الكاتبة "هاله فهمى" قدمت دراسة أدبية مبتكرة معنونة "في هجاء الزوجات – دراسة في الشعر العربي"، من مطبوعات المجلس الأعلي للثقافة، وشملت الدراسة مزايا منها: الأسلوب التحليلي السلس، حيث النتائج مرهونة بمقدماتها، والاستنتاجات صحيحة أكدتها بالشواهد النصية، فتقرأ الدراسة وتستمتع بها، للتنظيم بها، والنظرات النقدية، والطرافة، وهي الدراسة الوحيدة المنشورة للكاتبة حسب إحاطتنا، وإن اشتمل ثبت الأعمال تحت الطبع دراسة أخري بعنوان "عائلات ثقافية في مصر"، والعنوان سواء المنشور أو الكائن تحت الطبع من العناوين النوعية، مما يؤكد جهد الإبداع وجدة الأفكار.
انتقاء المحور البحثي يمثل شغلًا فكريًا للباحث في حد ذاته، تقول بعد أن افتتحت مقدمة البحث بتوطئة عامة، ثم تسمية الظاهرة محل الدراسة "هجاء الازواج لزوجاتهم"، "وأنها قد ترضي أناساً وتغضب آخرين .. قد تعبر عن الهم البشري وتقلبات النفوس .. وقد لا تعبر، لكن هذا ليس مبرراً لسقوط ظاهرة هجاء الزوجات من صفحة الدراسة النقدية على مدى تاريخها حسب علمنا".
ومقدمة البحث بذلك تكون ذات منهجية علمية من حيث الإشارة لأهمية الموضوع، وعناصر الدراسة (البيئة التي أنتجت الظاهرة / الدوافع النفسية / البناء الفني / ...)، وطرح فروضاً أو أسئلة للبحث لاختبارها بالجهد والتشغيل البحثي (من الدائن ومن المدين؟ / كيف واجهت الزوجه المهجوه عنف الهاجي / ...)، وتحرير المصطلحات لغوياً وفنياً (نموذجاً: الهجاء)، والشمول بالإشارة إلي الظاهرة المقابلة (مدح المراة والتشبيب والوصف / هجاء الزوجات للأزواج أو المراة للرجل والمقارنة)، وتقديم الشواهد (من الشعر القديم والمعاصر معاً)، فكانت الدراسة بانوراما ثقافية شعرية، فإذا طرقنا باب البحث وجدنا:
أن الكاتبة تبدأ من العام وتتجه إلى الخاص، ثم الأخص، وكأنها تنقب بدأب وتتوغل شيئاً فشيئا في التفاصيل، بما ينبئ عن التنظيم الجيد، وكأننا نفتح صندوقاً أصغر من داخل صندوقٍ أكبر، حتى نصل إلى هدية قيمة "الخلاصة"، فمثلاً تبدأ بدراسة الهجاء عامة وهل هو طبيعة عربية، وسر هذه الظاهرة الفنية لدى العرب وما بواعثها وتأثيرها وقدرها، إلى آخره، ثم عن الاتجاه بالهجاء للزوجات وتفسير ذلك، ثم توازن الرؤية وموضوعية التناول، تقول: "وإذا رأينا أن الرجل ظالم في هذه الحالات القليلة، فهل يكون مظلوماً في حالات أخري؟" ص 46 – الدراسة، ثم عن النكد الزوجي، ثم رد الزوجات، وهكذا تنتقل من جزء إلى جزء تفصيلي تبحثه بصبر وتطرح منطقاً في إنصاف.
كما تقتني الكاتبة ثقافة الإنتقاء، وتقدم قصائد كاملة أو أجزاء من قصائد أو أبيات أو بيتين أو حتى بيتاً واحداً، وتستعين في ذلك بمراجع نادرة، وقد أحصينا عدد (33) مرجعاً بين قديم وجديد، وكتب وصحف، وأمهات الكتب وكتب إبداعية، ومطبوعة ومخطوطة، مما يؤكد الجهد المبذول.
كما أضافت قيمة للدراسة من خلال لمحات نقدية، ورؤى فكرية حول الأعمال أو الشواهد المختارة فتشير سريعاً لمذهب وتقييم نقدي لها، في كلمات وجيزة لكنها جيدة، مثال في ص 130: "ولا نتوقف عند نقاط الخور في بنية القصيدة – وتعددها – سواء على مستوي المفردات أو مستوي التركيب (..) وكذلك لا نفتش عن جمال السياق في بعض المواقع – وتذكر مثالاً – إنما تشغلنا ..." وتلك حيلة فنية فهي تقول إنها لن تذكر وتعدد ما تراه من أمور في إيجاز ولكنه كاشف ونقدي.
كما أن بالدراسة فواكها من الطرف والملح التي يستطيب القارئ تذوقها، وإن كانت في إطار من "الضغينة الفنية" بتعبير الكتاب، لكنها ممتعة، نموذجًا هذه الأبيات المنتقاة للشاعر حزين عمر: (بمفردي الآن وحدي / أوشوش القصيدة / وأختبي في موجها / وأرتمي في مقطع لمقطع على ضفاف قصة / وأشرب الموسيقى / بمفردي الآن أبدو، / كأني أنا منذ عام ونصف !!/ وزوجتي في غفوها / تنغص الملائكة) ص 69 إلي ص 70.
والكاتبة تكشف قصديتها من الدراسة على إجمال: "لننتمي لموضوعية البحث العلمي ونقف على ظاهرة ممتعة ومقلقة وتسعد أناساً وتسوء آخرين".
ويبقي أن نشير لأمور:
عدم إدراج هوامش لمعاني المفردات الصعبة (والتي لا يعرفها القارئ المعاصر) في الشعر القديم، صحيح أنها تشرح الأبيات غالباً بعد إيرادها، وهذا يُفهم القارئ، لكنه لا يصل لجماليات الشعر ذاته لتعثره في مفردات مهجورة الآن، كما تم إيراد قصيدة الشاعر فريد طه (حسى بمشاعري يا هانم)، ومطلعها (ياوليه اهتمى حبه بمظهرك في البيت) في الهامش رغم قيمتها ومتعتها الفنية ومناسبتها للإنتقاء في المتن، ولم نعرف سبباً لذلك، وهي المنشورة الآن في ديوان الشاعر "تناهيد"، ويبقى أن نشير أن الغلاف نقطة ضعف بالدراسة، فهو ليس جيداً أو ليس معدا بعناية تذكر، رغم أن عنوان الكتاب وموضوعه يتيح تشغيلاً ممتازاً لغلاف أكثر تشويقاً وتعبيراً عن الدراسة.