بروفايل ما بعد التحرير: انتيكات وكتب وموسيقى من قصص ما بعد الحرب

آخر تحديث 2017-08-24 00:00:00 - المصدر: نقاش

 يحاول الشباب الموصليون نزع ثياب الحرب الرثة عن مدينتهم وإكساءها حلة جديدة، وهنا نماذج لثلاث قصص بعضها مؤلمة وأخرى تبعث على التفاؤل، هي نتاج الحرب وردة فعل عليها من جيل تلقى صفعة مؤلمة وهو يرى مدينته تدمر بأبشع الطرق.

 

فريق شبابي ينفذ عملية انقاذ فريدة

بدأ كل شيء بدعوة نشرتها صفحة موصلية على فيس بوك، وتلقفها مجموعة شباب وبنات، تجمَّعوا سريعا لإقامة فعاليات ثقافية بهدف الدعوة لإعادة احياء مكتبة جامعة الموصل، ثم انتهى بهم الحال الى انتشال آلاف الناجين من تحت الرماد.

 

"رأينا الإعلان على صفحة عين الموصل فقررنا المشاركة لإصلاح ما يمكن إصلاحه، التقينا اول مرة يوم 27 نيسان (ابريل) الماضي امام المكتبة المركزية وقد هالنا ما شاهدناه من دمار فيها، كانت الكتب عبارة عن رماد" يقول اوس إبراهيم أحد المتطوعين في حملة (منقذو الكتب).

 

أصوات كثيرة دعت الى اعمار الجامعة بعد تحرير الجانب الايسر لمدينة الموصل من سيطرة تنظيم داعش وهي من اهم الجامعات العراقية بعد تعرضها لدمار كبير جراء القصف الجوي فقد اتخذها مسلحو داعش مقرا رئيسا لهم، وفي اللحظة الأخيرة من هزيمتهم احرقوا بعض أبنيتها من بينها المكتبة المركزية.

 

في البداية كان هدف الحملة تنظيم فعاليات ثقافية بسيطة في الجامعة بينما الحرب تدور رحاها في الجانب الاخير من المدينة "الخطة تغيرت تماما اذ سمعنا بوجود كتب لم تحترق، دخلنا المكتبة بعدما تأكدنا انها خالية من اية متفجرات، فكان كل شيء متفحماً لأول وهلة، وبعد البحث اكتشفنا ان أعدادا كبيرة من الكتب قد نجت"، يضيف إبراهيم.

 

غرفة دردشة على فيس بوك تضم (23) عضوا، تلك هي غرفة عمليات "منقذو الكتب" حيث يتم تحديد مواعيد العمل، لكن قبل ان تبدأ عملية الإنقاذ انهمك الفريق في إيجاد بديل لنقل الكتب الناجية، فوقع الاختيار على ملعب خماسي مغلق لكرة القدم اتخذه تنظيم داعش من قبل لخزن ما يصادره من ممتلكات المدنيين وما يسرقه من المؤسسات العامة والخاصة.

 

ويصف إبراهيم شعوره بالقول "نظفنا الملعب جيدا وبدأنا ننقل اليه الكتب، كنا كالمنقذين الذين يمنحون فرصة جديدة للحياة لإنسان محاصر بالموت تحت الأنقاض".

 

محتويات المكتبة المركزية كانت تصل الى مليون قبل سيطرة داعش على الموصل وتحولت كلها بين ليلة وضحاها الى رماد، وكان الجميع يعتقد بانه لم ينج شيئا منها، حتى أعلن فريق "منقذو الكتب" نتائج حملتهم التي اسفرت عن إنقاذ أكثر من (34) ألف كتاب.

 

لقد انتهت مهمة هؤلاء المتطوعين، لكن الحملة الأكبر ستكون مهمة شاقة وهي إعادة إعمار المكتبة المركزية وبقية مرافق الجامعة، وهذا بحاجة الى جهد حكومي ودعم دولي.

 

"اوتار نركال" أول فرقة موسيقية تولد من رحم الحرب

عندما بدأ منقذو الكتب بحملتهم رافقهم أربعة موسيقيين عزفوا بحرية كبيرة، هؤلاء كانوا قبل أشهر يجتمعون سرا في منزل ليستلوا آلاتهم الموسيقية من أكياس سوداء ويدندنوا بصوت منخفض، خوفا من جذب انتباه مسلحي التنظيم المتوقع مرورهم من امام المنزل في اية لحظة، فينتهي الحال بهم الى جزار التنظيم.

 

الى مشهد التخفي والتدريب سرا تعود بداية فرقة "أوتار نركال" التي أعلن عن تأسيسها بالموصل في اذار (مارس) الماضي، أربعة شبان عشرينيين، هم حكم ومصطفى عازفا كيتار وخالد يعزف على العود ومحمد عازف كمان، هؤلاء اعضاء الفرقة التي تعد اول فرقة موسيقية تتشكل بعد تحرير الموصل من "داعش".

 

يقول محمد لـ"نقاش"حول ظروف عملهم في ظل وجود داعش "في مدة حكم التنظيم، كنت التقي وصديقي خالد، نعزف بصوت منخفض بينما يراقب احد أصدقائنا الوضع خارج المنزل تحسبا لمجيء عناصر الحسبة الذين يبحثون عن مخالفين لتعاليمهم. رضينا بالقليل من السعادة وسط تلك الحرب وحالة الكبت المطبق، نفترق على امل اللقاء بعد اسبوعين او أكثر".

 

 داعش يحرم الموسيقى والفن عموما، وقد شن عناصره في بداية سيطرتهم على الموصل حملة لإتلاف كل الآلات الموسيقية في المدينة وإذا ما قبضوا على شخص يعزف فان عقوبته قد تصل الى القتل.

 

 عندما بدأت عمليات تحرير الموصل في تشرين الاول (اكتوبر) 2016، لم يعد في الامكان العزف ولو همسا، كان الناس مأخوذين بالحرب كل همهم النجاة منها، الكثيرون خسروا حياتهم واخرون خسروا ممتلكاتهم، بينما فقد بعض الموسيقيين آلاتهم الموسيقية.

 

الشباب الذي أسسوا هذه الفرقة سرعان ما حصلوا على آلات جديدة، والتأم الفريق اول مرة بعد نحو شهر من تحرير الجانب الايسر، "كنا اول من يعزف الموسيقى في شوارع الموصل، ثم عزفنا امام المكتبة المركزية التي احرقها المتطرفون، وامام جمهور موصلي غفير في حفل استقبال قافلة ضمت نحو 150 ناشطا من بغداد والمحافظات الاخرى" يقول حكم عازف الكيتار.

 

يبدو ان العازفين الشباب لفتوا الانتباه سريعا انهم الوحيدون في المدينة تقريبا ويجذبون الناس إليهم حيثما عزفوا، لذا وجهت اكاديمية (Yes Academy) الأمريكية دعوة لهم للمشاركة في برنامج تدريبي بمدينة أربيل، وبسبب تميزهم حصلوا على "توصية" أي أفضل شهادة يمنحها المشروع للمشاركين.

 

هؤلاء الشبان يسعون الى تحقيق حلمهم الموسيقي الكبير وتوسيع فرقتهم لإيصال رسالة الفن والسلام من مدينة دمرتها الحرب والتطرف. يقول حكم: "نحن اليوم احرار، سنعمل كل ما نستطيع في سبيل رسالتنا".

 

تاجر الانتيكات هجر الموصل ويبحث عن بديل

بعيدا عما يجري في الموصل من حملات تطوعية، يجلس في مقهى للمثقفين والفنانين وسط بغداد، يدخن السجائر بشراهة ويقضي جل وقته صامتا قبل ان يغادر الى منزله البديل متأبطا صورا للأشياء التي فقدها في الموصل بعد سيطرة "داعش" عليها.

 

انه محمود الباججي الشخصية الموصلية المثيرة للانتباه، هذا الرجل الأربعيني أحد اهم بائعي الانتيكات، وجد نفسه بين ليلة وضحاها صفر اليدين بعدما فقد كل ما اقتناه من قطع على مدى (13) عاما.

 

يقول الباججي لـ"نقاش" حول  هوايته "بدأت بشراء الانتيكات وجمعها في منزلي بالموصل منذ عام 2003 عندما انهارت مؤسسات الدولة وحدثت عمليات نهب كبيرة لكل شيء، لم يأت ذلك من فراغ لان منزل والدي يحتوي الكثير من اللوحات والمقتنيات التراثية المهمة".

 

"تحول الامر من هواية الى مهنة عندما ازدحم منزلي بأكثر من (800) قطعة فنية، فثارت بيني وبين زوجتي مشكلة لأنها ضاقت ذرعا بهذا الكم الهائل من المقتنيات حتى صارت تمشي على رؤوس أصابعها خشية ان تدوس تمثالا او حجرا ثمينا، فاستأجرت محلا وسط المدينة ونقلت اليه القطع" يوضح.

 

الباججي لم يكمل دراسته الثانوية لكنه يتحدث كأي مثقف مهتم ومطلع على اختصاصه، والمفارقة الاخرى انه مارس وظيفة ومهنة متناقضتين تماما، فهو منتسب في الشرطة العراقية يرابط في نقاط التفتيش بالعاصمة بغداد، ويقضي فترة اجازته في محل الانتيكات بالموصل إذ يلتقي الكثير من الفنانين والنخب المثقفة.

 

 لقد امتلك تحفا مهمة وكان سهلا في الشراء وصعبا جدا في البيع، كما يصف نفسه، لان تعويض أي قطعة صعب جدا بالنسبة اليه. في النهاية سقطت الموصل بيد تنظيم داعش وهو يحتفظ بـ(2000) قطعة فنية جامدة ومئات اللوحات والصور والسجاد.

 

ويقول "كنت يومها في بغداد واتصلت بي زوجتي وهي مرعوبة لان مسلحي التنظيم اقتربوا من منطقتنا، فطلبت منها ان تأخذ اولادي وتهرب فورا، تركنا كل شيء وراءنا وكان المهم ان ننجو بأنفسنا، وفيما بعد بدأت أفكر بمقتنياتي الثمينة فاتصل بأصدقائي للتقصي عنها".

 

ويضيف "لقد سرق عناصر التنظيم منزلي بما فيها القطع الفنية المهمة ثم اقتحموا محلي أيضا وسرقوه، لكن بقيت فيه قطعا كثيرة يجهلون قيمتها، وكنت أمنّي النفس بالتحرير لأعود اليها واستعيد مرة أخرى عالمي الصغير المليء باللوحات والتماثيل والتحف وغيرها".

 

لا يتردد الباججي في الاعتراف بخيبة امله الكبيرة لما جرى في الموصل: "كان عندي منظار بحري قررت ان اهديه ليتم وضعه على تل النبي يونس لمشاهدة جمال الموصل لكن ما جرى قضى على احلامي".

 

ويضيف "حاولت عمل شيء مميز فلم يبق من مشروعي سوى هذا" ثم يلوح بملف صور توثق الدمار والخراب الذي لحق بمحله الذي تدمر جراء العمليات العسكرية وسرق بالكامل قبل اعلان تحرير المدينة في العاشر من تموز (يونيو) الماضي.

 

"ما زالت ارفض اقتناء الآلات الجارحة مهما كانت قيمتها الفنية، انا شرطي لكن أكره السكاكين، أحب الفن والسلام" يهز رأسه للتأكيد.

 

الرجل صاحب الإحساس المرهف يحاول إيجاد عالم اخر له في بغداد، ولان هوايته تجري في دمه فان جدران منزله البديل سرعان ما امتلأت باللوحات والتحف الفنية ويقول "لا أحب الجدران الفارغة".

 

يبدو أن الباججي أدار ظهره لمدينته "أولا يجب ان ترجع الموسيقى الى الموصل ويرجع الفنانون والراقصون والمهجرون خاصة الأقليات الدينية والقومية، عندها أرجع انا أيضا" قال عبارته وهو ينفخ الدخان الى الأعلى وعيناه مغمضتان.