لو آمنا أن الثقافة هي فعل جمعي خلاق، وليست فردانية موحشة وانكفاء على الذات، علينا أن ننبذ كل المشاريع النخبوية، من ثقافة إثبات الذات والأنانية وغيرها.
ربما علينا أن نبحث عن المثقف العضوي الحداثوي بعيدا ًعن الأيدلوجيا، والمورثات المتهالكة، المثقف الذي يملك حاسة الاستشعار عن بعد بآلام الناس وهمومهم اليومية، عن طريق تفرده بلغة خاصة، هي نفسها لغة الشارع المتداولة والبسيطة، لكن بإسلوب تجريدي لا يخلو من فكاهة ساخرة، أو ومضة سريالية مثيرة للجدل والتساؤل.
لست واعظا ًأو ناصحا ًهنا، لكنني إنسان بسيط خارج الوسط الثقافي المروج لأفكار السلطة السياسية المتخفية بطريقة ماكرة في هذا الوسط، لكنني أعتقد أن المهاترات وصنع العداوات والتسقيطات في الوسط الثقافي، غير قادرة على صنع مجتمع ثقافي، ولا تملك أي مشروع حقيقي للتغيير، حتى أننا في كثير من الأحيان نلاحظ أن المثقف أصبح تماما مثل أي سياسي أو لص أو مجرم، يتسلح بالخديعة والكذب والتضليل ومحاولة امتلاك الأفكار واستعراض العضلات المعلوماتية، وإلغاء الآخر، كما أنه لا يتوانى عن جرح البسطاء من الناس من أجل فكرة أو معتقد مستهزئا ًبغيبياتهم الميتافيزيقية وصدق عواطفهم في التعبير، ففي صفحات الفيس بوك مثلاً، نلاحظ الكثير من هؤلاء المثقفين يلاحقون هذا أو ذاك من أجل خطأ إملائي أو نحوي عن طريق فضحهم والتشهير بكتاباتهم على الصفحات العامة للفيس بوك، ضاربين عرض الحائط هذه الإنسانية المقدسة لكل فرد، مشوهين هذا العالم الأبيض من البساطة والعفوية، بعقولهم المليئة بالأمراض واللوثات الفكرية، طمعا ً باللايكات المجانية والتعليقات لعدد كبير من القرود المطبلة والمصفقة لنفسياتهم المصابة بأنفلوانزا الوهم ولأفكارهم العدائية التي وظفوها في هندسة وتأطير عواطف ومشاعر الآخرين.
إضافة إلى ذلك هناك عدد كبير من المثقفين تصطرع في أعماقهم قوى مضادة تقف على طرفي نقيض من حبلهم الوجودي وهي صراع الغرائز المتمثلة في حاجات الجسد البيولوجية والمادية مع المثل العليا المتمثلة في الروح والبحث عن الحقيقة وغيرها أنا برأيي إن الحقيقة ليست كل شيء، وربما تكون نتاجا اجتماعيا، وتجربة مباشرة، كما يقول جورج لوكاتش. لذا فإن الإنسانية أسمى وأجل من كل شيء حتى من الإبداع نفسه.
أذكر هنا حكاية لا يزال صداها يسبر أغوار البوح الشفيف لكل إنسان عميق وحقيقي.
حدثني أحد الأصدقاء ذات مرة أن في صفحته على الفيس بوك صديقين يعرفهما تمام المعرفة وهو صديق مشترك بينهما، الأول كان أديبا معروفا وله نتاجات واسعة في مجال الأدب، والدراسات النقدية، والآخر كان إنسانا بسيطا، هذا الإنسان البسيط يملك عربة لبيع العطور والكماليات وأدوات أخرى للزينة، وعندما يعود ليلا من عمله كان يفرغ ما يعتريه من ألم وإرهاق، بمكاشفة جميلة وصادقة لمشاعره وكلمات عفوية يكتبها على صفحته كل ليلة، كأي شيء شخصي، وكأي فعل مرتبط بالكينونة والوجود الذي يشعرك أنك ما زلت حيًّا، لترى وتشهد، لكن بعد فترة يطل علينا جلالة الأديب المعظم من خلال خبرته في التنقيب وعلم الأركيولوجيا المختص بكائنات جوف الأرض، لينبش هذه النصوص ويبعثرها وينهشها كأنه حصل على فريسته المرجوة، فيقوم بنشر كلمات هذا الشخص على صفحته، مستهزئا ً تارة من اسمه أو مظهره، وتارة يمارس عملية جراحية على النص أو اصطياد الأخطاء اللغوية العابرة.
وتارة يمارس دور المتذمر والمشتكي والحريص على الأدب واللغة من هؤلاء الطارئين والمتطفلين، حتى كثرت عروضه الكروباتيكية والمسرحية على نصوص هذا الرجل المسكين الذي لم يكن له علم بما يجري أصلا ، نتيجة لطبيعة عمله ووقته المحدود الذي يستخدمه في الانترنت، ويستمر صديقي في وصفه للمسار اليومي لحياتهما قائلا: فصديقنا المسكين صاحب العربة، كان متفائلا، بشوشا، يزرع الأمل في النفوس شجاعا ً لدرجة الدهشة، وشهما ً لدرجة النقاء.
أما أديبنا الكبير كان يتمتع بقبح الانتهازية المستشري، أنانيا، نرجسيا، مليئا بالأمراض النفسية والغرائز المكبوتة، يخرج من بيته مرتديا قبعته البرجوازية ونظارته، الكبيرة، يمشي الخيلاء، ورأسه إلى الأعلى، كطاووس فارسي منفصلا ً تماما عن يقظته الحالية وعن الآخرين، وشاءت الأقدار بعد مرور فترة أن يصاب سيادة أديبنا الكبير أثناء تجواله في السوق بذبحة صدرية حادة، وبالتحديد على مرأى من عربة هذا الرجل، فما كان إلا أن حمله بسيارة أجرة وتكفل بأجور المستشفى الأولية، وبقى ملازما ً له إلى أن ظهرت بوادر تماثله للشفاء.
زمن مضى على هذه الحادثة، لكن كان هناك باقة ورد، وفي ثناياها بطاقة صغيرة مكتوب عليها: "حمدا لله على سلامتك، ستبقى مشرقاً، قرأنا لك الكثير وتعلمنا منك الكثير، شكرا لأنك تعطي للحياة بهجتها وسعادتها المستمرة، الحياة فن من الفنون التي تعلمناها منك، حمدا لله على سلامتك وأطال الله في عمرك".
لا تزال هذه البطاقة التي كتبها هذا الإنسان البسيط صاحب العربة موجودة في مكتبة هذا الأديب، ومتماهية مع كتبه وعالمه المعرفي الواسع، حتى بعد رحيله عن الحياة بمدة قصيرة.
ربما أطلت كثيرا على القارىء في سرد هذه القصة بتفاصيلها الجزئية وحيثياتها، وتواترها الممل ربما، لكن في الحقيقة، الأدب والحياة توأمان لا ينفصلان، العلاقة بينهما متشابهة وغامضة وسحرية، وبما أننا في زمن أصبح فيه الكتاب مهجورا، مهملا ً، يعلوه الغبار، صار لزاما ً علينا أن نؤسس لثقافة صورية حقيقة من خلال الإعلام والدراما والسينما، والتقاط المشاهد اليومية في الشارع، معتمدين في ذلك على خزين هائل ومتراكم من الصور المدفونة في أعماقنا، صور ضاجة بالأسئلة والشكوك المستترة في مراحل مختلفة من أعمارنا وطرق تفكيرنا وقناعتانا المتغيرة والمتحولة في كل زمن.
هذه الثقافة البصرية ستساهم في تمرحل الوعي وتبلوره تدريجيا وليس القفز المباشر والبرمجة اللغوية من بطون الكتب، التأمل هو النظر إلى قلب الأشياء جوهرها وغموضها المصحوب بالسؤال الذي سيبقى عالقا ً في المخيلة.
آن الآوان أن يعلن المثقف عن نفسه أنه شخص من عامة الناس، والآن من منكم يمضي معي في الدروب والأزقة المعتمة، من منكم يهجر برجه العاجي ويترجل عن صهوة الريح؟ من منكم يخلع تاجه السرابي، ويصنع قاربا ً خشبيا ً ليبحر معي بعيدا ًإلى هناك، حيث نشوة الغموض والأسرار، هناك حيث الوجع الإنساني المعتق في بئر الحياة العميق؟ من؟؟؟ هل هناك أحد؟