حسب تصورات الكثير من مراقبي المشهد السوري العام، أنه بناءً على تراكمات الشحناء لدى السوريين عامةً والمتطرفين الاسلاميين على وجه الخصوص تجاه سكان تل أبيب، كان من الممكن جداً أن يتم تصفية طلاب الجنة والحوريات الذين اجتمعوا من كل بقاع العالم في سوريا على حدود إسرائيل، باعتبار أن معظم الحشود المقاتلة في سورية تمتلك مخزوناً هائلاً من الكراهية تجاه بني إسرائيل، بل وما لدى تلك الفئة من البغضاء لليهود لو استثمر في مجال الطاقة كقوة شحن، لقدرت على أن تدير معامل ضخمة وفقاً لحجم السخائم المركونة في قاعهم.
ولكن بما أن إسرائيل لديها الإنسان أهم من الآلة، بخلاف دهاقنة المنطقة الذين لا يرون في بني البشر إلا أدوات خُلقت لانتعاشها؛ وبما أن إسرائيل لا تحتاج إلى خلق الاضطرابات ولا إلى التضحية ببعض الأنفار حتى تثبت وجودها من خلال أرواحهم المزهوقة، بكونها موجودة رغماً عن أنف كل حكام وشعوب المنطقة مع كل ما يمتلكونه من الترسانة العسكرية والمادية والبشرية، لذا لا تحتاج إسرائيل للمقامرة برؤوس مواطنيها حتى تكتسب شرعيتها كما هو حال حكام الشرق وتنظيماتهم السياسية، كما أن قوة اسرائيل لا تكمن فقط في الدعم الغربي لها، ولا بما تمتلك من الاستثمارات والمشاريع الضخمة في الداخل والخارج فحسب، ولا تكمن قوتها في نظريتها الدينية باعتبار أن جل النظريات الثيوقراطية ذات خلفيات مشتركة، إنما قوة إسرائيل في إنسانها؛ وفي رؤيتها للإنسان ككائن فاعل ومؤثر ومنجز وذا قيمة بحد ذاته، وفي حرص الإنسان فيها على وجوده ووجودها من خلال إثبات الحضور؛ وليس من خلال الفناء والقتل والذبح كما هو الحال لدى جهاديو الدين الاسلامي؛ فإسرائيل أحد أهم مكامن القوة لديها هو احترامها لإنسانها، وحرصها عليه، واشتغالها لأجل بقائه ورفاهيته، بعكس الطغاة الذين لا يكون الإنسان في حسبانهم إلاّ حطباَ لمواقد رفاهيتهم، ووقوداً لاستمرار ماكينات حكمهم إلى أجل غير مسمى، أو أسواراً تحمي امبراطورياتهم المسماة حيناً بالجمهورية؛ وحيناً بالملكية؛ وحيناً بالدويلات البرلمانية أو الأميرية.
وقد يقول آخرون كان من الممكن أن يتم تصفية هؤلاء الفائضون عن حاجة المجتمع الدولي والمحلي على الحدود السورية اللبنانية، طالما أن ثمة تنظيماً مماثلاً لهم هناك، وهو بحاجة كل حين إلى اختلاق الحروب حفاظاً على ديمومته، والقول بأنه طالما كان ذلك التنظيم الماورائي يعيش على أفكار الغيب ومغرياته فهو بحاجة ماسة للإشتعال الدائم، وذلك من أجل ضمان استمراريته بناءً على طاقات وأرواح باحثي الملذات في الماوراء، ولكن لحسن حظ لبنان أن فيها فئات أخرى، ومشارب شتى تناهض كل تلك الأفكار جملةً وتفصيلا، وتفضل الوجود على العدم، وتتمسك بحق البقاء أكثر من مغريات ما بعد الموت والفناء.
وربما جاء فريق وقال كان من الممكن أن يتم التخلص من تلك المجاميع المهيئة للقتل وسفك الدماء على حدود الأردن، إلاّ أن الحقيقة تقول بأن الدولة الأردنية لا تشعر بأية حاجة لخوض الحروب حتى تنال شرعية وجودها، كما أنها بغنى عن تلك الصراعات التي قد تؤدي إلى تدميرها إن استمر الصراع معها طويلاً، كما أنها لا تحتاج إلى النحر البشري حتى تستمر في الحكم باسم الحفاظ على أمن المملكة أو لأي سببٍ آخر، طالما أن نظام حكمها ملكي ولها مشروعية دولية، وهي بغنى عن حروب إثبات الذات، أو خوض المعارك لاستمرارها في ظل قانون الطوارئ والظروف الاستثنائية، كما تلجأ إلى تلك الحيَل عادةً الكثير من جمهوريات الشرق الأوسط.
ولعل فئة أخرى ترى بأنه كان من الممكن أن يتم التخلص منهم في طرطوس أو جبلة أو اللاذقية من باب تأجيج المشاعر الطائفية وضمان إبقائهم في كنف النظام، إلاّ أن الواقع يقول بأن العلويون من كثر ما خسروا من الأبناء من جهة، ومن كثر الخطابات القاتلة الموجة إليهم من أبناء وممثلي الطائفة السنية من جهة أخرى، فلم يعودوا بحاجة إلى الأفلام الدموية حتى يستمر ولاؤهم للسلطان، ثم هنالك عامل دولي مهم، وهو أن استثمارات روسيا ورغبة موسكو في الحفاظ على أمان تلك البقعة أبدى لديها من كل ما يجري في سوريا، لذا وكلما أنعمت تلك المنطقة بالسلام كان أضمن في الحفاظ على مصالحها الاقتصادية والاستثمارياتية، كما أن مشاريع الفردوس أصلا لا تعني أبناء تلك الطائفة بشيء حتى يتم استثمارهم من تلك الزاوية التي تقود المرء إلى حتفه حباً وطواعية، إنما ومن خلال الوقائع وسلوكيات أبناء تلك الطائفة فمن شبه المؤكد أنهم أبناء الحياة، ويحبون الحياة مع كل ما فيها من المتاعب والمنغصات، وقد تخلص معظمهم منذ عقودٍ طويلة من قصة نيل المكتسبات في الآخرة، عبر الحبكة القائمة على آلية التأفف من كل أشياء الدنيا كحال عشاق الحسان السّاعينَ إلى تتويج آخرتهم بأسرابٍ من نساء الفراديس.
ومن كل بد أنه بعد عرضنا لمناخات التخوم والمناطق الحدودية الأخرى، تبيّن لنا بعدم توفر شروط الاشتعال الأكبر فيها، وعدم قابليتها للترحيب بهذا الفصل الدموي ذاتياً وجماهيرياً، لذا سنأتي على ذكر الشروط التي استكملت في عفرين لتكون بمثابة الذيل في عملية السلخ، علماً أن سلخ الذيل من أصعب المراحل في سلخ أجساد البهائم حسب أهل الاختصاص من اللحامين؛ ولماذا عفرين؟ فثمة أسباب عديدة كانت وراء اختيارها كمحطة تصفية رئيسية ليس فقط من أجل التخلص قدر المستطاع من طرفي المعادلة، إنما اجتمع العديد من الدوافع والغايات لدى الأطراف الدولية والإقليمية والمحلية لاختيارها كمحطة تسفير مباشرة إلى الجنة، منها أن عفرين غير مغرية من قبل روسيا وأمريكا لخلوها من الثروة الباطنية؛ ومنها لأن النظام المتهالك يرغب بإهلاك الجميع معه بما فيهم من آزروه حتى الأمس القريب، وذلك لكي يبقى هو الأقوى في قادم الأيام، ويكون بالتالي قادر على بسط سيطرته على أغلب المناطق التي خرجت عن سيطرته، ومنها الرغبة التدميرية الدفينة لدى الجناح الطوراني في النظام التركي الذي قد يسعَ جاهداً لإطفاء أية شمعة كوردية تلمع حتى ولو كانت في نهاية العالم، أما الذريعة الأوجلانية فهي بحق هبة من السماء هبطت على الشوفينيين من حكام أنقرة، وطبعاً آمالهم لا تتحقق إلا بمعية الممارسات السياسية والعسكرية المتخلفة لذلك التنظيم، باعتبار أن أكبر خدمة تقدمها كحزب أو كفرد لعدوك تكون عبر تقديمك له الحجج التي يبحث ليل نهار عنها، ليحاربك ويحارب شعبك بها؛ لذا يظل العامل الذاتي هو الأهم في عفرين، وذلك بكونها غدت رهينة منظومة عقائدية معينة، وباعتبار أن جوهر عمل تلك المنظومة هو بخلاف دولة إسرائيل الحريصة على الإنسان، إنما ترى نفسها محتاجة وبشكل مستمر للقرابين البشرية حتى يدوم عمرها، طالما أن بمستطاعها وبيسر رفع الهزيمة متى ما كانت إلى سقف الانتصار، وذلك كفلسفة حياتية معاشة منذ سنوات ليست بقليلة، لأن المنظومة العقائدية التي ليس في منهجيتها التطور والسعي للبناء المدني وتحقيق السلم والأمان والرفاهية للإنسان تحاول جاهداً: إما العودة بعد كل فترة إلى نقطة الصفر، أو المراوحة في مكانها من خلال استمرار الاشتباكات والمعارك التي هي اكسير وجودها، بما أن في لاوعي تلك المنظومة وفي الثقافة العقائدية لخاقاناتها أن الأيديولوجيا أبدى وأهم بكثير من الإنسان، لذا تراها دائمة القدرة والجاهزية على أن تضحي بالإنسان مراراً وتكرارا من أجل دوام عمر تلك الأيديولوجيا.