عبد العظيم فنجان: قصائد الحب أكتبها في المطبخ.. اعيش غريباً في مدينتي

آخر تحديث 2018-03-26 00:00:00 - المصدر: عين العراق نيوز

عبد العظيم فنجان: قصائد الحب أكتبها في المطبخ.. اعيش غريباً في مدينتي

هو شاعرٌ متهمٌ بالتجسسِ على يومياتِ جمهورهِ، ابن جنوب العراق الذي يسكن شماله ويكتب عن امرأةٍ عاشت قديماً وسكنت قلبه. عبد العظيم فنجان الذي يُعد قصائد الحب الشتوية في المطبخ. يغرد داخل السرب ليزعجه، ولا يتعب من التفكير تحت الشجرة. الشاعر السومري في تقويم ولادته والبغدادي في ولادته الثانية والمناضل مثل جنود البلاد المقاتلة منذ أول الخلق ليفوز بوردة.

عن شعره، وفك ألغاز قصائده وألغام غموضه، عن غوصه بالحب اللافت ببلاد كل ما فيها من عشاقٍ جنود، وعن حصيلته الاجتماعية وابعادها الاسطورية وأحلامه الشخصية..

"عين العراق" تحاور الشاعر العراقي عبد العظيم فنجان:

 

الانفعالات الرومانسية في نصوصك، النكهة العراقية والشامية، لا تدل على حصول أي شراسة مع النص لحظة الكتابة.. ما هي أجواء الكتابة عند عبد العظيم فنجان؟

_ لا يوجد طقس محدد للكتابة. في الشتاء أتخذ من المطبخ، مطبخ البيت، مكاناً للقراءة وللكتابة، غير مهتم بما يدور من حولي، أما باقي أيام السنة فأنسحب إلى غرفة الاستقبال لأن لا أحد يزورني، فأنا أعيش كالغريب في هذه المدينة، وجيراني لا يعرفون عني شيئاً، وهذا يساعدني في المضي عميقاً في أفكاري، فكل ما يحتاجه شاعرٌ مثلي هو أن يستمر في مونولوجه الداخلي، وأن لا يسمح قدر ما أمكن، لأحد أن يقطعه. بهذا يمكن القول: إن الجو الخاص بالكتابة هو المحافظة على توازني، نشيدي وغنائي، من المؤثرات الخارجية، ولحسن الحظ فقد تفهّم أهلي في البيت هذا الأمر، فأبعدوني عن الفخاخ الاجتماعية، حتى صرت آخر من يعلم وآخر مّن يقرر، وهذه ضريبة لابد منها.

عموما فأنا أسخر ـلكن على حذرـ من الادعاءات التي يزعم أصحابها أنهم يحتاجون أجواء خاصة للكتابة، وأعتبر نفسي محظوظاً من هذه الناحية، أي أن أكون بلا مزاعم وادعاءات كبيرة، فمجموعة "الحب حسب التقويم البغدادي"، مثلا، كتبت معظم قصائدها في أثناء الدوام الرسمي، بعضها في الفنادق، وبعضها وأنا أحدق من نافذة سيارة إلى الطريق. ميزتي الأهم هي أنني أدون ملاحظات، وأكتبها في داخل رأسي، وما أن استقر في مكان حتى أعمل ما يلزم عليها، وهنا بالضبط تجري عملية الخلق، ولعدة مرات، فالقصيدة الواحدة قد تستغرق شهراً أو عدة سنوات أو ساعات. أنا مصاب بوسواس في الرضا، ومن الصعوبة أن اقتنع بما أكتب.

 

تذكرُ في قصيدة "كل يوم أشيّعُ عصفوراً" أنك ماهرٌ في النزهة بين الكمائن. هل هذه المهارة في الحب فقط، أم أنها في أشياء أخرى، كأطيان هذه البلاد؟

_ هذه القصيدة هي من مجموعة "الحب حسب التقويم البغدادي"، أي الحب حسب تقويم الحرب في العراق، وهي حرب مفتوحة على جبهات متعددة، مثل بحر من الرمال المتحركة، لا يتوقف عن ابتلاع كل شيء. وهكذا فالقصيدة هي قصيدة حرب أكثر مما هي قصيدة حب، لكننا ـبسبب من إرث جبار في أدبيات الحروب ـ لم نتمكن من تمييز قصيدة الحب بمعناه المطلق، عن قصيدة الحب في زمن الحرب. ومع ذلك أقول: تنتهي القصيدة بمشهد إعدام، وهو ليس إعدام معنوي: "هيئتُ عنقي إلى المشنقة وأحببتكِ"، بل إعدام حقيقي، أو هو تصفية جسدية.

عندما نفهم هذا سيكون تعبير "النزهة بين الكمائن" محملاً بسخرية أو بفكاهة سوداء من الموت المجاني، على الهوية، الذي كان شائعاً في بغداد أيام كتابة تلك القصيدة، وغيرها كثير.

 

تفتح على القارئ أبواب الحنين والمرأة والطفولة والطبيعة والمكان.. كيف تؤسس لبناء عالمك لكتابة القصيدة؟

_ عالمُ القصيدة غير عالم الكتابة، أي غير عالم الخلق، لكنهما متداخلان، ولا يمكن الكلام عن موضوع القصيدة بدون عالم الكتابة، وللإيضاح: هناك قصيدة قيامية، تتضمن عالماً يحتدم فيه الصراع بين قوى مختلفة، تتضمن الخير والشر والحرب والسلم والكراهية والمحبة، بكلام آخر: عالم الواقع الدموي بكل تجلياته، وهذه القصيدة نادرة لأنها صعبة ومركبة من عدة نواحي: الداخل والخارج، وعالم الجشع والاستغلال والبساطة والتعقيد... الخ، على النقيض منها هناك قصيدة "اليوتوبيا" التي تتحدث عن عالمٍ فاضل، مدينة افلاطونية فاضلة طردت الصراع والبؤس والتخلف والقهر والاستغلال، وهذه القصيدة تمثل طموح الإيديولوجيات الشمولية، أي أن هناك رؤيا سابقة أو خطة أولية أو منهجاً تسير عليه، وهي قصيدة سهلة، شائعة وسهلة الكتابة، ومعظم الشعر العربي شعر تابع لتلك اليوتوبيا، عدا استثناءات معروفة في الشعر العراقي يمثلها سركون بولص، وفاضل العزاوي وخزعل الماجدي في تقاويم السنة العراقية، وزاهر الجيزاني، وسواهم من الأجيال السابقة، والأبرز من الشباب هم الشعراء ميثم راضي وقاسم سعودي وميثم العتابي، فنيا وجماليا، وسيكون لهم مستقبلاً كبيرا إن استوعبوا طبيعة الصراع الدائر وتعمقوا اسلوبياً في الكتابة. وعي هذه الإشكالية مبكراً قادني ـبتواضع شديدـ إلى كتابة قصيدة تتداخل فيها القيامة مع اليوتوبيا، فكتبت عن الحب ـكفرع من اليوتوبياـ في زمن الحرب والكراهية والموت والقتل على الهوية. ولا أعني بالزمن هنا الزمن الخارجي، وإنما زمن القصيدة الداخلي، وهو زمن "أبطالي" الممزقين والخائبين... وهكذا فإن الحنين والمرأة والطفولة والاشتياق ترحلت من مفردات قصيدة اليوتوبيا إلى قصيدة القيامة، وهو مما أضفى على نموذجي نكهة شعرية خاصة.

 

تكتب في "فيسبوك" و"تويتر" و"انستغرام"، ما الذي أضافته لك هذه المواقع، وهل لها دور في ظهور فنجان على عكس الواقع، سيما وأنت تصد الأضواء الاصطناعية عن مرآتك، فيما يتعلق بقلة حضورك ومشاركاتك بالمحافل الشعرية، رغم الدعوات الكثيرة التي تصلك؟

_ من المؤكد أن الفيس بوك، وباقي مواقع التواصل الاجتماعية، قد ساهمت بشكل أساسي في ترويج نموذجي الشعري وأسمي، بل وصرتُ مؤثراً في أمزجة الكثير من البشر، وهناك مَن يحاكي أو يقلد أو يسرق ما أنشر، ولست متطيراً ـبالمناسبةـ من هذا، لأن الأهم أن نموذجي المنفتح على العاطفة الإنسانية وتفرعاتها قد أصبح رائجا، ومن المشجع أن كتبي كلها قد تحولت إلى ملفات يتناقلها الناس في مختلف المواقع، بعد أن تبيّن سوء التوزيع الذي تتمتع به الدار التي تطبع لي، وهو مما خلق بعض المشاكل بيني وبينهم، فكتبي لم تصل إلى السعودية والكويت وسوريا والاردن وفلسطين وليبيا والسودان وإيران، وبالتالي أصبح الحصول على نسخة من كتبي سبب حسرة، اضطرتْ الكثيرين إلى تناقلها عبر ملفات pdf، مما أغاض صاحب دار النشر، وهذا من حقه، فهو يفكر بفوائده المالية، فيما أنا أفكرُ باتجاه آخر، ليس المجد قطعا، ولا الشهرة أبداً، وإنما إشاعة ديانة الحب مقابل ديانة الاستغلال والحرب.

أما بالنسبة للمهرجانات والمحافل الشعرية، فما زال نموذجي غريبا عنها، فلست منبرياً وأعتقد أن قصيدة النثر يجب أن تُقرأ، لا أن تُسمع، فهي لا تصلح للتطريب أو للمحافظة على إيقاع واحد يجذب إليها السامع، لكن الأهم أن إدارات هذه المحافل احترمت رغبتي في الابتعاد عن المجال الاجتماعي في الثقافة، وفرحي بعزلتي البسيطة، ومنذ حوالي سنتين كفوا عن إرسال أية دعوة.

 

يختلف القراء بحسب الأزمنة، ودرجات التطور العلمي والثقافي، كيف ترى قراء شعرك في "فيسبوك"؟

_ أكتب نموذجاً تداولياً، أي سهل القراءة، ومفتوح على مختلف أنواع القراء، وهذا أحد أسباب رواجه، ولذلك لا أستطيع معرفة مدى حساسية القراء، فهذه مهمة النقد وليست مهمتي، إضافة إلى أن هذا الموقع عبارة عن مكان للتعارف الاجتماعي، ومعظم ردود الأفعال انفعالية وآنية، إلا فئة قليلة جدا، فمن يعجب بقصيدة صباحاً قد لا تعجبه في المساء، ولهذا دائماً اعتبرت المواقع الاجتماعية بمثابة فخ بالنسبة للشاعر المبتدئ، إذ عدد القراء، أو عدد الاعجابات، لا يعد معياراً  للحكم على الجودة أو الرداءة.

 

هل تعتقد بأن القصيدة قادرة على إنقاذ العالم: ما جدواها حيال هذا الخراب؟

_ وظيفة القصيدة أولاً، من وجهة نظري، أن تلفت نظرنا إلى الأشياء المنسية، التي تراكم عليها غبار وقائع وأحداث سلبتنا إنسانيتنا، أو مزقتنا أو حوّلتنا إلى مجرد أرقام في عالم التسليع، حيث أصبح كل شيء مادة للبيع، أما ثانياً فهي محاولة الشعر أن يقترح علينا عالماً أجمل أو أفضل، وفعل الاقتراح هذا لا يتم أو لا يتحقق إلا بالوظيفة الأولى أعلاه. يقول رينيه شار: "الشاعر لا يقدم البرهان، وإنما الأثر". نعم، نحن روّاد الخيال لا نزعم امتلاكنا للحقيقة، لكن بإمكاننا أن نُري القارئ آثارها، وهذه هي الوظيفة الأسمى للشعر. أما ما يغير العالم حقا، فهو الاقتصاد، فالشعر يعمل مع الروح، وهو لا يصلح للعمل مع المادة.

 

يتضح لي مثلما لقراء كُثر، أن فنجان يخاطب دائماً امرأة متكبرة، مّـن هذه المرأة؟

_ المرأة بطلة قصائدي، سبّبتْ لي إشكالات اجتماعية ومعرفية، فثمة من يعتقد انها امرأة من كلمات، وهناك مَن يعتقد أنها حقيقية كالهواء والماء، وهناك مَن يظن أنها افتراضية: امرأة من المدن العنكبوتية، وبعضهم يعينها أو يسميها، كما لو كان يعرف السر ويقرأ الغيب، وبعض "الأعدقاء" أحالوا هذه المرأة إلى تجربة من اختراعهم، وهكذا. لكن هذه المرأة لم تكن سوى الإلهة عشتار البابلية، أو اينانا السومرية، إلهة الحب والحرب في أساطير بلاد ما بين النهرين، التي توّسع الباحث والمفكر السوري فراس السواح في تفكيك اسطورتها في كتابه الشهير "لغز عشتار"، وبين أنها أم لجميع النساء الأسطوريات في الحضارات الشرقية والغربية، أي أن أسطورة عشتار تنقلت من حضارة إلى حضارة، وهي تتخذ اسماً جديداً في كل ديانة وحضارة، وصولاً إلى المسيحية: "مريم العذراء" وليس انتهاء بالإسلام: "لاحظ مركزية السيدة فاطمة الزهراء عند الشيعة"، وقد توجد لها تجليات أخرى قادمة أو أخرى غائبة لا نعرفها، وللتوسع أنصح القارئ بقراءة هذا البحث العظيم: "لغز عشتار".

نعم، عشتار هي بطلتي الرائعة، وقد أشرتُ إلى هذا في هوامش مجموعتي: "كيف تفوز بوردة"، لكنني رحّلتها من بعدها الأسطوري إلى عالمنا اليومي، فعشتار هي الأم التي أنقذت البشر من الطوفان، عندما وشت بقرارهم بإبادة البشر بالغرق إلى إله آخر قام بإخبار أتونابشتم (نوح) وعلمه كيف يصنع السفينة، وعشتار هي نفسها التي قدمت حبيبها "ديموزي" كقربان عنها، كي تنجو من جحيم الموت (العالم الأسفل) وهي نفسها التي قادت مواكب النواح على هذا الحبيب الذي سبّب غيابه  يباس الارض وانحسار المطر. ونتيجة هذا الغياب تكونت ديانة الخصب الرافدينية، أي عبادة عشتار وديموزي، وأهم مظاهرها الزواج المقدس. وكما تلاحظ إنها شخصية متناقضة: متكبرة، عاشقة، وفية، خائنة ومحبة، وهي أيضاً إلهة الحرب.

إنني انتفع من تجربتي الشخصية، وتجارب الآخرين، في الحب، ومن معرفتي بدقائق هذه الأسطورة، وأكتب نموذجي المركب والمحير، فبطلة قصائدي طيبة وماكرة وحنونة وخائنة وقاسية ومتكبرة وعنيدة وطيعة.. وفي الحقيقة أن هذه هي صفات عشتار الأسطورية.

 

أنماط القصيدة العراقية ما بعد الرواد اتخذت منحى تاريخياً جديداً عُبر عنه بـ"التجييل الشعري".. كيف تقرأ مصطلح الأجيال الشعرية.. وكم أفاد الشعر العراقي منه؟

_ هناك مستويان لقراءة مصطلح الأجيال الشعرية، الأول تاريخي وهو ضرورة تاريخية تؤشر على وجود شعراء كتبوا في التاريخ الفلاني، أما المستوى الثاني فهو جمالي، وهو الأهم في تقديري والأقرب إلى مزاجي الشعري هو الجيل الستيني، والجيل التسعيني، رغم أنني تاريخياً لا أنتمي لهما لكنهما الأقرب لي من حيث جدية تحطيمهما للشكل، أولاً، ولهجرهما قوانين البلاغة بشجاعة، حيث لم تعد كلمة شريفة وأخرى كسيفة، ثانياً.

 

الخروج عن المألوف وسلطة الأب الشعري دفع الكثيرُ من الشعراء إلى "التجريب الأدبي".. ما محل التجريب من شعر عبد العظيم فنجان؟

_ الشعر في أحد أشكاله، نشاط لغوي، أي أن مادته الأساسية هي اللغة، بعد أن تخطى الشعر حاجز الوزن أو الموسيقى أو البحر لكن المشكلة في فهم الغاية التي من أجلها تجنب وطرد الموسيقى، ما الغاية من ذلك؟ لقد استنفذ الشعراء العرب جميع التجارب على الشعر، لكنهم لم يتمكنوا من تجاوز حاجز المرجع اللغوي المقدس وأعني به "القرآن الكريم"، إلا بحدود معينة، وبمحاولات فردية قليلة. وقتل الأب لا يعني قتل الوزن أو الموسيقى، بل والمرجع اللغوي أيضاً، إضافة إلى تبني قيّم الحضارة الإنسانية الحديثة، ما فائدة قصيدة النثر التي تتكلم بقيم الشعر الجاهلي؟! الآن آن أن أقول أن مجالي التجريبي قائم على تبني النقد اللاذع لما تتضمنه أدبيات الأديان من خرافة ودجل، انتصاري لحق المرأة في الحب والحرية والزواج ، وتوظيف الأسطورة لمعالجة مشكلة الوجود والموت والخلود، وكل ذلك بلغة رقيقة لكنها صادمة، لا مرجع ديني أو بلاغي لها. لغة تستعين باليومي وبالفخم، وتغامر بأخذ القارئ، تحريضه، على تجاوز الثنائيات المعروفة والجامدة.

حاوره: محمد الباسم