انتهى مؤتمر المانحين وإختتم أعماله في الكويت, وهناك أخبار عن مؤتمر جديد للتسول برعاية الجامعة العربية الشهر القادم, لم أكن أتوقع هذا الكم الهائل من السخرية وردود الافعال عربيا وإقليميا ودوليا وعراقيا طبعا, والتي تناولت المؤتمر شكلا ومضمونا ومشاركين ..
في تقرير نشرته صحيفة النيويورك تايمز في 13فبراير الجاري تحت عنوان "العراق يريد 88 مليار دولار, المانحين تعهدوا بجزء يسير منه", بقلم مارغريت كوكر و غاردينر هاريس, أثارت اهتمامي عبارة لخصت الموضوع برمته تقول, (( وقد عبر المانحون عن حزنهم مما يراه البعض أنه يرمي الأموال "الجيدة" في ثقب أسود )), حيث صنفت منظمة الشفافية الدولية العراق من بين الدول العشر الأكثر فسادا في العالم, حسب التقرير, وأن الكثير من المليارات والتي خصصت من قبل الولايات المتحدة للمساعدات الإنمائية أختفت مابين عامي 2003- 2012, وتم هدر مليارات غيرها وفق ماتوصل اليه مدققوا الحسابات الامريكان .
ومن الغريب أيضا, وفي كلمته أمام المؤتمر قال تيلرسون وزير الخارجية الامريكي, ان كل شخص فى هذه الغرفة لديه فرصة للمساعدة فى وضع العراق فى مسار جديد والمساهمة فى تنميته على المدى الطويل, واكد قائلا "بان ممارسة الاعمال فى العراق يمكن ان تكون معقدة" ..!؟ .
العراقيون إكتشفوا مبكرا واقع وحجم الفساد الهائل من خلال ترددي الاوضاع المعيشية في الصحة والتعليم والخدمات وحجم البطالة, وانتشار المخدرات بشكل مأساوي, إضافة الى عامل مهم وهو غياب الامن وكثرة التفجيرات والتي باتت ثقافة يومية تحصد أرواح الابرياء لتكرس الفوضى, والقائمة تطول والكل يعلمها, كما علم العراقيون جانبا آخر من أشكال الفساد من خلال الفاسدين انفسهم, وحين أختلفوا فيما بينهم وكما يقول المثل, تظهر الجريمة حين يختلف اللصوص, وهو مايعرف "بالإسقاط السياسي" والذي ظهر خلال السنوات الاخيرة بسبب إختلاف المصالح بين أصدقاء"لصوص" الأمس, لينشروا أمام الملأ غسيلهم القذر من دون خجل .
إشتعلت أيضا خلال الايام الماضية وماتزال وسائل التواصل الاجتماعي وكان معظمها حول الفساد, الكثير منها يدعو لتنظيم مؤتمر لمكافحة الفساد قبل الدعوة لمؤتمر الاعمار هذا, وأيضا هاشتاغ #لاتعطوها # بأيديهم# مؤتمر -إعادة - إعمار العراق .
برنامج "العراق اليوم" الاذاعي, من قناة " دي دبليو " في المانيا, طرح سؤالا على فيسبوك : (يريد العراق من مؤتمر المانحين في الكويت 100 مليار دولار نقدا, فيما يطالب كثيرون ان تنفذ شركات اجنبية مشاريع الاعمار بشكل مباشر, ما تعليقك على ذلك؟) ووردت عليه مئات التعليقات والاجوبة, وكانت في الغالب تذهب الى عدم تسليم الحكومة " سنت واحد " وهي عبارة ترددت لدى الجميع .
كما وقد سخر آخرون بطريقتهم وكتبوا على تويتر, تطلبون منّا نحن الشعوب محاربة المشروع الإيراني, وأنتم تدعمون حكومة بغداد الموالية لطهران بالمليارات , في حين أن النظام الإيراني يخسر المليارات بسبب التظاهرات, أموالكم تزيد النظام الايراني صموداً وعناداً!؟ . وأكد ناشط آخر, أموال النفط العراقي قادرة على تعمير العراق وسوريا أيضا لولا الفساد, إما أن ينتفض شعب العراق ويطهر بلاده من الفاسدين وإما فلا جدوى لأي فرصة لتعمير العراق والنهوض به.
المملكة العربية السعودية في بيان صادر عن سفارتها في واشنطن ذكرت فيه إنها تجدد تواصلها في دعم "عراق آمن ومستقر وموحد". ((وهو التعبير الفعلي الذي يلخص أحلام وآمال الشعب العراقي)), وهو ما تم تأكيده سابقا من خلال اللجنة السعودية العراقية المشتركة برعاية جلالة الملك سلمان, والتي تهدف الى الاستثمار في الزراعة والمشاريع التنموية للتخفيف من معاناة العراقيين .
التقرير خلص الى "أن فشل المؤتمر قد يؤثر على العلاقات الحميمة والدافئة بين ادارة ترامب والمملكة العربية السعودية والامارات" والتي تطورت وتوطدت بعد زيارة ترامب التاريخية للمملكة في مايو/أيار من العام الماضي, وهو تحليل يدعو الى الإستغراب, ويحمل الكثير من التناقض, فالاصل في المساعدات والمنح والاستثمارات هي وصولها الى مستحقيها لتحقق أهدافها الانسانية, وهو ماتسعى الية القيادتان في المملكة والامارات, وليس أن يكون مصيرها الثقب الاسود, كما وصفته الصحيفة في تقريرها .
هذا المؤتمر يذكرنا بالمؤتمر الاول والذي عقد في مدريد عام 2003 وبضغط أمريكي أيضا لانجاح تجربتها الديمقراطية المزعومة بعد الاحتلال وساهمت 73 دولة خلال ذاك المؤتمر بتقديم أكثر من 33 مليار دولار وقدمت الولايات المتحدة مايزيد عن ثلاثة مليارات والبنك الدولي بمثلها ايضا , ولكنها لم تساهم في إعمار أي شيء وليبتلعها بدوره وأيضا الفساد .
من حق الدول والشركات التي تروم الاستثمار في بلد مثل العراق ينهشه الفساد, أن تتردد كثيرا قبل الاقدام على مثل هذه المغامرة غير المحسوبة والمحفوفة بالكثير من المخاطر, فالكثير من الشركات تعرضت للتهديد والاختطاف والابتزاز في ظل غياب كامل للامن وتعدد المليشيات المسلحة والعصابات ومافيات الفساد التابعة لايران .
وكنتيجة طبيعية لم تشارك ايران في هذا المهرجان لانها قرأت وبشكل مبكر العنوان, وعرفت أن وكلائها العراقيون لن يحصلوا على شيء من الممكن ان يصل الى خزائنها عن طريق جيوبهم المفتوحة .
العراق ليس بلدا فقيرا رغم كل الفساد, لايزال يمتلك ثاني أكبراحتياطي عالمي من النفط, ومخزونا هائلا من الغاز, ولم يكن يجدر بساسته الجدد ان يتسولوا عليه عند أعتاب وابواب الآخرين وكانه عاجز كسيح ومعوق , فالمتابع يمكنه الاطلاع على حقائق واضحة تبين عكس ذلك, ففي شهر كانون الاول /يناير الماضي 2018 كانت واردات العراق اكثر من ستة مليارات دولار من النفط وهي ارقام معلنة دوريا من قبل وزارة النفط العراقية على موقعها الرسمي. فهل من المعقول لبلد يمتلك مثل هذه الثروات ان يستجدي ويطرق أبواب الآخرين...