وبالتالي لا يمكن لأحد أن يرفض أو يعترض علي ما قامت به شرائح من الشعب الإيراني في هذه المدينة أو تلك ما دام أن التعبير يبقي تحت سقف القانون والمصلحة العامة وضمن احترام الملكية الفردية والملكية العامة.
بيد أن هذا الحقّ وممارسته يدخلان في دائرة الشبهة وسوء الظنّ ورسم علامات الاستفهام حول القائمين بها والمحرّضين عليها، يكون ذلك عندما تتحوّل المطالب المشروعة إلي أقنعة للإخلال بالأمن والنظام والاعتداء علي الحريات والأملاك العامة والخاصة، وتشتدّ درجة الشبهات وسوء الظنّ المحيط بالتحرّك عندما نجد أن أعداء إيران وأعداء الشعب الإيراني يتلقفون هذا التحرك الشعبي المطلبي ويحرّضون علي المزيد منه وتطويره الي العنف ثم يقفزون منه الي أمر آخر يذكر بمطالبهم الأساسية من إيران تلك المطالب التي رفعها أولئك الأعداء في وجه الدولة منذ اللحظة التي انتصرت الثورة الإسلامية فيها، وشنّت علي إيران الحروب وفرضت عليها العقوبات والحصار وتمّ التضييق البشع علي الشعب الإيراني من أجل الضغط علي الدولة للتراجع عن استقلاليتها والعودة الي حال التبعية والارتهان للغرب، كما هو حال جيرانها العرب في المنطقة الخليجية.
لقد خرقت إيران باستقلاليتها الحقيقية عملاً بمبدأ «لا شرقية ولا غربية» ثم بتطورها الاقتصادي الاستقلالي ثم بامتلاكها القوة العسكرية الدفاعية الردعية، ثم ببناء فضاء استراتيجي حيوي إقليمي واسع منفتح علي الحالة الدولية بشكل عام. خرقت إيران بكل ذلك النظام العالمي المفروض علي المعمورة من قبل المنتصرين في الحرب الثانية، وأكدت أن الشعب الذي يمتلك الإرادة والاستعداد للتضحية وتحمل الصعوبات قادر علي إثبات ذاته المستقلة وقادر علي فرض سيادته وممارستها بعيداً عن إملاء الآخرين ثم انه قادر علي امتلاك ثروته واستغلالها بعيداً عن الارتهان للخارج. ثم انه قادر علي مد يد العون للمظلوم المعتدي عليه والذي يريد حرية حقيقية واستقلالاً فعلياً. وأغاضت إيران بكل ذلك منظومة الاستعمار الدولي بقيادة أميركا ما جعلها هدفاً لها من أجل احتوائها وتطويعها وإعادتها إلي بيت الطاعة الأميركي.
لكن إيران صمدت وواجهت وانتصرت وكان انتصارها الاستراتيجي الأخير غير المحدود في الآونة الأخيرة، الانتصار المتمثل بتمكّن محور المقاومة الذي تشكّله مع سورية وحزب الله، في إسقاط مشروع الشرق الأوسط الأميركي، وتبعاً له إسقاط النظام العالمي الأحادي القطبية الذي عوّلت عليه أميركا لتقود به العالم وتقيم عبره الإمبراطورية الأميركية الكونية. ولذلك استحقت إيران بالمنظور الأميركي المعاقبة والتدمير والخراب انتقاماً منها وحجباً لانتصارها في سورية والعراق في مواجهة معسكر العدوان علي المنطقة المتشكّل اليوم بشكل خاص من المثلث الأميركي «الإسرائيلي» السعودي، ومعهم آخرون إقليميون ودوليون أقل شأناً أو أضعف قدرات.
اذن ومع تبلور الانتصار الاستراتيجي الكبير الذي حققه محور المقاومة في سورية والعراق، ومع عجز معسكر العدوان علي المنطقة من حسم أي ميدان لصالحه أو تحقيق أهداف عدوانه في كل من اليمن والبحرين ولبنان، فضلاً عن العراق وسورية، اتجهت قيادة ذاك المعسكر مجدداً إلي إيران بعملية تذكر بتسلسل تنقل الفتنة والعدوان بين لبنان وإيران وسورية التنقل الذي حصل بين الأعوام 2004 و2011، والتي كانت الفتنة تنقل الي مسرح جديد في كل مرة تفشل فيه في مسرح آخر، فبعد ان فشلت فتنة قتل الرئيس رفيق الحريري في العام 2005، شنت «إسرائيل» حرب العام 2006، ولما فشلت تحولت الي القوة الناعمة وكان مشروع فتنة العام 2008 في لبنان، ولما فشل تم الانتقال الي إيران في فتنة العام 2009، ولما فشلت تم العدوان الإرهابي علي سورية في العام 2011، وبعد سبع سنوات من حرب مدمرة ضد سورية هزم العدوان فيها جعل قيادة العدوان تتجرّع الهزيمة ما حملها علي البحث عن ميدان جديد. فكان الانتقال مجدداً إلي إيران، ولهذا كانت تلك الفتنة التي سرعان ما اتضحت خيوطها وخلفيّاتها وسرعان ما سقطت الأقنعة وكشفت الأيدي الأميركية والسعودية و»الإسرائيلية» التي تحرّكها.
إن أهم ما اتضح في إيران من خلال مراقبة ما حصل في الشارع في معرض ما سمي الحركة الاحتجاجية هو الدور الأميركي «الإسرائيلي» السعودي في الموضوع، إذ سرعان ما تحرّك إعلام الفتنة وسفك الدم. وبالطريقة ذاتها التي تحرّك فيها خلال ما سمي زوراً ربيعاً عربياً، ثم مسارعة ترامب الي احتضان حركة «المحتجين» والدعوة لانعقاد مجلس الأمن لبحث الأمر أما «إسرائيل» فقد تعالت أصوات منتقدة التدخل مطالبة بالكفّ عنه التدخل ليس تعففاً بل تنصلاً من فشل إذا حصل.
لقد تأكّد بوضوح أن هناك خطة أجنبية خبيثة تستهدف إيران وتنفّذ بأيدٍ محلية وبمشاركة خبراء أجانب وتتجه لاعتماد سيناريو يشبه ما حصل في سورية، يتوسّل نشر الفوضي وشلّ الدولة ثم الطعن بشرعيّة الحكم فيها، ما يمكن أميركا من التسلل عسكرياً الي إيران ونشر القواعد العسكرية فيها بذريعة مواجهة الفوضي وحماية الشعب الإيراني. وقد يكون شعار محاربة الإرهاب جاهزاً أيضاً في الجعبة الأميركية لتبرير التسلل.
بيد أن المخططين المعتدين تناسوا أو تجاهلوا حقيقة الواقع واستحالة تكرار سيناريو سورية في إيران، وغاب عنهم مدي المناعة والقوة لدي الجسم الإيراني في مواجهة الفتن والعدوان، وتجاهلوا قدرة إيران قيادة وحكومة وقوي مسلحة وشعباً، قدرتهم التكاملية في معالجة الاضطرابات المدارة من الخارج، معالجة نري أنها لن تستغرق إلا أياماً معدودة وتسقط معها المؤامرة ويسقط الحلم الاستعماري مرة أخري.
فقد أتبتت التجربة أن القوي المسلحة الإيرانية مع الشعب الإيراني بكامل الوعي والجهوزية للتصدّي للمخطط الأميركي الفتنوي ودفنه، قبل أن يبصر النور، لكن ينبغي لفت النظر هذه المرة إلي أن الردّ علي المؤامرة لن يبقي في إطار الاستراتيجيات الدفاعية الموضعية، فالردّ مفتوح في المكان والوسائل والأساليب والعاقل من نظر الي البعيد.
وفي الخلاصة نري أن تحركات في الشارع الإيراني هي عمل في الأصل مشروع تعبيراً عن الرأي ومطالبة بما يعتقد أنه حقوق. وهذا الأمر سيكون حتماً محلّ عناية الدولة ومعالجتها، ولكن الخارج الاستعماري المعادي لإيران استغلّ المناسبة وانطلق في تنفيذ مؤامرة تستهدف إيران الدولة والنظام الإسلامي لإسقاطهما والانتقام من هزيمته في الإقليم، لكن إيران بما تملك من قوة مركّبة تتمثّل بقوة الدولة العميقة المتعدّدة مصادر الأمان، وبقوة الشعب الإيراني الواعي الملتزم المستعدّ للدفاع عن ثورته الإسلامية وعن دولة حلم بها، طالما ردّد الدعاء من أجلها طلباً لدولة يعزّ بها الإسلام وأهله ، ومستفيداً من ظروف إقليمية تشكلت بعد الانتصار الاستراتيجي ضد المشروع الصهيوأميركي في المنطقة، ومتكئاً علي بيئة دولية أعقبت سقوط النظام العالمي الأحادي القطبية، إن كل هذا كفيل وبشكل قطعي بإسقاط المؤامرة ومعالجة أسبابها وقطع اليد التي تحركت لإضرام النار في النظام الإسلامي متمثلين ما قال به الإمام الخميني «اليوم الذي أحسّ فيه بالخطر علي الجمهورية الإسلامية ودين الإسلام، لا أقوم بتوجيه النصائح، بل سأقوم بقطع أيدي كافة المتورطين . والعاقل مَن اعتبر! وإيران تملك فوق ما تحتاج من قوة لقطع أيدي المتورطين بالعمل ضد ثورتها الإسلامية، وهذا ما يبعد أي قلق علي مستقبلها ويؤكد الطمأنينة التامة حول وضعها. وبهذا ستكون هزيمة أخري تلحق بمعسكر العدوان ليشهد الشهر الأول من العام 2018 نصراً لمحور المقاومة يراكم ما سجّل من انتصارات في العام 2017..
*بقلم: العميد د. أمين محمد حطيط أستاذ جامعي وباحث استراتيجي
**المصدر: جريدة البناء اللبنانية
انتهي**2054 ** 2342