اختار لبنان المقاربة الشاملة للخروج من الوضع السيئ الذي يعاني منه والذي يمكن اعتباره أسوأ ازمة اقتصادية واجتماعية في تاريخه. لعلّ اكثر ما يعكس سوء الوضع كون لبنان بلدا يمتلك بنية تحتية متخلّفة لثلاثة ملايين نسمة، فيما يعيش فوق ارضه حاليا ما يزيد على ستّة ملايين نسمة. لم يكن هناك من خيار اسمه ترك البلد يراوح مكانه والغرق اكثر في مستنقع الفساد. كان لا بدّ من خيار مختلف يأخذ في الاعتبار حاجة لبنان الى إعادة تأهيل نفسه على كل صعيد في ظلّ ظروف داخلية وإقليمية اقلّ ما يمكن ان توصف به انّها معقّدة.
لم يحصل أي تطوير للبنية التحتية منذ ما قبل العام 2000، أي منذ إيصال النظام السوري لأميل لحّود الى رئاسة الجمهورية في 1998 بغرض واحد هو شنّ حرب على رفيق الحريري، أي على كلّ ما له علاقة بالبناء. كان لا بدّ من تفجير رفيق الحريري كي يتوقّف مشروع الانماء والاعمار نهائيا ولا يعود في البلد اقتصاد منتج يتكفّل سدّ الدين العام ويزيد نسبة النمو.
لم يكن مؤتمر "سيدر" الذي انعقد في باريس قبل ايّام حدثا عاديا. كشف قبل كلّ شيء مدى رغبة المجتمع الدولي في مساعدة لبنان ممثلا قبل كلّ شيء بحكومته التي يرئسها سعد الحريري. ظهر لبنان في المؤتمر موحّدا. كان هناك وزراء يمثلون تيارات مختلفة حول سعد الحريري الذي نسّق خطواته مع رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس مجلس النوّاب نبيه برّي.
حصل لبنان على تعهدات بمبلغ 11,5 مليار دولار، وذلك كي ينفذ مشاريع حيوية تتناول كلّ ما يهم المواطن من ماء وكهرباء وطرقات وتوسيع للمطار واهتمام بالبيئة. فوجئ لبنان بحجم الدعم الذي حصل عليه بشكل قروض ميسّرة ومساعدات. لم يكن الامر يتعلّق بأي دين يزاد الى دين موجود. لا تتجاوز الفائدة على القروض الواحد ونصف في المئة ومدّتها 25 عاما مع فترة سماح يمكن ان تصل الى عشر سنوات.
كان نجاح المؤتمر مفاجأة كبيرة ليس للبنانيين فحسب، بل لأصدقاء لبنان، مثل فرنسا أيضا. لم يكن الجانب الفرنسي يعتقد انّ المؤتمر سيجمع اكثر من ثمانية مليارات دولار، لكنّ مساهمة البنك الدولي التي بلغت أربعة مليارات دولار شكلت دافعا قويّا للمجتمع الدولي كي يقتنع بان عليه الاستثمار في عملية إعادة تأهيل البلد من جهة والمحافظة على الاستقرار فيه من جهة أخرى.
اقتنع البنك الدولي بكلّ بساطة بالرؤية التي قدّمتها حكومة سعد الحريري الى المؤتمر، معتبرا ان ما تضمنّته هذه الرؤية من مشاريع، هي في معظمها مهمّة للبلد، بل من النوع الحيوي، تسمح له مواجهة الصعوبات التي يمرّ فيها. كانت رئيسة البنك الدولي كريستالينا جورجييفا في غاية التفهّم للوضع اللبناني ادلت بعد لقاء مع سعد الحريري بتصريح يقول الكثير. رأت جورجييفا انّ "لبنان دفع المُستحقّ عليه الى العالم، الآن على العالم دفع المُستحق عليه للبنان".
كان هناك فريق عمل لبناني استطاع وضع الرؤية التي تجعل المجتمع الدولي والعربي والهيئات المختصة، مثل البنك الدولي وصندوق النقد، يقتنع بفائدة دعم لبنان. فالرؤية اللبنانية ركّزت على إصلاحات هيكلية ووضع استراتيجية للقطاعات الانتاجية وتصوّر لكيفية تطويرها. الهدف تحقيق نمو مستدام وحقيقي وخلق آلاف فرص العمل لشباب اللبناني، فضلا عن التوصل بالطبع الى خفض العجز في الموازنة من 9 في المئة الى 6,5 في المئة خلال خمس سنوات. كلّ ذلك في ظلّ حرب على الفساد.
هناك الاقتصاد، لكنّ هناك السياسة أيضا. وهذا ما عبّر عنه الرئيس ايمانويل ماكرون الذي عرف في كلمة اختتم بها مؤتمر "سيدر" كيف يضع الازمة التي يعاني منها لبنان في اطار إقليمي ودولي، بما في ذلك الصراع الدائر بين الدول الكبرى.
لم يتجاهل ماكرون واقعا يتمثل في ان لبنان بلد استطاع تجاوز تجارب صعبة وبقي "ثروة" يجب المحافظة عليها بسبب التنوع والتعددية. تطرّق الى مشاركة فرنسا في القوة الدولية المرابطة في جنوب لبنان منذ أربعين عاما. خلص الى قول بضعة اسطر تعني الكثير وذلك بعدما أشار الى ضرورة تشكيل حكومة جديدة "سريعا" بعد الانتخابات النيابية في السادس من ايّار – مايو المقبل. ختم الرئيس الفرنسي كلمته المؤثرة، التي تنمّ عن فهم عميق للوضع اللبناني ولما يدور في الشرق الاوسط من مآس، بالآتي: "اذا، فهمتم (ما هو مطروح). بمساعدة لبنان اليوم، نريد مساعدة كلّ المنطقة. اني مقتنع بشيء واحد. هذا الشيء هو اننا نساعد انفسنا كثيرا أيضا".
حسنا، هبّ كثيرون لمساعدة لبنان. ستساعد المملكة العربية السعودية بمليار دولار، عبر صندوق التنمية السعودي. وستساعد الكويت بنصف مليار دولار عبر صناديق تابعة للدولة الكويتية. يبقى السؤال هل يساعد اللبنانيون انفسهم خصوصا ان كلمة السرّ في مؤتمر "سيدر" هي الإصلاحات، مع ما تعنيه من حرب على الفساد، إضافة الى اشراك القطاع الخاص في عملية توسيع البنية التحتية وتطويرها والوصول الى صرف سبعة عشر مليارات دولار على هذه البنية وعلى مشاريع حيوية في السنوات العشر المقبلة.
يضع مؤتمر "سيدر" الذي يعني "المؤتمر الاقتصادي للتنمية عن طريق الإصلاحات بمشاركة الشركات" كلّ الفئات اللبنانية امام مسؤولياتها. ليس سرّا الربط بين "الإصلاحات" و"التنمية" و"الشركات"، أي القطاع الخاص. سيعود السؤال الأساسي يطرح نفسه عاجلا ام آجلا. كيف حماية المؤسسات اللبنانية وتمكينها من القيام بالاصلاحات المطلوبة في ظلّ سلاح غير شرعي هو سلاح "حزب الله"؟
لا يمكن ان تقوم للبنان قيامة في المدى الطويل في ظلّ غياب احتكار الدولة اللبنانية للسلاح، الدولة ممثلة بمؤسساتها الرسمية، أي الجيش وقوى الامن الداخلي وحدهما.
ما صنع لبنان في نهاية المطاف هو الحرية والتعددية في منطقة غيّب فيها العسكر ايّ نوع من القيم الحضارية التي تسمح بقيام دول حديثة تمتلك مؤسسات فاعلة وقضاء مستقلا واقتصادا قابلا للحياة والنمو. مرّ الكثير على لبنان. لا يزال البلد يقاوم على الرغم من الوهن الذي تعاني منه مؤسساته وعلى الرغم من انّه تحوّل الى "ساحة" إيرانية بعدما كان في الماضي "ساحة" فلسطينية وسورية. ليست امام لبنان خيارات كثيرة هذه المرّة. هناك مجتمع دولي وعربي قرّر مساعدته كونه مهمّا لاستقرار المنطقة. قرّر مساعدته ايضا لان حكومة سعد الحريري استطاعت الخروج برؤية اقنعت المشاركين بمدى جديتها.
لبنان، بكل بساطة، امام امتحان جديد وربّما أخير. كيف يوفّق بين إعادة بناء مؤسساته وتطوير بنيته التحتية وتوفير فرص العمل لشبابه... وبين قرار ايران اعتباره "ساحة" في خدمة مشروعها التوسعي وحربها على الشعب السوري، "ساحة" تصفي عبرها حساباتها مع هذه الدولة او تلك؟
خيرالله خيرالله