ليس اعلان كوريا الشمالية تجميد تجاربها في المجال النووي ومجال اطلاق الصواريخ الباليستية سوى استسلام لمنطق يقول ان مثل هذه التجارب لا تطعم الشعب خبزا. انّها اخبار سيئة لما يسمّى "محور الممانعة". سيحاول هذا المحور التخفيف قدر الإمكان من رضوخ كيم جونغ اون للضغوط الاميركية وإقناع نفسه بان بيونغيانغ حققت انتصارا جديدا على واشنطن. هذا عائد الى سببين. الاوّل ان كوريا الشمالية تلعب دورا كبيرا في تصدير التكنولوجيا المرتبطة بالصواريخ الباليستية وتطوير البرنامج النووي لدولة مثل ايران. يعود السبب الآخر الى انّ النظامين السوري والإيراني يعتبران كوريا الشمالية نموذجا للدولة القادرة على تحدّي واشنطن والرئيس دونالد ترامب تحديدا.
ليس سرّا انّ القرار الكوري الشمالي اتخذ بعد زيارة سرّية قام بها لبيونغيانغ مدير وكالة الاستخبارات المركزية الاميركية (سي. آي. إي) مايك بومبيو احد صقور الإدارة في ما يخص الموضوع الايراني. وبومبيو مرشح لتولي وزارة الخارجية الاميركية خلفا لركس تيلرسون، لكن تعيينه رسميا في هذا الموقع لا يزال ينتظر موافقة الكونغرس.
لا تستطيع إيران الاعتراف بانّ اقتراب كيم جونغ اون من لغة العقل والمنطق ستكون له انعكاسات عليها، عاجلا ام آجلا، وان من مصلحتها السير على خطى الرفيق كيم والاستفادة من تجربته. افضت هذه التجربة الى الاقتناع بانّ كلّ الكلام الكبير عن تطوير سلاح نووي وصواريخ باليستية لا معنى له في بلد يموت المواطن فيه من الجوع. هناك فقر ليس بعده فقر في كوريا الشمالية. هناك أناس يحاولون سد جوعهم عن طريق تحويل جذور الأشجار الى طعام. هناك آلاف ماتوا جوعا في اواخر تسعينات القرن الماضي ولم يستطع النظام تقديم شيء لهم باستثناء القمع والسعي الى اسكاتهم خوفا من انكشاف حجم المأساة امام العالم الخارجي، خصوصا امام كوريا الجنوبية.
لعلّ اقرب الانظمة العربية الى كوريا الشمالية هو النظام السوري. سار هذا النظام على خطى التوريث عندما اختار حافظ الأسد ان يكون خليفته ابنه بشّار. كان الأسد الاب تلميذا نجيبا لكيم ايل سونغ مؤسس النظام الجمهوري القابل للتوريث. استطاع كيم ايل سونغ توريث نجله كيم جونغ ايل، واستطاع كيم جونغ ايل توريث الحفيد كيم جونغ اون ذي الطباع الغريبة. لدى الزعيم الكوري الشمالي الحالي ما يكفي من هذه الطباع كي يتراجع فجأة عن كلّ عنترياته وتهديداته ويدرك ان المخرج الوحيد امامه هو قبول الشروط الاميركية. تعني هذه الشروط بين ما تعنيه التخلي عن سياسة تصبّ في تزويد الدول المارقة بتكنولوجيا الصواريخ وما شابه ذلك من اجل حفنة من الدولارات لا يستفيد منها الشعب بأي شكل.
لم تحل هذه الطباع الغريبة دون اعتراف كيم جونغ اون أخيرا انّ لديه حاجة الى انقاذ ماء الوجه للتغطية على افلاس نظامه. فزيارة بومبيو التي تلاها الإعلان عن تجميد التجارب الصاروخية والنووية سيمهد للقاء بين الزعيم الكوري الشمالي والرئيس ترامب في حزيران – يونيو المقبل. مثل هذا اللقاء الذي ستسبقه قمة بين الكوريتين سيكون حدثا تاريخيا وبداية انفتاح لا سابق له في شبه الجزيرة التي لا تزال تعيش في أجواء الحرب الباردة على الرغم من مضي ثلاثة عقود تقريبا على سقوط جدار برلين.
ستهب رياح التغيير على كوريا الشمالية وعلى شبه الجزيرة الكورية ايضا. لم يعد لدى النظام فيها من خيار غير الاستسلام للولايات المتحدة والسعي الى إقامة علاقات من نوع جديد مع كوريا الجنوبية التي استطاعت ان تكون قوّة اقتصادية ليس في جنوب شرق آسيا فحسب، بل على الصعيد الدولي أيضا. لم يعد سرّا ان السيارات والآلات الكهربائية من كلّ نوع والكمبيوترات والهواتف المصنوعة في كوريا الجنوبية تغزو أوروبا والولايات المتحدة والأسواق العربية والافريقية.
لو كان هناك عقل ومنطق لدى الذين يحكمون ايران وسوريا، لكانوا سبقوا كيم جونغ اون الى الاستسلام للمنطق والعقل وليس للولايات المتحدة. يقول العقل والمنطق بكلّ بساطة ان ليس في استطاعة ايّ بلد في العالم امتلاك مشروع توسّعي في غياب اقتصاد قوي من جهة ومثال يحتذى به من جهة أخرى.
من الطبيعي ان تكون الصين استخدمت كوريا الشمالية سنوات طويلة كورقة في المنافسة القائمة بينها وبين الولايات المتحدة، كذلك فعل الاتحاد السوفياتي ثمّ روسيا. كانت الصين منذ ما يزيد على ستة عقود شريان الحياة للنظام الكوري الشمالي الذي يبدو انّه صار حاليا عبئا عليها.
يبدو المثير في التحوّل الكوري الشمالي توقيت هذا التحوّل. انّه يأتي في مرحلة يبدو فيها الشرق الاوسط مقبلا على احداث كبيرة في ظلّ الإصرار الايراني على إقامة قواعد عسكرية في الأراضي السورية تضاف الى تلك التي اقامها "حزب الله" نيابة عنه في لبنان.
ليس سرّا ان كوريا الشمالية تلعب دورا كبيرا على صعيد كلّ ما له علاقة بتطوير الصواريخ الايرانية، بما في ذلك تلك التي يطلقها الحوثيون من الأراضي اليمنية في اتجاه المملكة العربية السعودية. فضلا عن ذلك، هناك تعاون بين النظام السوري وكوريا الشمالية في مجال تطوير الاسلحة المحظورة. ما قصفته إسرائيل في العام 2007 في منطقة دير الزور السورية كان منشأة بنتها كوريا الشمالية يجرى العمل فيها على تطوير مفاعل نووي.
هل تنتقل كوريا الشمالية في 2018 من مرحلة المتاجرة بالاسلحة المحظورة المسماة أسلحة الدمار الشامل الى مرحلة التصرّف كدولة طبيعية همّها الاول محصور بتوفير المواد الغذائية لشعبها الذي يبلغ تعداده نحو خمسة وعشرين مليون نسمة؟
سيتبيّن قريبا الى مدى يمكن ان يذهب كيم جونغ اون في التغيير. سيظل السؤال المطروح هل يصمد نظامه في وجه التغيير الذي سيعني قبل كلّ شيء الانفتاح على دولة حديثة هي كوريا الجنوبية؟
لا يبدو صمود النظام الكوري الشمالي أكيدا. ما هو اكيد ان كيم جونغ اون سييتّم "محور الممانعة"، خصوصا ايران التي لم يكتشف النظام فيها ان الشعب لا يريد صواريخ ولا قنبلة نووية ولا السيطرة على عواصم عربية مثل بغداد ودمشق وبيروت وصنعاء بمقدار ما يريد حياة افضل. هذا يعني في طبيعة الحال علاقات افضل مع المجتمع الدولي ومع الولايات المتحدة تحديدا... وتخليا عن شعارات طنانة وكلام فارغ وقواعد صواريخ لا هدف منها سوى تحقيق انتصارات على الشعب للبناني والشعب السوري والشعب العراقي والشعب اليمني!
خيرالله خيرالله