ما مقاييس التوقيت المناسب لشعب يريد إجراء استفتاء على تقرير مصيره؟. لو طرحتَ هذا السؤال على أحد المعترضين على الاستفتاء بذريعة أن التوقيت غير مناسب فإنه غالباً سيعجز عن الجواب أو سيسرد شروطاً لن تجتمع ولن تتحقق أبداً. وبغض النظر عن مواقف الدول المجاورة (التي لن تعترف بهذا الحق يوماً) ومواقف الدول البعيدة التي تتحفظ على التوقيت فقط، فإنه كان من المتوقع أن يكون للكورد موقف واحد بالمطلق وهو "نعم" للاستفتاء على تقرير المصير ومن ثم "نعم" للاستقلال، نظراً للتضحيات التي قدموها عبر التاريخ للوصول إلى هذا اليوم.
على الرغم من ذلك هناك فئة كوردية أرادت أن تخرج عن نواميس الطبيعة البشرية في هكذا حالات وتختار "لا". هذه الفئة لم يكتفِ أفرادها بالتعبير عن مواقفهم الفردية، بل ذهبوا لتنظيم حملة للترويج لـ"لا". كما أن ثمة طرفاً سياسياً كوردياً قرر ألا يسهم في إنجاح "نعم" لاستقلال كوردستان إلا إذا ضمن مكاسبه الحزبية أولاً، متذرعاً - مثل الفئة الأولى - بأن التوقيت غير مناسب (ومن المؤكد أنه سيصبح مناسباً إذا تحققت مطالبه الحزبية). فهل حقاً يحتاج التصويت على تقرير المصير إلى ظروف أخرى وأفضل؟ وما هذه الظروف؟ وهل ستتوفر يوماً ما؟. للوقوف على مسألة التوقيت سننظر إليه من خلال ثلاثة عوامل: داخلي وإقليمي ودولي لاستكشاف مدى إيجابية التوقيت لكل عامل بالنسبة إلى موضوع الاستفتاء ومدى سلبيته.
العامل الداخلي أو المحلي
يمكن النظر إلى هذا العامل من زاويتين: سياسية وعسكرية. من الناحية السياسية لاشك في أنه كان هناك اضطراب في السنوات الأخيرة يشوب العلاقات الكوردية الكوردية، وهو ما أثر في عدم الإجماع على موضوع الاستفتاء الذي بدا في البداية وكأنه خاص بالحزب الديمقراطي الكوردستاني، ولكن بعد انضمام الاتحاد الوطني إلى العملية وكذلك الاشتراكي ومن ثم اجتماع خمسة عشر حزباً من مختلف المكونات صار الأمر محل موافقة الغالبية السياسية العظمى داخل الإقليم؛ إذ لم يبق خارج الإجماع سوى حركة التغيير والجماعة الإسلامية. ووجود حزب أو اثنين خارج قرار كهذا لا يعني خطأ توقيته، علماً أن في حالات الاستفتاء يؤخذ رأي الأغلبية الشعبية وليس الإجماع الحزبي؛ فإذا حصل المشروع على أغلبية الأصوات لا يعود للإجماع الحزبي إلا قيمة معنوية. ومن غير الحكمة - في كل الأحوال - تعطيل مشروع يتعلق بمصير شعب أو أمة بذريعة أن أحد الأحزاب (حردان) ويعطل البرلمان ولا يرضى إلا بفرض شروطه هو. إذن لا غبار على اجتماع غالبية الأطراف السياسية الكوردية وغير الكوردية داخل الإقليم على قرار الاستفتاء. والدليل على ذلك أن أكثر من خمسة عشر حزباً صوت على القرار وأن ممثليها موجودون داخل اللجان المنظمة ولجان التفاوض مع بغداد والعواصم الأخرى.
أما عسكرياً فالكورد باتوا يمتلكون قوة من الأفراد ومن العتاد لم يمتلكوها يوماً من قبل. فقد كانوا في طليعة القوى التي تصدت للإرهاب وأكفأها وأكثرها إخلاصاً في ذلك، ولم يعترف العالم بتلك القوة يوماً ولم يرفع لها القبعة كما يفعل اليوم. وللمرة الأولى يخوض الكورد حرباً ضمن قوات تحالف دولي وغرف عمليات مشتركة بين البيشمركة وتلك القوات لإدارة المعركة. وأكثر من ذلك صارت بعض تلك الدول تدرب قوات البيشمركة وتسلّحها بصفة مباشرة وتضع خططاً لإعادة بنائها على أسس حديثة، وفي كل ذلك من الدلالات ما فيها. ولذلك فإن العامل الذاتي الداخلي سياسياً وعسكرياً وشعبياً عامل مساعد إلى درجة كبيرة وإن حاول بعضهم لغايات خاصة بهم تصوير الأمر بغير ذلك.
العاملان الإقليمي والدولي
دول الجوار المعنية بالأمر مباشرة إيران وتركيا ولأسباب داخلية معروفة ترفض الخطوة وتتذرع بأنها ستقضي على وحدة العراق وستجلب مشاكل للمنطقة. وهو موقف لن يتغير في أي زمن قادم، ومن ينتظر تغير هذا الموقف يشبه من ينتظر أن يتغير موقف الذئب من الحَمَل. أما الدول التي لها علاقات جيدة مع الكورد مثل دول الخليج فقد التزمت الصمت (كحال كل الدول العربية) الذي يُفهم منه بأنه علامة رضى أو "لا مانع" على الأقل . أما أمريكا وأوربا فقد قالت إن ذلك من حق الكورد ولكن التوقيت غير سليم لأن الأولوية الآن لمحاربة داعش وتقوية الصف الوطني العراقي بعد تحرير الموصل. وهو موقف غير معترض على الحق بل على الوقت. ويشبه ذلك موقف العراق صاحب الشأن مباشرة، فقد اعترف بأن ذلك من حق الكورد ولكن التوقيت غير مناسب ويحتاج إلى تسويغ دستوري. كل هذا يعني أن الرفض المبدئي الحقيقي لا يأتي إلا من طرف طهران وبدرجة أقل من طرف أنقرة. وما عدا ذلك فإن المواقف مشجعة سواء في سكوتها أم في لغتها المرنة.
من الواضح والمتفق عليه أن الكورد خلال السنوات الماضية باتوا موضع اهتمام العالم وإعجابه لأنهم أثبتوا في كل من سوريا والعراق أنهم الطرف الوحيد الذي حارب الإرهاب بجدية تامة وتمكن من هزيمته. وبذلك باتوا تحت الضوء وفي طليعة موضوعات الصحافة العالمية ومحاور للندوات والمؤتمرات لشهور طويلة، وهذا ما جلب معه إحياء للقضية الكوردية حتى ظن أصحابها للحظة أن العالم قد تخلى عن موقفه السلبي تجاههم وأنه حان الوقت كي يصحح خطأه التاريخي الذي ارتكبه بحقهم قبل قرن. هذا الاهتمام والدعم العالميان كانا من العوامل التي شجعت الكورد على المضي في مشروعهم القديم الجديد المتمثل بالمطالبة بإقامة دولتهم المنشودة. وربما تلقوا على الأقل ضوءاً أصفر من بعض الدول شجعهم على إعلان موعد الاستفتاء الذي كانوا على وشك إجرائه قبل ثلاثة أعوام فمنعه احتلال داعش للموصل ومهاجمته لمناطق الإقليم عام 2014.
وبغض النظر عما إذا كان ذلك الضوء أصفر أم أخضر فإن انتهاء أمر داعش وعودة الأمور إلى ما كانت عليه قبل صيف 2014 سيؤدي آلياً إلى تراجع اهتمام العالم ودعمه للكورد عسكرياً وسياسياً وإعلامياً. وهذا سيؤدي بالضرورة إلى عودة من يحكم العراق والدول المعنية الأخرى إلى ممارسة ضغوطها على الكورد وربما تهديداتها لهم من جديد . وستعود تلك الأنظمة إلى اتفاقاتها ومؤامراتها ومساوماتها على الكورد وقضيتهم كما كانت في السابق، فهل أصحاب "لا" ينتظرون عودة تلك الظروف إلى ما كانت عليه ليكون التوقيت مناسباً لهم؟؟. أما الآن فإن تلك الأنظمة فقدت الكثير من قوتها وتماسكها الداخلي وتفككَّ جزئياً تحالفُها التاريخي ضد الكورد نتيجة لما حصل في كل من سوريا والعراق وتغير الموازين والأولويات لديها، كما أن علاقاتها الخارجية مع العالم في أسوأ درجاتها. كل ذلك يشكل عاملاً إقليمياً مساعداً وفي غاية الأهمية وقد يزول لاحقاً.
شعوب المنطقة المعنية مباشرة بالموضوع صارت أكثر تقبلاً للحق الكوردي بغض النظر عن الصيغ والأشكال المطروحة، وأما تلك البعيدة فإنها تراه حقاً طبيعياً من دون أية حساسية في هذا الخصوص. أضف إلى ذلك أن أصدقاء الكورد من الكتاب والمثقفين من العرب والأتراك ممن يقرون لهم بحقهم في تقرير مصيرهم هم الآن أكثر من أي وقت مضى. إضافة إلى ما سبق ما زالت حاجة العالم بالكورد قائمة وفي أوجها حتى الآن وقد تتراجع بانتهاء قضية محاربة الإرهاب. لكل ذلك فإن أية خطوة كوردية نحو الأمام يجب أن تتم الآن وليس غداً.
لكل تلك الأسباب والعوامل كانت خطوة تحديد موعد الاستفتاء في 25 أيلول/ سبتمبر اختياراً صائباً لأن كل تلك الظروف إلى جانب القوة التي اكتسبها الكورد لن تجتمع في زمن آخر غير هذا الزمن . وهي من جهة ثانية اختبار للعالم الحر؛ فإذا كان يدعم الحق الكوردي كما يدّعي فإنه لن يتأخر هذه المرة لأنه أمام فرصة استثنائية له أيضاً بعد أن قدم الكورد صورة ناصعة عن فكرهم وروحهم المسالمَين. أما إنْ لم يدعم ذلك الحق اليوم فإنه لن يدعمه أبداً، وبالتالي لا حاجة بنا لانتظار زمن آخر "مناسب"، وعلى الكورد بعد ذلك أن يبحثوا عن صيغة أخرى للتعايش مع تلك الأنظمة في جغرافياتهم المختلفة. نعم، إنه الزمن الصائب، ومَن كان مع هذا الحق سيقول "نعم" اليوم، ومن ليس معه لن يقول "نعم" أبداً؛ إنه باختصار وضع العالم أمام مرآته وعلى المحك ...
نتيجة وختام
إذا كانت جبهتك الداخلية متماسكة (إلا قليلاً) والدعم الشعبي كبيراً، وإذا كنتَ في أوج قوتك العسكرية وروحك المعنوية العالية، وإذا كنت أحد مراكز الاهتمام في العالم، وإذا كان خصومك في أضعف حالاتهم منذ عقود وفي حالة صراع وتصادم، وإذا كانت مواقف أولئك الخصوم من قضيتك لن تتغير أبداً في أي ظرف أو زمن قادمين، وإذا كنت على يقين من أن زمناً لن يأتي ليقول فيه خصومك: "تعالَ أيها الكوردي، هذه كوردستانك فخذها"، وإذا كانت مواقف شعوب المنطقة قد تغيرت كثيراً وبات كثير منها يرى أن للكورد حقاً يجب دعمه، وإذا كان أصدقاء قضيتك من المثقفين والكتاب في تزايد مستمر، وإذا كانت كل دول العالم تعترف بحقك وترى فيك قوة تريد السلام والتعايش المشترك، وإذا لم يكن بينك وبين أية واحدة منها أية مشكلة، وإذا كان كثير منها تدعمك بالسلاح وتقف معك وتزورك وتستقبلك، وإذا كان كل ذلك (مجتمعاً في وقت واحد) يحدث لأول مرة في تاريخ الكورد فهل سيأتي ظرف مناسب أكثر مما هو متوفر الآن ؟؟.
الزمن الذي يكون فيه خصومك في أسوأ حالاتهم وعلاقاتهم وتكون أنت في أفضل حالاتك وعلاقاتك هو الوقت الأنسب الذي تقرر فيه تصحيح التاريخ. فإن لم ينجح مسعاك في النهاية فاعلمْ أن سبب الفشل ليس التوقيت الخطأ بل وجود خلل في المعادلة يجعلها مستحيلة الحل. وحينها لن يبقى أمامك سوى أن تسكت وتستريح ...