درجت العادة أن يضع الكتاب أعمالهم في صنف فن أدبي معين من خلال ما تؤشر إليه العلامة التجنيسية حتى ولو كان النص سابحاً خارج نوع مُعين أو لم يقعْ ضمن قالب أدبي مُحدد.
غير أن كثيراً ما يتفاجأُ المتلقي بأنَّ ما في متناوله لا يتمثلُ لخصائص ما توحي به المفردة التجنيسية، وهذا ما تراه في تلك الأعمال التي تتداخل فيها الأجناس الأدبية من السيرة إلى الخاطرة واليوميات والصيغ الخبرية إضافة إلى توظيف الموروث من الأدب الصوفي والمقامة والرسائل وتقنية الحُلم.
كل ذلك يتضافر في متن النص إلى أن يبدو في تشكيلة مُختلفة مُتخطية التصنيفات المتعارف عليها، وهنا قد تثير هذه التركيبة سؤالاً حول توقعات القاريء وطريقة استقباله لهذا النص المُراوغ طبعاً.
إنَّ مثل هذه النصوص تُغادرُ الأُطر النمطية فبالتالي قد تصدمُ القاريء الذي تآلفت ذائقته على ما هو سائدُ من تراكيب وأشكال متداولة ما يعنى أنَّ المُغامرة لا تنحصر في حدود كتابة تلك النصوص بل تشملُ عملية قراءتها أيضاً طالما أن ما يُتلقى مغايرُ ويتطلبُ الخروجَ من ترسيمات قارة في الذهن بتأثير التعاطى مع التجارب المُتماثلة، لذا فثمة أعمال تستدعي مستوى آخر من المقاربة لإضاءة أبعادها وفهم العناصر التي تُكسبها الخصوصية والفرادة.
رواية "بربرا" للكاتب والروائي التونسي شفيق الطارقي الصادرة مؤخراً بوسمة "دار مسيكلياني. تونس" هي من الأعمال التي تتميزُ بالفرادة على المستوى الأُسلوبي إذ تتوارد في طياتها أشكال تعبيرية مُتنوعة وتجتمعُ بين مكونات الخطاب السردى في بنيتها (الراوي، المادة المروية، المروي له) كما فضل مؤلف "لافازا" توزيعَ محتويات نصه إلى أبواب وكل باب يتضمنُ عدة وحدات تشير إلى الليالي التى تستغرقها عملية التواصل السردي بين الراوي والمروي له.
وفي ختام كل وحدة تتكرر عبارة "بربرا هل أنت هنا؟ يبدو أنك قد نمت" وفي ذلك ما يكشفُ تأثير صيغة الليالي العربية في وصفة الرواية لدى شفيق الطارقي مع وجود الإختلاف في تقنية التراسل بين طرفي الحكاية، في الليالي العربية وبربرا.
• نص طليق
مع أن "بربرا" تتوفر فيها كل عناصر الرواية من الشخصية والمكان والزمان والحدث والحوار والوصف لكن هذه الركائز كلها يبهتُ دورها في هذا النص إذ يسودُ نسقُ مُتشظٍ ويسترسلُ الراوي في مُخاطبة من إختار لها اسم "بربرا".
ويُفتشُ في صندوق ذكرياته ليبسُطَ ما هو مكنون في فؤاده من أسرار حميمة بأسلوب قريب من النمط الهذياني المطبوع بشطحات المتصوفة فهو يتساءلُ ماذا لو كانت بيتى في سنها وزاملته في مرحلة الدراسة ويفترضُ أن تكون من بنات بلدته وتتصرف مثلهنَّ وترتدي ما يرتدين من الجلباب حينذاك يقولُ لها ما كان يردده الحلاج "ما في جبتي غير الله".
ويتحول من شهيد التصوف إلى باختين والجرجاني متصوراً تلقى شروح نظرياتهما من بيني. كما يغبطُ الراوي حياة جدته التي لم تصدق شيأً وتعقبُ على كل ما تسمعُ بقولها يكذب خطاب الرئيس كذب التعليق الكروي كذبُ كلام العشاق كذب.
إلى جانب ذلك يستعيدُ شكوك والده بكونه ذا شأنِ لعدم ظهوره على الشاشة. يبدأُ الباب الأول بمقامات عن الحب والمطر والرؤيا والنروبيات ومقام التلفاز إذ يُقدم في مقام الشاعر الأحوال التي يمرُ بها ويبوحُ بحبه لشعراء قصيدة النثر بوصفهم قتلة بإمتياز.
كما يبلغَ بربرا بِمُصاحبة الشعراء للأشجار وإهمال أصحاب الدواوين في قصائدهم لما يتنكهُ بطعم شعري ولم يلتفتوا إليه ويعترف بأنه عندما حاول كتابة الركبة شعريا تحول إلى نحات وتاه.
وبما أن بنية الحلم تتصف بالإيجاز والكثافة والرمزية لذا فإن الرؤى والأحلام التي يسردها الراوي تنداح على امتداد الأزمنة تارة تتراءى له نفسه في سمرقند وتارة أخرى يخبرُ بربرا بأنه شهدها في كينيا وفي الأهواز ومُصادفته لرجل يرش الرصاص على الأشجار.
على هذا المنوال تتسلسل فقرات الرواية التي تُعبر عن تجربة الراوي ورؤيته لمُعطيات أدبية وفكرية وأحيانا يتماهي الجمال الأُنثوى بجمال النص وما يجمعُ بين حالتين هو المباغتة واللاحيادي. فضلاً عن ذلك فإن الكتابة لا تكون دون وجود الجميلات برأي المُرسل لذا فإنَّ ما هو خسارة في العشق يتحول إلى نصر مُبين في الكتابة، وفي ذلك يضربُ مثالاً بصديقه الجامعي الذي هام حباً بطالبة في القسم الفرنسي، ويستعيدُ الراوي في رسائله لعبدالعال نصيحة جده النبوئية بضرورة الحب مع المرأة الأربعينية التي "هي حجةُ لمن لا حجة له على جواهر الحب" كما يستفيض مرة أخرى في وصف الحب والكتابة مؤكداً على أن القصيدة هي وليدة تصفية حب للمرأة.
• العبقرية
لا تحضر المرأةُ في هذا النص بدورها رمزاً مكتنزاً بدلالات الحب والرغبة والجمال والإغواء فحسب إنما تُمثلُ وهج المعرفة والنبوغ والإشراقة الصوفية، وهذه المعاني تتكثف أكثر في شخصية (بينى) الجامعية التي تدرسُ السيموطقيا في السوربون إذ تعرف عليها لدى نرمين طالبته السابقة. ويندمج بعالمها ولايرى الشعر إلا في تقاطع وجهها، يمعنُ النظر في كل أطوارها ويتحاوران عن الجنة والنار والوجوه التي غيبها الموتُ ويعترف لها بخياناته مع عدد من النساء إلى أن يسردُ اللحظات التي شارفت روح هذه الأنثى العبقرية على مفارقة الحياة. وهنا تظهر ابنتها مي ويقهر الإثنان الحزن بِمُعاقرة البهجة.
تضجُ "بربرا" بإسماء النساء والشخصيات الأدبية يناقشُ كاتبها مآلات الثورة من وجهة نظر (نوي) غير أنّ ما هو صادم ويُظهر براعة الروائي هو النهاية التي يكمن فيها مكر الحكاية إذ يتفاجأُ المتلقي بتصاعد وتيرة الأحداث المُعقدة بعد مقتل الراوي وما يزيدُ من غرائبية الحدث هو إماطة اللثام على شخصية بربرا التي ليست إلا صديق نوي (عبدالعال) منتحلاً شخصية المُعجبة لإستنطاق مخزون الراوي من خلال رسائل فيسبوكية، ولا يكون المُتَهمُ بفعل الجريمة إلا عبدالعال الذي يقضي أياماً في السجن قبل إعلان براءته من دم صديقه.
غير أن الحكاية الماكرة لا تنتهي هنا بل يُبلَغُ عبدالعال بأن "بربرا" هي التي وراء مقتل (نوي) هنا يتوارد إلى الذهن إعتراف عبدالعال بتمترسه وراء هذا الإسم لمحاورة صديقه وبهذا يهيمن فنتازيا الرعب على مناخ النص ومن الواضح أن عناصر البناء الدرامي كلها من الحبكة والتحول وتتالي الأحداث تتعالق في المشهد الختامي أضف إلى ذلك يتخذُ السردُ إيقاعاً بوليسياً مُتسارعاً.
يذكر أنَّ هذا النص يستمدُ خصوصيته من طلاقته وعدم تقيده بتصنيفات أجناسية إذ نجح كاتبها في المزاوجة بين اليوميات بعفويتها وحميميتها كما يبوح الراوي على صفحات الرواية بما تختزنه الذاكرة من أطياف وألوان الحياة التي عاشها في كنف بلدته الجنوبية المُعَمَدة بالبساطة والأحلام البريئة فضلاً عما توغل في صميم حياته من حب بينى الباريسية الأمر الذي دفع باللغة نحو تخوم الشعر كأنَّ تجربة الحب لا تنطق إلا شعراً.
هذه الرواية بصيغها المتنوعة ولغتها العذبة وتناصاتها مع النصوص المقدسة وسردها الماكر تبدو فوضوية مثل الرقص الذي ما أن ينطلق على خط وبإتجاه محدد حتى تمحى كل الخطوط وما يبقى إلا الحالة التى لا تستنكه الإيقاع المتحكم بها.