الاستفتاء ليس ورقة ضغط شخصية أو حزبية أو عشائرية، ولا هدف تكتيكي مؤقّت أو استراتيجية تخبّطية، بل هو وسيلة حضارية للوصول إلى الاستقلال، وقرار جماهيري لتحقيق انتصار تاريخي للحركة التحرّرية الكوردستانية، فالشعب خرج لمهرجان كولن التاريخي وبمشاركة وفود أوروبية ومؤسّساتها المدنية، لأن يدلي بصوته الإيجابي بعبارة «نعم للاستقلال، نعم لكوردستان» وبرغبة عارمة في أن يعيش كريماً أبياً غير ذليل أو مُهان في دولته التي تمّ تقسيمها بمؤامرة دولية منحت من خلالها حقاً لمَن لا يستحقها وجرّدت مَن يستحق من حقّه، وبرفضه الكلي لأن يمارس بحقه من جديد المجازر والأنفالات والإعدامات والإبادات والتهجير القسري.
فعشرات الآلاف من المشاركين في مهرجان كولن للاستقلال خرجوا بشكل طبيعي وقانوني وسلمي ضد الواقع المرير والعبودية والاستبداد، فلوّنوا سماء مدينة كولن الألمانية بألوان العلم الكوردي وأطربوا شوارعها بهتافات عالية تطالب بحقّهم وحرّيتهم ، واجتمعوا على قرار أن شعب كوردستان عازم على انتهاء حقوب التبعية والظلم والإقصاء، وسيحارب لأجل الانتماء – انتماء الهوية والثقافة وبناء الدولة الكوردية – بجميع الأساليب الديمقراطية والحضارية والمدنية، وصون كرامة وحُرمة جميع القوميات والأديان التي تعيش في كوردستان، والبحث عن خيارات السلام وعلاقات المجاورة المسالمة.
احتفالية مهرجان كولن كانت صرخة مدوية في عقول المتزمّرين، ففيها الشعب والعلم والصوت الكوردي كان موحّداً، رغم وجود شريحة من المثقفين والسياسيين الكورد الذين انخدعوا تحت ضغوط متنوّعة بالفصل بين الأجزاء الكوردستانية أو الحالة المناطقية، دون معرفتهم التامة أن هذا الفصل أو المناطقية الجغرافية هي من أحد أهم الخطط التي ركّزت عليها أعدائهم وجيرانهم الإقليميين لإضعاف قوّتهم المتواجدة في توحيدهم كَلَكمة في وجه مَن يتربّص بهم شرّاً واستبداداً، إلا أنهم في المحصلة فضّلوا أن يكونوا أتباعاً وعبيداً لأنفسهم «أيّهما أفضل تبعية الكورد للكورد، أم تبعية الكورد للعرب والأتراك والإيرانيين التي باتت “الدين“ سمتها الجوهرية؟» بدل أن يكونوا أدوات وقرابيناً تستخدم في حروب مغتصبيهم وصراعاتهم الأزلية، فيها الأجزاء الأربعة من كوردستان توحّدت في جزء واحد.
وتكمن أهمية هذا الحدث التاريخي، والذي يقام لأول مرة كحالة كوردية جديدة طغت عليها البصمة الشبابية والروح الصادقة لأبناء غربي كوردستان من حيث قوة المشاركة والتنظيم الفعّال والبعيدة عن العمى الحزبوي الضيق ، وأيضاً في السياق ذاته تؤكد الصديقة “دوزكين حَمي“ عبر ما كتبته في صفحتها على hgفيس بوك: «إنه مهرجان كبير، خاصة هذا الإقبال الهائل عليه من المشاركين الكورد، بالتأكيد ليس بالأمر الغريب إنما الأهميّة تكمن في المكان الذي تم فيه هذا الحدث، كدعم أوروبي للاستقلال، وإلّا لما كانت ستسمح لتجمعات غفيرة بهذا الحجم والشكل في شوارعها، أولاً وثانياً أغلب المشاركين حضروا المهرجان لإيمانهم بقضيتهم ولروح الكوردايتي ولرغبة شخصيّة حرَة، بعيدين كل البعد عن إجبارهم على القدوم بأوامر أو خطط حزبيّة، فالأجزاء الأربعة توحدت، وثالثاً الضجة الإعلاميّة سيكون صداها فعّالاً كرسالة للعالم وللعرب لا لإثبات الوجود بل للتأكيد على حق هذا الشعب العظيم في وطن حرّ».
أما فيما يتعلّق بالخوف العربي والتركي والإيراني من عملية الاستفتاء التي بدأت بهذا المهرجان الجماهيري الضخم، والذي أثبت أن الكورد ماضون في الدفاع عن حقهم، وأن هذا الحق الشرعي يُؤخذ ولا يُعطى كحسنة أو شفقة، سأسأل القرّاء والمثقفين وكل مَن يرفضون قيام دولة الكورد ويصرّون على أن يعيشوا معهم بوحدة ترابية ولغوية وثقافية، وعليهم أن يحكموا بعقلهم قبل ضميرهم ويجيبوا على أسئلتي: «هل أستفتي الشعب الكوردي لأن يلحق بالعراق أو سوريا أو إيران أو تركيا؟ هل سألوا الكورد إن كانوا راضين بالبقاء في تلك الدول القمعية الشوفينية بنسبة 95% إن لم تكن أكثر؟! هل احتكم إلى أية محاكم في تقسيم كوردستان وإعطائها لتلك الدول بموجب معاهدة سايكس – بيكو أو لوزان أو سيفر؟ أتقبلون بإعادة هذا السيناريو الأسود على جبينكم ببقاء الشعب الكوردي منقسماً بين سياسات التتريك والتعريب ودكتاتورية الخميني في الشرق الأوسط الجديد وعلى نفس الأيادي؟» فإن كنتم لم تعطوا قطرة دم لرسم حدودكم، فالكورد أعطوا أنهاراً من الدم، وسينتزعون حريتهم وحقوقهم مهما كلف من الدم والدمع والدمار.
ولكن في النهاية لا بدّ للجميع من إدراك حقيقة أن الموازين تغيّرت والأدوار استبدلت، فمَن كان في الأمس مجرّد ورقة «جوكر» بيد اللاعب يستخدمها في السرّاء والضرّاء وتماشياً لأهوائه، أصبح اليوم هذا اللاعب «جوكراً»، وهو ما ينطبق في الوقت الراهن على الكورد وقضيتهم، الذين تحوّلوا من ورقة إقليمية بيد أعدائهم إلى لاعب إقليمي وذو وزن كبير «وأي لاعب؟!»، إنه لاعب يمتلك رئيساً كالبارزاني بحكمته وصبره اللا محدودين، وبجيش قوي مدرّب كقوات البيشمركة، وتراكم الخبرة السياسية الأكاديمية والتجربة العملية في النضال والحكم وإدارة مناطقهم، خاصة في ظلّ اعتقادات تشير بأن الاستفتاء لا يعني بالضرورة إعلان استقلال كوردستان، وأنه فقط تكرار لسيناريو 2005 الذي جلب للكورد مكتسبات محدّدة دون حصولهم على حقّهم العام والمتمثل بالدولة الكوردية، ولكن هذه المكتسبات تطوّرت واستثمرت نتائجها مع فشل الشراكة الكوردية – العراقية وعدم التزام حكومات (الجعفري والمالكي والعبادي) بتنفيذ ما وقع على عواتقها من اتفاقات ووعود، إذاً فمهرجان كولن للاستقلال سيقفز بالكورد إلى صدارة الملفات الدولية الواجبة حلّها والوقوف إلى جانبها ونقلها إلى مرحلة جديدة.