هناك في المنطقة مواجهتان عسكريّتان لم تتطوّرا إلى حربين، مع أنّهما تملكان الكثير من مواصفات الحروب وشروطها. واحدة في الأجواء السوريّة– الإسرائيليّة، بين إسرائيل وإيران، فوق رؤوس السوريّين واللبنانيّين، وبالاستفادة من الفراغ السوريّ وإمعاناً في تفريغه. والثانية في عفرين السوريّة والكورديّة، بين الأتراك الهاجمين والكورد المدافعين، وأيضاً بالاستفادة من الفراغ السوريّ وإمعاناً في تفريغه.
ثمّة إجماع بأنّ روسيا لعبت الدور الأكبر في عدم تحوّل المواجهتين إلى حربين. هذا، بالطبع، لا ينمّ عن تعلّق بالسلام يستولي على فلاديمير بوتين، بقدر ما يشير إلى حرص لدى موسكو على إبقاء الأولويّة لخطّتها السوريّة، ومن ثمّ عدم السماح بالتشويش عليها أو سرقة الأضواء منها. فوق هذا، هناك الموقف الأميركيّ الذي يتداخل فيه الغموض والغرابة، جاعلاً المعنيّين جميعاً ينتظرونه، كلٌّ منهم يمنّي النفس بأن يتبلور لمصلحته.
هذا ما يتيح القول إنّ الوضع الإقليميّ أسرع من الوضع الدوليّ، وأشدّ قابليّة للاشتعال. لا الحسم الروسيّ يستطيع، إلى ما لا نهاية، إطفاءه، ولا التردّد والغرابة الأميركيّان. والآن، بدأت الأكلاف تظهر، أقلّه في حالة روسيا: إسقاط السوخوي في إدلب، ثمّ إقرار موسكو بمقتل خمسة روس «على ما يبدو حتّى الآن» وبجرح آخرين.
إنّ تركيّا لا ترى في شمال سوريّة إلاّ «حزب العمّال الكوردستانيّ»، ولا ترى في أيّ انتصار يحقّقه الكورد السوريّون إلاّ هزيمة لها حيال كورد تركيّا. لهذا يُستبعَد أن تقف عند أطراف عفرين، أو أن لا تحاول التقدّم في وقت لاحق إلى منبج. إنّها يوميّاً تكبح هذه الإغراءات، مكتفيةً بـ «محاولات توغّل».
والكورد، بدورهم، لا يستطيعون أن يطووا صفحة فتحوها حين أحسّوا أنّ فرصة تاريخيّة لاحت لهم ولحقّهم وحرّيتهم.
تركيّا استثمرت في احتضان «داعش»، والكورد استثمروا في قتال «داعش». الطرفان اليوم يستكثران التفريط بما استثمروه.
وإيران بدورها استثمرت في الدم السوريّ، مباشرةً أو عبر ميليشياتها الشيعيّة اللبنانيّة والعراقيّة. وهي، فيما يتحوّل المشرق إلى أطلال وخرائب، طوّرت إستراتيجيّة يراد لها أن تربطها بلبنان، وربّما بغزّة (يلاحظ، بالمناسبة، أنّ «داعش» وإيران هما الطرفان الوحيدان اللذان تمثّل إزالة الحدود الوطنيّة جزءاً عضويّاً من سياستهما). وهذا ما لن يكون من السهل التراجع عنه. القادة الإيرانيّون، بين وقت وآخر، يذكّروننا بعواطفهم هذه.
وإسرائيل، من ناحيتها، تعتبر أنّ أيّ وجود عسكريّ إيرانيّ، أو تابع لإيران، في الجنوب السوريّ، جبهة أخرى تُفتح في وجهها وتهديد آخر لأمنها. هذا ما لن تتراجع فيه، على ما يردّد سياسيّوها وقادتها الأمنيّون بلغة من الوعيد ألفوها وتخصّصوا فيها. خسارة طائرة مقابل عشرات الضربات الجوّيّة الناجحة أمر مشجّع. إنّها تعلّمهم الحذر في توخّي أهدافهم التوسّعيّة لكنّها لا تردعهم عن المضيّ فيها.
وبين احتقان الدول والجماعات في المنطقة، وكلّها مأزومة على نحو أو آخر، ومطامع الدول الكبرى التي تتطلّب التهدئة طوراً والتصعيد طوراً، يُستبعَد أن تُحرم المواجهات «فرصة» التحوّل إلى حروب، ربّما كانت حروباً مفتوحة.
إنّ الأعقل والأشدّ حكمة بيننا هو من يستعدّ للأسوأ.