا غبار الحروب والحصار وسيرجع كل المغتربين يوماً الى ارضهم الجميلة، ليتفيئوا من ظلالها ويرتووا من فرات مائها”.
غرباء في الوطن
“يُقال أنّ شجرة الأرز اللبنانية تستطيع العيش خارج أرضها إذا أَخذتَ حفنة من ترابها وبذلك ازرعها في أي ركن بالكرة الأرضية”، بهذه المقولة بدأ محمد (_اللبناني الأسترالي_ كما عرّف نفسه)، ويستأنف كلامه:
“كنتُ صاحب أحلام كبيرة فأبحرتُ مع أهلي بمراكبي نحو أستراليا، وعملت على مقولة (تغرّب عن الأوطان في طلب العلا)، للامام علي (ع)، فبدأتُ من الصفر ونجحت نجاحا باهراً، نعم من الممكن أن يكون للإنسان أكثر من وطن، وفي كل منهما بعض منك، ولذلك لم أجد ضيرا من الزواج من فتاة مغتربة و من غير موطني، يعصف بي الحنين دوماً الى بلدي، ولكني عندما أزوره أشعر أني تركتُ جزء منّي هنا، كما حدث للشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري حيث له وطنين كما يقول: إني شآمي إذا نسب الهوى…… وإذا نسبتُ لموطن فعراقي”.
ويضيف محمد: “لم أنسلخ من جذوري فأنا أحاول دائما مساعدة الكثير من أقربائي في لبنان، أؤمن أنه من الممكن أن يبني الانسان وطنه وهو بعيد، وأنا اعتدتُ على هذا المكان، والانسان ابن العادة، نمت شجرتي وكبرت هنا والثمار التي أجنيها أهديها لكلا الوطنين”.
أمّا هنادي (تعيش في احدى البلدان الاسلامية)، فتجيب عن سؤالنا: “ينام الغريب على ظله واقفا، مثل مئذنة في سرير الأبد، لا يحن الى أحد أو بلد”، يمثلنّي جداً هذا القول لمحمود درويش، فأنا غريبة حتى في وطني، لا أنتمي لأي بلد أو مكان، إذا كانت بذور الانتماء قد زرعتها عدّة أيادي وارتوت من عدة مياه، فكيف عساها تنمو هذه الزهرة سليمة؟!.. فوالديّ من وطنين وثقافتين مختلفتين، و رمى القدر بنا في غياهب التشرّد بين البلدان، فهربتُ طوعاً من أصفاد التعلّق والانتماء”.
وتردف قائلة: “هذا الوضع يُحدث في نفسي غصّة عميقة وهو مؤلم ولا أتمناه لأحد، لكن ثمة وجه مشرق لهذه العتمة، فأنا أتأقلم في كل الظروف، لا تتهيّج أشجاني وحنيني مع أقل نسمة تهب عليّ من البلدان التي كنتُ أقطنها، ولكنّي أتلوّى ألما أمام كل آلامهم ومآسيهم من باب الانسانية وليس الانتماء، ومع ذلك فلي هوية وأنا أنتمي لمبادئ وقيم ودين وعقيدة أحملها حيثما حللت وارتحلت، لأن الانسان ضائع بلا انتماء!”.
وكان لنا لقاء مع الدكتور سرمد الدعمي (دكتور علم النفس في جامعة كربلاء) حيث أجابنا عن سؤال موضوعنا: “الانتماء ليس بالقلب بل بالعقل، ومكان الإقامة الاول له الاثر في حب الانتماء، ويعود ذلك الى ما يسمى بذكريات الطفولة التي هي جزء من مكونات شخصية الانسان والتي تتكون عنده في عمر الاقل من ست سنوات، فتبقى مزروعة في ذهنية الفرد، وهي لا تمحى، فكلنا نتذكر ذكريات الطفولة على عكس ذكريات الشباب.
ومع ذلك وعندما تتغير دوافع الفرد وميوله ورغباته التي يجدها تنسجم مع عادات بلد معين، يشعر الفرد أن هذا البلد هو بلده لانه يلبي رغباته ويشبع غرائزه.. والانتماء بالنسبة للمغترب تتدخل به عدة جوانب، مثل الوضع المعيشي في البلد الاساس، أو مدى الكبت الذي عاشه الفرد هناك، وهنا يتحدد مدى الانتماء لديه”.
تلك بذور زُرعت في تربة النفوس، فلمّا عصفت رياح الغربة؛ بقت متجذرة في التربة الأم، وبعضها ضمر ومات، وتلك أينعت في تربة المهجر والثمار تُقطف وتُهدى الى الوطنين، وتلك عادت إلى أرضها وأزهرت فيه بعد شتاتٍ طال، وأخرى عصيّة على النمو فالتربة صحراء قاحلة؛ تلفظ كل بذور الانتماء وإن كانت داخل حدود الوطن!.
المصدر / شبكة النبأ المعلوماتية
مرتبط