كلّ نص كتبته نبيهة علاية، تلتمس فيه الطفلة المتشبثة بهويتها وبمدينتها التي كبرت فيها، وحين تغوص في أعماقها، تجد مدينة المهدية بعمق تراثها وآثارها وتاريخها وبحرها الساحر، تجد مسرح الجم الذي اختلجت فيه الموسيقى السيمفونية وكل موسيقا العالم، تجد الطفلة الحالمة التي تعشعش في صدرها وتلهمها انعتاقاً كتونس وهي تحمل رائحة وطنها في دواخلها وتفاصيل طفولتها ومدينتها التي علمتها كيف تقف "حين تخونها ركبتاها، تسند نهدها إلى البحر".
تتجذر في تراب تونس وتقول لها بعمق الحب "محلا سر" فتهمس لها: أيها الإنسان الحر بعثر كل ما ترتدي من العطر حتى تصدح الروح بالورد حتماً، ستشعر حينها كم أنت حر كما الصدى، هكذا كما تتفتق السنبلة في البحر تتجلى فيّها الإنسانة.
نبيهة علاية شابة، ما زالت كطفلة ترعبها المنامات الضالة وتشكل أحلامها على ثديي أمها بمجرد تخبل أصابعها بين شعرها، ما زالت سيدة الصباح (والدتها) تنبعث منها رائحة البن، تكتب قصائدها وتدثر فيها الصباح.
وهي شابة ما زالت على قيد الانسكاب، تنتفض، تثور على نفسها، على ذواتها، لوطن جعلوه سيء السمعة أشبه بحانة تعج بالعطور على جسد رخيص كما تقول.
هي الشابة المتمردة التي تكسر السائد، النابذة بالذكورية والعنصرية، تغوص في كل التابوات، ولا تلتهم سوى لهفة تحترق بها، تنتصر بالعشق الكافر وتنتصر للخطيئة بحواسها السبع كالذي تربيه العاهرة في الظلام، تسد فراغات الضوء، ما زالت تنادي أفكار السوء وتربي الوحدة، وتلين شهوة الماء، والحبر في جسدها كما وما زال الشرقي يقذف من كل قصيدة تكتبها نبيهة علاية.
مرجعياتها الشعرية والأدبية:
بدأت الكتابة منذ المرحلة الإعدادية فكانت انطلاقة الشرارة الدفينة وقتها وبداية الشغف مع جبران خليل جبران، وجدت العالم الذي أبحث عنه أو ربّما الذي يعبّر عنّي في تلك الفترة، حيث أحسست بحرية المشاركة الوجدانية بلا صدام.
ثمة الفكرة التي تنتج فكرة أخرى، ثمة توليد وتفتّق للخيال، ثمة صقل للفضول، هذه البداية المتقدة جعلتني في ذلك الوقت أصدق إني حبيبة نبيّ وإني مشروع أدبي إنساني، في شكل ضوء يلمع في ابتسامتي وعيوني، لا أتحدث عنه وإنما أتوق الى تفجره من خلال الممارسة الحياتية، بقيت بيننا إلى اليوم تلك الحميميّة الروحية، وإن أصبحت شيئاً دفيناً، لكن ألجأ إليه كلما تعثرتُ في خندق الساحة الأدبية التي تحاول الزجّ بي في الحضيض.
الشعور بأنني مميزة باعتباري حبيبة نبي، جعلني أحلق بالفكرة وباللغة، زاد ولعي باكتشاف هذا العالم الساحر فصرتُ ألتهم الكتب وأعيش متعة الانصهار في دواخلها وأنا أعبث بها وأشكّلها في خيالي كما أشتهي فكانت لا تعنيني الأسماء كثيراً بقدر ما يعنيني الأثر الأدبي والمشادّة اللغوية والوجدانية التي تصير بيننا، وأعتقد هذا له تأثير على شخصيتي بأنني لا أحتفظ بالأسماء بقدر ما ترجّني الفكرة والصورة التي تنحت في ذاكرتي.
تريد حالة شعرية خاصة تشبهها:
ثمة مدارس شعرية معتبرة في التجديد قرأت لها، أسماء كثيرة مررت بها في عالمنا العربي أغلبها تكتب الرواية مثل المسعدي، حنا مينة .... وغيرهما، فعالم الرواية يغيرني أكثر. درويش أعتقد أنه كفكرة، كصورة له تجربة مميزة، ألجأ إليه الآن حين أتعب من صفتي، كذلك هناك تجارب تونسية الآن تمثل منعرجاً جديداً في المدونة العربية والعالمية.
تيارات فكرية مختلفة انفتحت عليها، من الفلاسفة وما زلت أقف عندها رغم تصوري في فترة ما بأنني أفلاطونية، لكن الفلسفة تحتاج كل هذه التيارات التي تكمل بعضها البعض من فلسفة ديكارت وصولاً إلى لينين وهيجل فنحن نتعايش معها في كل مرحلة في حياتنا وأعتقد إن الفلسفة لعبت دوراً بخلق تغيير في أفكاري ورؤيتي لما هو حولي، كذلك الانفتاح على تجارب الغرب في قصيدة النثر خاصة والأسس التي تنبني عليها.
طبعاً كل هذا له تأثير على نضج شخصيتي وكتاباتي في كل مرحلة، لكن لا يكفي أن ننفتح على كل هذه العوالم دون أن ننحت في اللغة، ذاكرة جديدة، وأن نخلق أفقا أدبياً جديداً وتشكّلاً متفرّداً حتى نكون مشروعاً أدبياً جديداً ونضيف للمدونة الأدبية. مهم جدّا أن نبني ونبتكر أشكالاً جديدة ومادة فنية مختلفة عمن سبقنا من أسماء أو تجارب سابقة.
أريد أن أنتمي لمدرسة نبيهة علاّية، لا أريد أن أشبه إلا هذه الحالة التي أعيش معها وأتعايش معها بأساليب مختلفة وحالات متعددة، متناقضة، مسالمة، منتفضة، أريد أن أنحت هذه المشادة الكونية الروحية وهذا التخاطر كحالة خاصة بي، حتى لا أقول مدرسة، أريد أن أخلق حالة تشبهني فقط.
كل شيء يستفزها ويدفعها إلى الكتابة:
كل شيء يستفزني وأستفزه حتى أناي فتتكاثف فيّ الحالة وتتفتق إلى عِبَر، تخلق أسلوبها الخاص بها وإن اختلف من نص لآخر ومن شعور لآخر أو من حالة لأخرى والذي ككل مرة ينحت نفس نبيهة علاّية في الكتابة.
التفاصيل تشدني وتحيك هذا الكم من الحالات والتناقضات والتعدد بداخلي الذي يجعلني في حالة بحث دائمة، حالة من القلق، حالة من الدهشة، متعة الاكتشاف بين ما في دواخلي وما هو حولي.
النص يتشكل أحياناً ويفاجئني وهو يأتي مسترسلاً كأنه الوحي، وهناك نصوص تمتص كل هذا وتكتب نفسها وأنا أعيشها في آن واحد كأننا نعبث، نكتب بالكثير من الجنون والضحك أحياناً أو المتعة. ثمة نصوص تعيشني في متاهة وتمزقني، مخاضها يشتتني، يعكر مزاجي ويقلبني رأساً على عقب، أصبح لا أطاق، وهذه النصوص التي تغير حياتي تجعلني اكتشف نفسي، وتواقة لأدرك من أنا، ماذا أريد، أين وصلت؟ كأنها تنحتني فأخلق من جديد لحظة تشكلها أو ولادتها.
تعيش مع النص لدرجة الانحلال، وأجمل قصائدها لن تر النور:
أحاول دائما أن تكون عناوين قصائدي مستفزة تشبهني، من المهم جدّا أن أربك أو أثير القارئ أو السامع لينتبه إلي، أحياناً يكون هناك العنوان وأنا أتخمر مع نص ينبثق فيقول: أنا الذي يليق بهذا النص، وثمة نصوص أتركها بلا عنوان، وأبقى أعيش معها وأرددها فيما بيني وينفلت مني العنوان لأني لا أخرج بسهولة من أي نص أكتبه، أعيش مع النص لآخر نقطة فيه لدرجة الانحلال، والعنوان يكون حسب رؤيتي للمشهد الذي أخرج أو الذي يتراءى لي في خيالي.
قصائدي الأجمل لن تأتي أبداً، سأتجمل بكل ما أتى وسيأتي وأعيش اللحظة، أتمدد وأتقلص في هذه الكثافة الحسية والشعرية المستمرة، دائماً الأفضل هو نهاية والأجمل هو فلسفة عميقة كالموت، وأنا اللاّ نهاية التي ستقف عند الأجمل وطموحها أن تكون هذا العمق الفلسفي الذي يختزل في فلسفة الموت.
اختصار القصيدة في التأنيث هو نوع من الإفلاس:
أنا أرى أنه نوع من الإفلاس لدى الرجل أن يختصر كل تجربته الشعرية في تأنيث قصائدهم وكذلك بالنسبة للمرأة التي تخص كل تجربتها الشعرية في 'تأنيث 'قصائدها أيضاً وهي تكتب عن حبيبها.
التجربة الإبداعية أو الأدبية لا يمكن أن تختزل هنا، بل هي أعمق من ذلك، هناك قضايا تخلق من تفاصيل نعيشها نتحسسها أو حتى نتعايش معها في خيالنا، نحن في حاجة أن نستنزف ذواتنا لنحقق تجربة إبداعية أشبه بمحرقة جماعية تخرجنا منا وتسلخ عنا أجسادنا.
الوسط الثقافي فيه السلبيون أيضاً، لكنها لا تسقط في هذا الوحل:
الوسط الثقافي أو الأدبي فيه من الجيد والسيء والأسوأ، من خلال تجربتي، رأيت من هذا وذاك، ثمة كل ما ذكرته، ثمة أبشع بكثير، ثمة محسوبيات، ثمة دعارة فكرية وثقافية للأسف.
هذا الوسط غير ثقافي، موجود فيه الأحقاد والتقزيم والكره والتشويه، ومحاربة نجاح الآخر كل ذلك موجود، ولكن أنا متعالية، مزدحمة بذواتي، لا أسقط في هذا الوحل وإن صارت 'محاولات' فإنني أرتقي بنفسي وعالمي. أحياناً اكتب موقفي أو أنقد هذا الوضع المتردي والمخزي لأنه من المفروض أن نرتقي بالمشهد الثقافي والأدبي وأن نوقف هذا البؤس.
عالمي كبير وعميق وممتع ويستحق مني أن أستغله وألا أفوت فرصة التوغل فيه لأكتب، وأعتقد هذا هو أجمل رد الاعتبار لنفسي، لأسقط كل هذه المحاولات أو تصرفات بعض الأنفس الصغيرة.
أحاول أن أكون مع الجميع ،وأشتغل على نفسي، و تكويني أفضل من كل هذه الترهات و الصراعات الفارغة التي لا تضيف لي شيئاً جيداً، وأعتقد بحكم التجربة والنضج صرت أكثر وعياً بما يدور حولي ويبقى الحب هو السلاح الأقوى بعد النص الجيد لأفرض وجودي و أحقق ما أريده، كذلك لا أنكر أنني في هذه الساحة كسبت صداقات أشخاص ذات فكر و ثقافة وهذا من الأشياء الجميلة و اللقاءات الإنسانية و الثقافية التي تخلق إضافة لي إنسانياً و كذلك أدبياً، أما الباقي نقيق الأنفس المتصدعة، بعيدة عن الأدب والثقافة تريد أن تفرض نفسها بهذه الأساليب لا لشيء، فقط لأنها تفتقد للمادة الأدبية والحب.
النشر على مواقع التواصل الاجتماعي نقطة مضيئة
إذا عرفنا كيف نستغل مواقع التواصل الاجتماعي ستكون نقطة مضيئة من خلال التواصل الثقافي والأدبي عربياً وعالمياً من حيث القرب والتوسع المعرفي والثقافي، أيضاً فرصة لتجمع المبدعين وتقوية الروابط لإحداث فرص بلقاءات في الواقع هنا وهناك، وكذلك قرب المبدعين الذين لهم تجارب كبيرة مع المبتدئين والمبدعين في بداية طريقهم لتأطيرهم والأخذ منهم وأيضاً فتح لهم المجال للتعريف بهم.
طبعاً كل شيء له إيجابيات وسلبيات، وهنا من الطبيعي وجود الطفيليات في الحقل الثقافي والأدبي يكبر صيتهم باللايكات والعلاقات وبصور البروفايل وغيرهم، تبقى مجرد ظاهرة ستندثر عاجلاً أم آجلاً ولا يصح إلا الصحيح.
لا بد من أخذ التجارب الجديدة بجدية من حيث النقد والتحليل:
أعتقد أن ما يميز الأدب المغاربي والتونسي خاصة هو الاختلاف في المضامين أو المحتوى والتفاصيل التي تحيك القضايا المتطرق لها.
كلما وضعت الثقافة في المؤسسات الرسمية، اختنقت وأصيبت بشلل لأن الإبداع يرفض كل قيد وخاصة حين نتحدث عن قصيدة النثر التي مازالت رغم التجديد وتميز التجارب تواجه المتاعب، فمثل هذه المؤسسات ورغم تغير المشهد السياسي إلا أنها لا تزال تجترّ في أساليب باهتة وتسيطر عليها أصوات صدئة رافضة التغيير والبديل، لم تخرج من الاستعراض الفلكلوري ومنطق القطيع والصوت الواحد بناءً على منظومة فاسدة دكتاتورية لم تنتج سوى أصنام تتحدث باسمها وتقدم صورة رديئة للثقافة والمثقف.
ما زالت تنقصنا الجرأة في التغيير في المادة الشعرية من حيث المضمون والشكل، وأخذ التجارب الجديدة بجدية من حيث النقد والتحليل، فقط بقينا متشبثين بأشكال قديمة في الشعر ونهتم بتصنيف التجارب الأدبية وأفرغنا المادة الأدبية من قيمتها ورسالتها مما خلق صراعات ومعارك وهمية ساهمت في خلق ركود فكري وثقافي جعلتنا نجتر في هذا المشهد البائس.
نحتاج فعلياً إلى التجارب النقدية في قصيدة النثر والنوعيات الجديدة، لماذا كل هذه القطيعة مع هذه النصوص والتشكلات الأدبية الجديدة فحتى اليوم مازال النقاد يهتمون بالتصنيف والشكل الشعري الجامد ومازال البعض الآخر بين رافض وقابل لهذا التشكل الجديد للقصيدة وأيضاً لنصوص أخرى وبقينا نلغي هذا ونعترف بذاك ونطلق أسماء من هنا وهناك. فلا يمكن أن نتحدث عن مشهد أدبي متكامل دون النقد والنقاد متجددين يحرّرون الفكرة ويحفرون بالأبجدية ذاكرة ناطقة متقدة تطلق العنان للخيال وتصنع ثقافة حياة.
تجربتها مع إذاعة المهدية:
إذاعة المهدية كانت فرصة (وكل التجارب فرصاً بالنسبة لي)، وأنا طالبة، وبعد حادث قاتل. شعرت إنها تحدي لنفسي لأقف من جديد وأثبّت نفسي. ربما كان لا بد أن أمر بها، وكذلك التخلي عنها في نظري وقتها لا بد منه. ربما أكرر التجربة الإذاعية إذا استجدت ظروف ملائمة، كل شيء متوقع مني.
تبقى الكتابة في الصحافة هي المفضلة دائماً لعشقي للقلم وهي الأكثر حرية ومتفردة. وطبعاً تجربتي الشعرية جعلتني أكثر نضجاً بأن اكتب وأعبر بأسلوبي الخاص والذي يعتمد على رؤيتي للأمور وتحليلي لها. أكيد هذه مسؤولية كبيرة رغم إنها متفردة، تبقى خاضعة لرقابة ما، حسب الجريدة وأهدافها لكن ما أقوله أنا دائماً، الجريدة تتحمل مسؤوليتها، أنها هي من دعت نبيهة علاية لتكتب في صفحاتها وهي أدرى بهذا الاختيار وبهذا القلم الحر.
لا فائدة مرجوة من الاتحادات الأدبية:
لا أنتمي لأي اتحاد ولست عضواً في أيّ من الروابط الأدبية، لا أرى في الاتحادات الأدبية بأنها ستضيف لي شيئاً، وكذلك لم تقدم شيئاً للكاتب التونسي كقيمة، مازالت هذه الاتحادات بعيدة عن دورها الحقيقي الذي يقدم بالكاتب فمثل هذه الروابط قائمة على التزكية والعلاقات والنفاق والتملق البعيد عن النقد الأدبي. أريد أن أكون حرة في كتاباتي وفي تنقلاتي وفي مواقفي، لا تابعة.
أرى نفسي قريبة من الجميع باختلاف انتماءاتهم لمن يريد القرب، والأهم أن يكون نصي جيداً هذا الذي سيضيف لي بدرجة أولى وللساحة مهما كانت طبيعة الروابط والاتحادات.
أعتقد عضويتي في جامعة الأمم العربية خطوة مهمة وجيدة لأنني أبحث عن الروابط الاجتماعية والإنسانية، أراها نقطة مهمة وأعمل على أن أضيف وأحقق هذه الأهداف التي تقوم على تقوية الروابط الإنسانية والفكرية والثقافية.
جريدة المؤيد الجديد المصرية خطوة معتبرة في مسيرتي، وأكيد كل تجربة ستفتح أبواباً أخرى وتجارب جديدة.