محاولة تعريف بـ"شارع الحرية" للأستاذ إبراهيم يوسف

آخر تحديث 2017-10-09 00:00:00 - المصدر: باسنيوز

بدايةً أودّ القول بأني أحد الذين يقرؤون الروايات العالمية الحديثة بشغفٍ واهتمام، ولديّ عددٌ لا بأس به مما كتبه كبار الروائيين باللغتين الألمانية والانجليزية واحتفظ بما عندي لأني أحب الأسطورة والحكاية والقصة حباً جما، وكان أوّل مقالٍ لي بالكوردية في أواخر ستينيات القرن الماضي عن الأسطورة والقصة الكوردية، نشرت منه تحت اسم مستعارٍ آخر جزأين في (كلستان) التي كان يصدرها الأستاذ المرحوم جَكَر خوين. المهم في تعلّقي الطويل الأمد هذا بالسرد والرواية هو أن أتابع قراءة المادة التي بين يدي حتى نهايتها، وقليلٌ منها لم أقرأه حتى النهاية، أمّا رواية "شارع الحرية" التي أهداني منها الأستاذ إبراهيم اليوسف نسختين، إحداهما قبل طبع النص على الورق، أي النسخة الالكترونية، والأخرى بعد أن أعاد نسخ الرواية الصادرة عن دار (أوراق للنشر والتوزيع – القاهرة:) في ألمانيا لدى مؤسسة (برينت أوت) في مدينة (كاسل)، بجهدٍ شخصي، فقرأت النسختين، بمعنى أني مشيت مرتين في (شارع الحرية) الكائن في مدينته / روايته التي تبعد عني آلاف الكيلومترات، وأنا نادراً ما أعيد قراءة روايةٍ بعدما انتهيت منها... وقد يتساءل البعض: لماذا لا تكتب شيئاً عن الروايات الأخرى التي تصدر عن كتّابٍ كوردٍ مرموقين أيضاً؟ فأقول: "أنا أكتب عن الكتب التي تصلني من الأصدقاء كهدايا، والهدية تستحق الحديث عنها، ولو بكلماتٍ على الأقل. وفي أرشيفي عدد كبير من تعليقاتي وتعريفي للكتب المؤلفة من الإخوة والأخوات الأعزاء، بالكوردية والعربية، وهذا لا يعني أني أهمل قراءة نتاجاتٍ أخرى، فليكن هذا واضحاً للقراء الكرام.  

 الأستاذ إبراهيم اليوسف غنيّ عن التعريف به، فهو ابٌ لعدة سلالات كتابية في مجال الشعر والسيرة والقصة والرواية والنقد والبحوث والدراسات، وله العديد من النتاجات المطبوعة بالعربية في سوريا ومصر ودولة الإمارات وألمانيا الاتحادية والعربية السعودية وجنوب كوردستان، كما له العديد من الكتب غير المطبوعة والتي تنتظر الطبع والنشر، وإحدى رواياته (شنكال نامه) مترجمة إلى اللغة الكوردية ومنشورة على شكل نص الكتروني، إلاّ أنني لم أتعرّف على هذا الكاتب المتعدد الاهتمامات والنشيط، إلاّ لدى زيارته إلى ألمانيا مع الأستاذ الشهيد والمناضل الكبير مشعل التمو، الذي كان يراسلني أحياناً عبر الانترنت، وطلب مني كتابة مقدمة لكتابٍ من كتبه، فوافقت بالتأكيد. وفي تلك الزيارة حيث تكلّم الأديبان حول "انتفاضة 2004 الكوردية" في غرب كوردستان، أمام مئاتٍ من المثقفين والناشطين الكورد، شعرت بأن الأخ إبراهيم اليوسف قد أصيب في فؤاده لما جرى في القامشلي وسواها من قمعٍ واضطهادٍ يقابلهما انتعاشٌ عظيم لإرادة شعبنا الذي لن يزداد إلا عزماً وتصميماً، في حين أن الأستاذ مشعل التمو، السياسي والأديب، الذي له علاقاتٌ واسعة مع المحيط السياسي الكوردي والعربي، متذمّر من موقف الحركة السياسية الكوردية وعلى الطريق لحفر خندقٍ جديدٍ مسلّح بزبر الثقافة والتضحية في مواجهة الظلم والاجحاف السائد في البلاد، وتوقعت أن تصدر عنهما كتبٌ أعمق وأوسع مما تحدثا به في ندوتهما تلك في مدينة (هيرنه) الألمانية، فالمسألة متعلقة بمصير شعب وبحقوق الإنسان. ولذا لم أجد غريباً تأليف هذه الرواية ذات الغلاف الذي يعكس أنقاض المدن السورية وتحطيم الإنسان فيها، من قبل الأخ إبراهيم اليوسف، مثلما لم أجد غريباً سقوط الأخ مشعل التمو شهيداً في ساحة النضال لأن النظام الدموي ما كان ليتحمّل رجالاتٍ من الكورد، مثله ومثل الشيخ الدكتور محمد معشوق الخزنوي، اللذين كتب عن كلٍ منهما إبراهيم اليوسف كتاباً خاصاً به، وهذا يدل على عمق فهم كاتبنا العزيز للمأساة الكوردية في غرب كوردستان.

لدى قراءتي لنص الرواية تذكرت المخرج الإيطالي الراحل فيلليني وهو يقوم بإخراج فيلمه الخالد (روما)، وهو يعطي أوامره الذكية والدقيقة لكاميرات المصورين بضرورة عدم نسيان أي جزئيةٍ من جزئيات مدينة روما، التي ظلت قروناً عديدة أهم عواصم الامبراطوريات البشرية، بحيث اشتهر المثل (كل الطرق تؤدي إلى روما). وكما أن فيلليني تتبّع أحداث وتاريخ وأناس المدينة بعاداتهم ولباسهم وتناولهم (السباغيتي) والفاتيكان وآثار حضارة الرومان العظيمة وموسيقاهم الرائعة، ولقي بذلك تصفيقاً عجيباً لدى العرض الاوّل لفيلمه كأحد أعظم الأفلام التي أخرجتها السينما في التاريخ، هكذا شعرت وأنا أسير برفقة إبراهيم اليوسف عبر صفحات روايته التي تخلّد معها صفحاتٍ هامة من تاريخ مدينة القامشلي، بل من صفحات المأساة الكوردية أو الإنسانية في القامشلي.

لقد قسّم الروائي البارع تضاريس روايته إلى 40 تلةٍ ووادٍ وبحيرة أو يزيد، في مائتي صفحة، وأعقبها بأسئلةٍ ونقدٍ ذاتي وتوضيحٍ وكأنه يكتشف معنا أن بطل الرواية هو الروائي نفسه، وأن الرواية وشارع الحرية والأحداث كلها جزءٌ منه هو بذاته، وأنها قصته الشاعرية الشخصية في الوقت ذاته، فيحاول التوضيح والتعليق على عمله، في صيغة روائية أيضاً.

هذه ليست رواية كلاسيكية كالروايات التي أقرأها في الفترة الأخيرة، ولذلك يذكّرني (شارع الحرية) أيضاً بما تركه لنا فرانز كافكا، الروائي العالمي، حيث نجد لدى كافكا التداخل وسحب القارىء من يده بشدة، عبر المكاتب التي لا تحصى للبيروقراطية الأوروبية، والتزاحم العجيب للفلسفة والأدب والتأزم النفسي لعالمٍ ليس له سوى نهاية واحدة، السقوط في مهاوي لا نهاية لها من الإحباط واليأس.

ومن ناحيةٍ أخرى، فإنه يخرج في بعض الفصول من حالة الرواية إلى حالة التوصيف السياسي وابداء الرأي المباشر وبدون قناع للحالة المتردية للتنظيم السياسي في مدينته القامشلي، وهو بعيدٌ عنها آلاف الكيلومترات أو يسير حذراً وخائفاً من اغتيالٍ أو تصيّدٍ مشؤوم من قبل كارهي الحرية والصراحة والوطنية.

كما أنه يلجأ في بعض الفصول إلى شرحٍ واسعٍ وتفصيلي للتناقضات السياسية والفكرية العميقة في شارع الحرية، ويتطرّق، وهو الكاتب الموهوب، لذكر أسماءَ لشخصياتٍ عديدة وكثيرة وأحياء، أغلبها ملالي (شيوخ) والبعض منها شيوعيون فلم أتمكّن من فهم السبب في تخصيص ما يقارب الصفحتين من الرواية لذكر تلك الأسماء، ولكن هذا لا يقلل من أهمية النص الذي هو مرآةٌ حقيقية لتمازجٍ عجيب بين روائح الورود والنعناع ورائحة دماء الذين سقطوا برصاصات الغدر السياسي، مع خرير الساقية، والذكريات التي تهبّ عبر المسافات والقارات لتطرق طرقاتٍ خفيفةٍ على نافذة الغرفة التي يجلس فيها الروائي للكتابة عن مدينته، عن نفسه، عن أحبته، عن رفاقه في العمل الوطني والثقافي والفكري، وعن الأرض المروية بدماء الشهداء الذين سقطوا بأيدي الأعداء أو بأيدي الإخوة الأعداء.

الرواية بمجملها فصلٌ لا يستطيع القارىء نسيانه، وهي مكتوبة بلغةٍ بسيطة، يتمكّن أي إنسانٍ يجيد القراءة بالعربية من التمتّع بسرده دون حاجة إلى قاموسٍ، وأرى أنّ من الضروري قراءته للتعرّف على عالم الروائي والتوغّل في ذكرياته الجريحة وتوسّد الأرض التي تحيا عليها مدينة القامشلي التي هي بؤرة نار ونور، ومرتع للأيدولوجيات والمكونات المختلفة، فهي غير الروايات التي يتفنن كتابها بالتعمّق في قواميس اللغة العربية التي لا يفهمها سوى المتعمقون فيها. ولكن حبذا لو كانت هذه الرواية المثيرة حقاً باللغة الكوردية لأنها من ألفها إلى يائها مزروعة في تربةٍ كوردية، وفي مرحلةٍ من أدق مراحل الوجود الكوردي في المنطقة التي تعتبر أثرى مناطق البلاد، وفي مدينةٍ من أهم مدن غرب كوردستان، حيث في كل يومٍ تنبت رواية مخضبة بالدماء الزكية لشعبٍ قال عنه شاعر العرب الكبير محمد مهدي الجواهري:

شعبٌ دعائمه الجماجم والدم             تتحطّم الدنيا ولا يتحطّم