بيّنت على نحو غير مفاجئ المظاهرة الفلسطينية المستمرة على طول الحدود بين إسرائيل وغزة على أنها عنيفة. لقد قتل أكثر من 30 فلسطينيا وأصيب المئات. وإذا استمرت هذه المظاهرات حتى 15 مايو (الذكرى السبعين لقيام إسرائيل) كما خططت لها حماس، فمن المرجح أن يقتل المزيد من الفلسطينيين بينما يزيد احتمال قيام إسرائيل بغزو غزة للمرة الرابعة في محاولة منها لإنهاء الأزمة. وبغض النظر عن الكيفية التي ستنتهي بها هذه الحرب، فإن أكبر الخاسرين هم الشعبان الإسرائيلي والفلسطيني.
وما هو محزن حقا أنه عندما يستقر الغبار في النهاية ويتم دفن الموتى والجرحى يتماثلون للشفاء، لا يتغير شيء على أرض الواقع. سوف تستمر الندوب النفسية والعاطفية المتبادلة والإستياء والكراهية في استهلاك الطرفين من الداخل وبكثافة أكبر. وستكون مسألة وقت فقط حتّى يُستأنف العنف القاتل. اللوم يقع بالكامل على القادة الإسرائيليين وحماس الفاسدين المضللين الذين قاموا بتضليل جماهيرهم بشكل خطير خشية على بقاءهم السياسي بدلا من رفاهية وأمن مجتمعاتهم.
إن الأزمة الداخلية في غزة تبعث على الغثيان وتتخطى بؤس التعاسة الإنسانية. فالفقر متفش ومياه الشرب النقية نادرة ومياه المجاري تتدفق في الشوارع والبنية التحتية متداعية والكهرباء مقطوعة معظم ساعات النهار والرعاية الطبية متخلفة والبطالة موهنة والتعليم دون المستوى واليأس يملأ الهواء.
فبدلاً من التركيز على هذه الأمراض الإجتماعية والإقتصادية المرعبة وتخفيف معاناة شعبها، تستثمر حماس مئات الملايين من الدولارات في بناء الأنفاق وشراء الأسلحة وتصنيعها وتدريب آلاف المقاتلين لخوض حرب خاسرة أخرى. تقوم قيادتها بنشر رواية مشوهة لتضليل الجمهور وتشجيع المقاومة ضد إسرائيل كطريقة لشعبها ليجد الخلاص.
تريد حماس رفع الحصار ولكنها غير راغبة في نبذ العنف كأداة لتحقيق هدفها السياسي في إقامة دولة فلسطينية إسلامية. إنها تطالب بحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة مع العلم أن هذا المطلب مستحيل ولا يمكن لأي حكومة إسرائيلية، بغض النظر عن توجهها السياسي، أن تنظر فيه، لأنه سيؤدي إلى طمس شخصية إسرائيل اليهودية.
ومن أجل تعزيز أجندتها السياسية يدعو ميثاق حماس علانية إلى تدمير إسرائيل مع العلم تمامًا أن هذا الهدف ليس سوى نقطة الإنطلاق التي تصب في مصلحة حكومة نتنياهو اليمينية. إلى جانب ذلك، لو كان بمقدور حماس "أن تهدد وجود إسرائيل"، لما بقيت على قيد الحياة يوما ً آخر.
ومما لا شك فيه أن حماس تلقي باللوم على إسرائيل في محنة الفلسطينيين بينما تقدم طلبات سخيفة للاستهلاك العام، مدركة ً أن أيا من إدعاءاتها لن يؤتي ثماره في ظل رفض إسرائيل لأي تنازلات، طالما أن حماس متمسكة بمواقفها.
وسياسة حكومة نتنياهو تجاه حماس لا تحقق نتائج أفضل بكثير. إنها تستند إلى فرضية أن حماس هي ببساطة مجموعة من المقاتلين الإسلاميين "لا يمكن إصلاحها" وتلقي باللوم في الأوضاع البائسة في غزة على قيادتها. وعليه، فقد وجد نتنياهو وشركاؤه أنه من المريح عدم تحمل أي مسؤولية، مع العلم أن الوضع الراهن لا يمكن أن يستمر وأن المواجهة العنيفة الحالية كانت كلها حتمية.
ومع ذلك، فإن الحكومة الإسرائيلية لم تفعل سوى القليل لتخفيف الوضع وربطت أي تخفيف للحصار المفروض على حماس بإلقاء حماس أسلحتها مع الإدراك بأن هذا المطلب هو بمثابة استسلام لن تقبله حماس أبداً. إلى جانب ذلك، ركن نتنياهو وشركاؤه المتشددون إلى فكرة أن الإنفجارات العنيفة في غزة ستحدث مرارا وتكرارا وخيار إسرائيل الوحيد هو قمعها بالقوة وانتظار الجولة التالية.
وأخيراً، من أجل كسب الدعم الشعبي يعطي نتنياهو، الذي يعتبر من كبار المتلاعبين والمثيرين للخوف، الكثير من المصداقية للاحتجاج العلني من أنّ الهدف النهائي لحماس هو إقامة دولة إسلامية تسيطر على كل فلسطين بما فيها إسرائيل.
المشكلة هي أنه لا حكومة نتنياهو ولا حماس على استعداد لقبول الواقع على الأرض وهو التعايش الذي لا بديل له سوى الكارثة. السؤال هو كيف نعمل لإيجاد حل لصراعهم في سياق حتمية التعايش على الأرض.
وبالنظر إلى أن الظروف غير الإنسانية في غزة لا تطاق وأن العنف لا بد أن ينفجر مراراً وتكراراً، يجب أن تشعر إسرائيل بالقلق إزاء مسؤوليتها الأخلاقية بالإضافة إلى أمنها القومي. وبالنسبة لحماس، الوقت آخذ في النفاد، فلم يعد باستطاعتها أن تركب على ظهر الفقراء والمساكين واليائسين الفلسطينيين وأن تضع اللوم على إسرائيل فقط. أغلبية الفلسطينيين في غزة لم تعد تمرّ عليهم هذه الحجة. إنهم يريدون الخلاص، وهم يريدونه الآن.
أشك كثيراً بمقدرة حماس والسلطة الفلسطينية في أي وقت في المستقبل المنظور أن يجدا طريقاً مشتركة يمكن أن تؤدي إلى قيام دولة فلسطينية فاعلة. ولهذا السبب، وبدلاً من استغلال الإنقسام الفلسطيني، ينبغي على حكومة نتنياهو أن تحوّل نظرتها إلى حماس وأن تتعامل معها ككيان منفصل في غزة. وفي الواقع، حركة حماس منفصلة من الناحية الأيديولوجية والجغرافية عن السلطة الفلسطينية والضفة الغربية. وهي تعمل في غزة كدولة ويجب أن تعترف بها إسرائيل على هذا النحو، بغض النظر عن التصرف النهائي في الضفة الغربية.
ما نحتاجه إذن هو عملية مصالحة بين إسرائيل وحماس التي يجب أن تبدأ بوقف جميع الأعمال العدائية. فإذا أرادت حماس رفع الحصار، يجب عليها أولاً أن تنبذ العنف. يجب أن يكون رفع الحصار تدريجياً ولكن بثبات وبالتوافق مع سلوك حماس. ينبغي على حماس أن تثبت أن نبذها للعنف نهائي بإنهاء بناء الأنفاق والتوقف عن تعزيز ترساناتها. وبالتأكيد، أحمق من يظنّ من قادة حماس بأن إسرائيل سترفع الحصار بأي شكل آخر ولو جزئياً في حين تواصل حماس تهديد وجودها ذاته.
من ناحية أخرى، فإن مطالبة إسرائيل بأن تسلم حماس سلاحها أولاً كشرط مسبق للرفع التدريجي للحصار هو بمثابة استسلام، وهو ما لا تستطيع حماس قبوله بشكل واقعي. يجب أن يخضع تخفيف الحصار ورفعه في نهاية المطاف لتدابير بناء الثقة وعملية المصالحة المستمرة التي ستؤدي إلى تجريد غزة من السلاح بدعم من مصر التي تحرص أيضاً على نزع سلاح حماس.
يجب على إسرائيل أن تقبل حقيقة أن حماس موجودة لتبقى. وأخذا بعين الإعتبار حقيقة أن إسرائيل لها اليد العليا، يمكنها اتخاذ بعض خطوات المصالحة وتغيير طبيعة الصراع القابل للإشتعال دون المخاطرة بأي عنصر من عناصر أمنها. علاوة على ذلك، وبالنظر إلى التوتر المتزايد بين إسرائيل وإيران وحزب الله، فإن التخفيف من الصراع مع حماس سيسمح لإسرائيل بالتركيز على الجبهة الشمالية التي هي أشد خطورة من الصراع مع حماس.
إذا استمرت المصالحة بين إسرائيل وحماس على أساس ثابت، فقد يؤدي ذلك في النهاية إلى إنشاء ميناء بحري ومطار في غزة إلى جانب مساعدة من إسرائيل في بناء محطات التحلية. هذه الخطوات التصالحية المشروطة تجاه حماس ستمنح إسرائيل أيضاً مزيدا ً من التأثير والنفوذ على الضفة الغربية في المفاوضات المستقبلية، هذا بغض النظر عمن يقود السلطة الفلسطينية.
أي شخص على دراية بالفكر الداخلي لحماس والحكومة الإسرائيلية يعرف أن كلا الطرفين قد استسلم للواقع الذي لا يتزعزع لبعضهما البعض. لقد تفاوضت إسرائيل وحماس بشكل مباشر وغير مباشر في العديد من المناسبات. فهم يعرفون حدود بعضهم البعض وما يتطلّب للخروج من المأزق وتمهيد الطريق للمفاوضات الجوهرية في المستقبل.
يجب على إسرائيل وحماس التخلي عن أي مطلب لا يمكن تلبيته بشكل واقعي، لأنه لا يلقى سوى شكوك جدية حول النوايا النهائية لكل منهما. ولكن من المحزن أن غزة وإسرائيل يقودهما قادة متشددون متشبثون بالماضي، بما في ذلك نتنياهو وبينيت من الجانب الإسرائيلي وإسماعيل هنية ويحيى سينوار وغيرهم من جانب حماس. إنهم يخشون من أنّ أي تغيير في الإتجاه قد يعرّض موقفهم من السلطة للخطر، وهو ما يضر بشعوبهم.
ومع ذلك، فإن عملية المصالحة تحت أي ظرف من الظروف ليست ممكنة فقط، بل إنها الطريقة الوحيدة لكلا الطرفين للخروج من المستنقع الذي يتواجدان فيه. وللتأكيد، وبغض النظر عن عدد الصراعات العنيفة التي يتحملونها، سيظلون يواجهون بعضهم البعض حيث سيقومون بمسح خسائرهم البشرية والمادية بدلا من مكاسبهم، وكلّ ذلك بدون جدوى.
د. ألون بن مئير
أستاذ العلاقات الدولية بمركز الدراسات الدولية
بجامعة نيويورك ومدير مشروع الشرق الأوسط
بمعهد السياسة الدولية