الصفقة الفلسطينية الجديدة ـ

آخر تحديث 2018-04-19 00:00:00 - المصدر: ميدل ايست

المواقف العربية الإيجابية التي ظهرت ملامحها في قمة الظهران، أرخت بظلال سلبية على صفقة القرن التي أعدتها الإدارة الأميركية، وكانت تتصور أن الفرصة مهيأة للإعلان عن تفاصيلها، وتستطيع بالعصا أو الجزرة امتصاص ردود الأفعال الرافضة لتفاصيلها.

الخلافات الفلسطينية المتجذرة، من أهم العوامل التي شجعت الرئيس الأميركي دونالد ترامب على التفكير في عرض صفقة مشوهة، تؤكد المعلومات التي جرى تسريبها أنها منحازة للرؤية الإسرائيلية، وتسعى إلى تغيير تدريجي في الطموحات الفلسطينية، مستفيدة من المعاناة التي يعيشها قطاع كبير من المواطنين تحت الإحتلال.

لم تكن القضية الفلسطينية، مدرجة على القمة العربية كنقطة محورية بالطريقة التي ظهرت عليها. فقد كانت مناقشتها متوقع أن تتم بالتوازي مع قضايا أخرى إقليمية، يعتبرها البعض أكثر أهمية، أو لا تقل عن القضية الفلسطينية.

التطورات الجارية جعلتها تتقدم سُلم الألويات. تعود كما كانت في السابق على رأس جدول أعمال القمم العربية. ربما غابت أو تراجعت نسبيا خلال السنوات العشر الماضية، لكن الأحداث أثبتت أنها لا تزال تحتل حيزا جيدا في الوجدان والعقل العربيين.

الاهتمام العربي، لن يضفي بريقا على هذه القضية. هو بحاجة لجهد وافر من الفلسطينيين أنفسهم. هناك دول عربية تزايد عليهم لجني مكاسب سياسية. وثانية تتاجر بها للإيحاء بأنها حاضرة على الطاولة. وثالثة تعبث لمضايقة آخرين. تظل مصر الدولة المركزية التي تولي القضية الفلسطينية أهمية موضوعية وفائقة، انطلاقا من ارتباطها الوثيق بأمنها القومي.

الفلسطينيون، مطالبون أكثر من أي وقت مضى، بالتعامل مع القضية بالطريقة المصيرية. لا وقت للمناوشات، ولا مجال للمناورات. الكل في خندق واحد. المسئولية ليست فردية. التطورات القاتمة تطال أعناق الجميع. المبادرات المقبلة، من أي جهة دولية، سوف تمعن في خفض سقف الطموحات.

التجارب علمتنا ذلك. بالطبع هذه ليست دعوة لقبول الفتات، لكنها نصيحة لإعادة النظر في المسار. الاصرار على التخندق خلف الحسابات الشخصية أضاع جانبا كبيرا من القضية. التمسك بالتقديرات الحركية قضى على جانب آخر. سياسة العناد تكاد تُجهز على ما تبقى من رصيد لها في الضمير العالمي.

مصر، بذلت، ولا تزال، جهدا كبيرا لجمع الشمل الفلسطيني. تغاضت عن أشياء من الصعوبة إغفالها في ظروف عادية. مددت خيوط التواصل مع جميع الفصائل. غفرت لمن أساءوا وصفحت عمن تجاوزوا. وفودها الأمنية لم تترك غزة والضفة الغربية. حملت على عاتقها عبء المصالحة الوطنية.

التباين الشاسع بين الفصائل، من السهولة احتواؤه، إذا صفت النوايا، وجرى إعلاء القضية على ما عداها من حسابات إقليمية ضيقة. البعض يعتقد كلما مالت لصالحه يزداد استعلاء، متجاهلا طبيعة الأدوار وحدود المواقف والتأثيرات المتغيرة.

الناظر إلى حال غالبية الفصائل، يشعر أنه أمام لعبة سياسية، تديرها شخصيات وقوى غير عابئة بمصير القضية. اللعبة تحولت إلى عملية كسر عظام متتالية. العملية برمتها لا يوجد فيها غالب ومغلوب. الكل مهرزومون. من تصوروا أنهم يملكون الشرعية وطلبوا من غيرهم السمع والطاعة وتنفيذ الأوامر. ومن يعتقدون أن امتلاك السلاح يضفي على أصحابه خصوصية كافية تبعد عنهم أي شرور اقتصادية. الانقسام كأنه علامة فلسطينية.

جمعتني جلسة منذ حوالي ثلاثة أشهر بعدد من القيادات الفلسطينية. من فتح ومنشقون عنها، وحماس والجبهة الشعبية ومستقلون. الحديث بدأ ممتعا وشفافا لأن الجميع يفهم لب القضية. شرحوا العيوب والأمراض ومحاور الخلافات.

عندما جاء الحديث عن طرق العلاج، بدأت مرحلة من التجاذبات. كل طرف يحمل الآخر مسئولية ما جرى. الحديث الودي تحول إلى عراك. هي جلسة عادية، بدعوة كريمة من شخصية فلسطينية محترمة. فسرت لي حصيلتها، لماذا وصلت القضية إلى هذا المعترك.

كان صاحب الدعوة، كلما احتدم الحديث ودخل منطقة رمادية، يكرر على مسامعنا عبارة موحية "لهذا ضاعت القضية الفلسطينية". الرجل يقصد أن تشبث كل طرف برأيه جوهر الخلاف. المسار الوحيد للحل هو الالتفاف حول برنامج وطني جامع مانع، وتقديم رؤية شاملة لأوجه الخلل وطرق العلاج.

المشكلة أن الروشتة البسيطة التي يطرحها دائما السياسي الفلسطيني، تصطدم بأهواء ورغبات من بيدهم الحل والعقد. لا يعيرون اهتماما. يستمعون للنصيحة بانصات، لكن أفعالهم تمضي عكس أقوالهم. كم مرة استضافت القاهرة لقاءات مع فصائل فلسطينية؟ كم مبادرة جرى طرحها لتقريب وجهات النظر؟ كم اتفاق تم توقيعه ولم يتم تنفيذه؟

المصالحة الوطنية، أول خطة لمنع زيادة معدل تجريف القضية الفلسطينية. التفاهم حول رؤية سياسية، مع مراعاة الاختلافات والفروق البينية، خطوة مهمة لوقف التآكل الحاصل في الأطراف الفلسطينية، الذي سمح للإحتلال أن يتمدد، ووفر لترامب فرصة للمضي في تنفيذ وعد الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل ونقل سفارة بلاده إليها، ومنحه الجرأة لتجهيز تسوية لا تتماشى مع الحد الأدنى للتطلعات الفلسطينية.

الاستعداد للتسوية، يجب أن يكون بالتوافق الوطني. تسيير المسيرات الشعبية لمواجهة الإحتلال نقلة نوعية كبيرة، لكن القفز عليها يفقدها زخمها الدولي. العالم عرف حجم المعاناة في غزة. هناك دول وشعوب تعاني من وخز الضمير عندما شاهدت جنديا إسرائيليا يقنص أعزلا فلسطينيا. الصورة بألف كلمة، كما يقولون.

في المقابل، يجهض التراشق بالكلمات، والتهديد باللكمات بين الفصائل هذه البطولات. التوظيف السياسي من الضروري أن يكون جماعيا ولأجل مصلحة وطنية بعيدة عن التقديرات الحركية. من المستفيد من تعطيل المصالحة؟ ما هي المكاسب من وراء حصار غزة؟ من الرابح من استمرار فصل القطاع عن الضفة الغربية؟

الإجابة على هذه الأسئلة بدهية، دون حاجة لمزيد من الاستطراد. مع ذلك ثمة حالة غريبة من التعامي. رفض للمصارحة والمكاشفة. امعان في التجبر. اصرار على فصل المسارات الوطنية. قفز خلف من يدفعون ماليا ويريدون بعثرة الأوراق. قصر نظر يصعب أن تجده في أماكن أخرى.

القوى الوطنية تحت الاحتلال تتعامل بسمو وترفع عن المصالح الشخصية، لأن الهدف التخلص من المستعمر. دول كثيرة واجهت هذه المحنة. غالبيتها نجح في الوصول إلى الاستقلال، وبقيت فلسطين. لذلك أكرر عبارة صديقنا "لهذا ضاعت القضية.." لأتذكر سر المعاناة الراهنة.

اللقاءات الفلسطينية التي ترعاها مصر للعودة إلى طاولة المصالحة الوطنية، كان من المفترض أن تكون منصبة الآن على الحوار والنقاش لمواجهة التحديات الإقليمية والدولية. استمرار التباعد بين المسافات يغري من يتربصون بالقضية على دعم مبادرات محدودة، ولديهم من المبررات الإنسانية ما يصعب مقاومته. بالتالي يجب أن يكون التوافق هو الباب الذي تمر منه الصفقة الفلسطينية الجديدة.

 

محمد أبو الفضل