هنا لا يوجد أرسطو .. هنا يقف النقد عاجزا في صناعة خطابه الذي يحاول التشبث بخطاب السحر / خطاب ما بعد الإبداع.
هنا وفي العرض الرقمي والأدائي (اللؤلؤة Laperle) تجاوز للدراما من أجل بعثها مجددا وبطريقة مبتكرة. بل وتخلي معلن عن جميع الاتجاهات الـ (ما بعد) الدرامية، وعلى النقد اليوم ان يعارض ويحتج على جميع مساراته النقدية والميتا نقدية، باحثا له عن ثورة مستقبلية تواكب الجماليات والابتكارات الساحرة والمنفعلة بالانسان والانسانية، وسط كل هذه العوالم الافتراضية الشاعرية والحلمية، والمنبعثة من استثمار (التقانة الرقمية) في صناعة العرض المسرحي المعاصر الى جانب الاداءات الجسدية المحتشدة والخلاقة.
في إمارة دبي، وعلى المسرح الدائم في مدينة الحبتور / مسرح فندق ويستن، تم تقديم عرض "اللؤلؤة" وهو من إخراج Franco Dragone والمدير الفني لفرقة دراغون ومؤسسها، وبالتعاون مع خلف احمد الحبتور رئيس مجموعة الحبتور سيتي في دبي. وبرغم اعتراف دراغون نفسه بان هذه "اللؤلؤة" هي "حكاية مثل كل الحكايات استهدفت جميع أولئك الذين يتحدثون إلى ذواتهم" .. إلا اننا نجد بان المخرج دراغون اراد ان يخبرنا باية طريقة أحب هذه الحكاية البسيطة، وبأية الوسائل والتوظيفات الرقمية وعوالم الابهار السمعيبصرية التي وصلتنا عبرها رؤاه الفلسفية والكونية الحاوية لكل هذا السحر المسرحي الجديد.
لم تكن - تلك الفتاة التي ارتبطت بعلاقة حب مع الرجل الذي سيجلب لها اللؤلؤة من البحيرة بعد ان حاولت عناصر الشر في هذا العرض والمتمثلة بسائقي الدراجات البخارية من سرقة هذه اللؤلؤة من الفتاة - لم تكن الا هامشا حكائيا بسيطا اراده صانع العرض ومن معه من الحشود الفنية والتقنية من الانطلاق نحو حلمهم الابتكاري الصوري والموسيقي الذي جاء عبارة عن سيمفونية رقمية وادائية هيمنت فيها عناصر الابهار والدهشة نحو اكثر من 90 دقيقة، هو زمن العرض، والذي مر زمنه بسرعة البرق على المتلقي وكانها ومضة براقة مرت أمام الجميع ممتزجة بالرعد الموسيقي والغنائي حسب.
في كتابه "عصر الآلات الروحية، عندما تتخطى الكومبيوترات الذكاء البشري" يقول راي كيرزويل: "التقانة الرقمية استمرارية للتطور الطبيعي بطرق اخرى، وهي بحد ذاتها عملية ثورية". ولقد تجسدت هذه الثورية الرقمية المستند اليها العرض كثيرا بكل تركيباته وتعقيداته الصورية لدرجة المبالغة في الزخرفية التي فاقت المعنى والفائض من المعنى ايضا وفق المفهوم التداولي، والتواصلي مع جهة التلقي، حتى كاد الممثل ان يضيع - أو ضاع فعلا في مواقف عديدة - ليسقط في هاوية التخمة الزخرفية الرقمية، ولم يبق منه سوى الاداء الحركي الجسدي الراقص منه والاكروباتيكي الرياضي المحترف وبعض الاستعراضات البهلوانية ايضا في محاولة منه للحاق بركب التشكيل الصوري الساحر وفاعلية عناصره السينوغرافية الجاثمة طيلة زمن العرض فوق الجدران الامامية والجانبية والفوقية والارضية لمناطق نظر المتلقين وهي تتحول بتركيبية فائقة الضبط والانتقال من لوحة تشكيلية رقمية الى اخرى. وتعمل على صناعة التخييلات الافتراضية المتحولة زمانيا ومكانيا دونما المساس بإيقاع العرض وجوه الشاعري والعاطفي مرة، والانفعالي الصارم والصاخب مرة أخرى، وفقا للآلية الجمالية ذاتها بعيدا عن الشعور بكل هذه التحولات والانتقالات السمعية والبصرية الخلاقة والمبتكرة".
وقد أكد كاتب هذه السطور وعبر عن قلقه في مقال سابق عنوانه "التقانة الرقمية الزخرفية وقلق التلقي المسرحي" إزاء مثل هذه التخمة الزخرفية الرقمية بقوله: "فالقلق ينحصر هنا بالتخمة الرقمية الزخرفية المهيمنة على فضاء وروح العرض المسرحي المعاصر .. هذه التقانة الزخرفية الزائدة عن حاجتها الدرامية من شأنها تغييب الفعل الدرامي. ولقد استفحلت هذه التخمة الزخرفية في الكثير من عروض مسرح الشباب الطليعية خاصة لدرجة أن يجد التلقي المسرحي نفسه اليوم مرهونا بربكة وتشوش فكري ولا جمالي ازاء هذا الكم العلاماتي اللوني الزخرفي الساكن منه والمتحرك في عوالم اللاجدوى في الكثير من مدياته الهشة وغير العارفة ببصيرة خطابها الغامض والمبهم.
فعلى الدراما ان تبقى دراما، ومهما استثمرت أو غالت في استثماراتها التقنية الرقمية لكن في النهاية ينبغي الانتباه الى انها باقية في دائرتها الدرامية حتى وان اوغلت او بالغت بعض توجهات معالم (ما بعد الحداثة) التي يسعى الفكر الشبابي الطليعي للانتماء لها وهذه مشروعية إبداعية ايضا، شريطة ان لا نقصم ظهر (الدراما) الأصل وان كنا نموج في عناصر ما بعد حداثية كالذي يحددها جون كوبان في أربعة عناصر وهي: عدم اليقين، والتناقض، وغير المتوقع، والمستحدث. الا ان هذه العناصر مثلا، لا تمنع العقل المسرحي الاخراجي اليوم ان يكون فيها وان يكون مستثمرا عبرها للتقانة الرقمية البعيدة عن التجريد الزخرفي حسب، ليكون قريبا وغائصا في بحر (الدراما) الاصل، برغم كل الخطابات (الما بعدية) الحالية منها والمستقبلية.
هذا القلق السابق لكاتب السطور قد محته هذه الاستثمارية الرقمية الواعية في عرض "اللؤلؤة" لان هناك موازنة أوضحتها هذه الاحتكامية الى الصراع الدرامي بجانب خلق العوالم الصورية الباثة من أجل فضح مستويات هذا الصراع بطريقة تجريبية مبتكرة اوجدت لها انطلاقة تجريبية جديدة ومعاصرة لمسرحنا العالمي يسجلها التاريخ وسيوثقها لنا مستقبلا ، منذ انطلاقة الفريد جاري الاولى عام 1896 في "الملك اوبو". وهذه هي انطلاقة التجريب المسرحي العالمية الثانية عام 2018 في عرض "اللؤلؤة Laperle ".
تتضاءل جميع اتجاهات النقد (الما بعدية) وهي تواجه هذا الثراء الجمالي المركب في عرض "اللؤلؤة" لان "التجريبية" مفهوما تنظيريا وتطبيقيا كانت حاضرة وفاعلة على طول مساحة العرض برمته، حيث البحث في عوالم المجهول والابتكار والخلق وتدشين اللامتوقع في بناء الجزئيات التي تقودنا الى جزئيات اكبر لنصل الى كلية صورية وسمعية تكامل فيها التجريب المسرحي في أعلى مستوياته ونحن ننطلق في الالفية الثالثة من تاريخ المسرح العالمي والعربي، والتي صار لزاما على الخطاب النقدي أن يتجاوز موضة المصطلح وفجوته النقدية العربية بعدما تورمت الدراسات والمقالات النقدية بمصطلحات جنحت صوب الاتباعية لا الاستقلالية، صوب التقليد لا التاثير، والتنظير لا التطبيق، لان الموضة مرهونة بزمن وتنمحي، اما المصطلح الراسخ بمفاهيمية التنظيرية والتطبيقية مثل "التجريبية" هو الراسخ لأنه الجذر الحقيقي لامتداد الفعل الجمالي المسرحي المرتبط والمنغمس بالحياة والانسان ابدا.
حين تدخل الى صالة عرض تتسع لاكثر من 1300 متفرج، بعد ان اشتريت بروكرام العرض الذي جاء مختلفا بحجمه ومعلوماته وصوره وتوثيقاته بوصفها مرجعا تتبعيا للعرض من الكلمات الى البيانات ومن الخطاطات والتصميمات الورقية الى التنفيذ. ومن ثم تكتشف انك ستواجه على المسرح 65 مؤديا تم جمعهم واختيارهم من 23 دولة تشاركوا العمل مع 70 تقنيا وفنيا ليقدموا عرضا مسرحيا زمنه اكثر من 90 دقيقة على مسرح يعد اليوم هو ثالث اكبر مسارح العالم على غرار مسرح لاس فيغاس في لوس انجلوس وومكاو في الصين. فتقر بدءا ومع نفسك انك ازاء استثنائية مسرحية خالصة .. فكيف اذا انطلق العرض لتجد نفسك ومع اللحظات الاولى انك في مواجهة استثنائية تجريبية خالصة ايضا، لان صفة الشمولية الفنية قد هيمنت على فضاء العرض من (موسيقى وغناء ورقص درامي وتوظيف تقاني / تكنولوجي، ورياضة والعاب اكروباتيك وطيران اجساد في الهواء وشلالات مائية من على جانبي المسرح والغطس نحو الماء والسباحة).
نعم السباحة، اذ توسط المسرح بركة ماء كبيرة احتلت البؤرة المكانية لخشبة المسرح بعمق يزيد عن 3 أمتار او اكثر لان القفز الى هذه البقعة المائية ياتي من ارتفاع 35 مترا، او اكثر. الى جانب كل هذا ايضا تكتشف ان عرض "اللؤلوة" استخدم ما يقارب 2.7 مليون لتر من الماء تتحول بسببها خشبة المسرح الى بحيرة مائية كبيرة من جميع جوانبه ويكون جميع الممثلين فيه سباحون مهرة وفي لحظات وبعد توقف الشلالات الجانبية واختفائها تختفي معها هذه المياه ليعود المسرح جافا في دقائق ما عدا بركة المياه التي تتوسطه. فبعد كل هذه الهندسة المعمارية والمائية للمكان والأرقام والاستخدامات والفرجة واللون والصوت واللحن والانغام التي جرفتك جماليا .. ما الذي يتبادر الى ذهنك من تساؤل؟ .. هذا اذا بقي ذهنك يبحث عن سؤال، لان الاجابات كلها تجدها امامك، فيما عدا فضوليتك في معرفة الصنعة المسرحية وسر اختفائها المهارية عنك.
ان المتعة او لذة المشاهدة هنا كانت استثنائية أيضا، برغم ان كلمة رئيس مجموعة الحبتور (خلف احمد الحبتور) اكدت في بيانها وبحسب بروكرام العرض على: "ان هذه اللؤلؤة جاءت لتبحر في دبي بوصفها مركزا رئيسيا لوسائل الترفيه لمئات الالاف من محبي المسرح كل عام، وهي تجمع أفضل المواهب العالمية في عرض مسرحي يجمع أفضل التكنولوجيا والداء البشري .." الا اننا تلمسنا ان هذا الترفيه لم يكن ترفيها اعتياديا ومألوفا، بل كان ترفيها يجنح نحو عوالم غير مألوفة ولا متوقعة، وان لحظات التصفيق المتكررة طيلة زمن العرض لم تكن تأتي عبر قصدية ما، بل كان تصفيقا لا شعوريا جمعيا يصدر في لحظة واحدة تتفق عليها ذائقة التلقي دونما اتفاق مسبق.
الشكل وتحولاته كان هو البطل في هذا العرض فاستحق كل هذا التصفيق المتكرر، والتصفيق هنا جاء مختلفا عن ذاك التصفيق السيء التي تشهده بعض العروض المسرحية العربية، ولا بد هنا من التذكير بما وثقته ثريا جبران في رسالتها بيوم المسرح العربي 2013 في قولها: "المسرحُ ليس تصفيقاً، وإنما هو تَفَاعُلُ صِدْقٍ مع صِدْقٍ. وهذه مناسبة، لأَلْتَمِسَ بأَلاَّ تُصَفّقُوا كثيراً إنْ دَعَتْكُم مُجَامَلاتُ إلى التصفيق. وإنْ صَفَّقْتُم – ولا بُدَّ – لا تُصَفِّقُوا تَصْفيقاً خَاطِئاً. لَكَمْ أَعجَبَني ما قَالَهُ الروائي الأَلماني غُونْتَرْ غْرَاسْ (نوبل للآداب، 1999، الذي كَتَبَ كذلك بعْضَ المسرحيات): «التَّصْفِيقُ الخاطِئُ من الجهَةِ اليُمْنَى يُغْرِي التَّصْفيق الخاطئ من الجهة اليُسْرَى! ..."، فلم يكن في عرض "اللؤلؤة" تصفيقا خاطئا ابدا بل كان التصفيق ينبعث من جميع الجهات وبلاوعي جماعي اخذ منه الابهار ايما مأخذ .
هذا العرض كان قائما على نسق التخصص بامتياز، لان نسيجه اللوني والصوتي استند الى المهنية والاحترافية، مثلما استند الى الرؤية الاخراجية الموحدة، الا ان هذه الرؤية كانت جامعة وحاوية لرؤى ابتكارية ابداعية وخبرات اضافت لصيغة الاخراج وبهائه الشيء الكثير. فالى جانب المخرج ومديرها الفني ومؤسس الفرقة عام 2000 وهي شركة للإبداع الثقافي ومقرها بلجيكا، فضلا عن كونه مؤسس "سيرك دو سوليه" والذي حصد منه جوائز عديدة خلال تجواله الدولي، ومن آخر استعراضاته نذكر عرض (سيلين ديون / يوم جديد) وعرض (لي ريف) في لاس فيغاس، وايضا له عرض عنوانه (بيت المياه الراقصة) في مكاو، فإلى جانب دراغون في هذا العمل "اللؤلؤة" عمل مخرجا للتكوينات الصورية الابتكارية لاسيما ان العرض كانت بطلته هذه التكوينات الصورية الرقمية بمعية فريق محتوى الفيديو المتكون من ( 17 مبرمجا وتقني حاسوب) تحملوا مسؤولية التقنيات الفيديوية عبر الصور المتنوعة منها كانت ثنائية الابعاد (2 D ) والاغلب منها كانت ثلاثية الابعاد ( 3 D).
هذه التجربة المسرحية أعدها وعلى مسؤوليتي النقدية، هي الانطلاقة التجريبية المسرحية الثانية في المسرح العالمي كونها تشكل مرحلة جديدة من مراحل الفكر المسرحي وتمثلاته الجمالية والفلسفية والتقانية والادائية، والتي تساير الركب الحضاري والثقافي والمعرفي الانفجاري للثورة المعلوماتية، عبر جميع مجالاتها العلمية والانسانية، لاسيما ان الفن المسرحي هو الفن الحاوي والجامع للعلوم المسرحية وللافكار الانسانية على مر العصور.