المدخل: نسمع اليوم كثيراً عن المطابخ في الشرق وعن تنوع الطعام واختلاف تسمياتها من بلد لاخر ومَنْ سبق مَنْ في الابتكار والتسمية لهذا الطبق وتلك الأكلة واذا ما نظرنا في الواقع السياسي والاقتصادي للدولة الاسلامية منذ نشأتها عند بعث النبي صلى الله عليه وسلم ومراحلها وتنقل العواصم بين البلدان ونظرنا ايضا الى الممالك والحضارات من حولها نجد ان العرب اقتصروا على بعض الاكلات البسيطة المصنوعة من اللحم والخبز وكان العربي يعد كريما وقد بذل غاية العطاء اذا بذل لضيفانه الخبز واللحم اياً كان نوعهما ولم يكن هناك ذكر لترف في اكل او شرب يتجاوز حد الاساسيات منه لديمومة الحياة. فكيف ازدهرت اطباق الطعام وكيف تطورت وتنوعت وهل هناك في الطعام تجديد وتحديث وتطور؟ شأنه شأن التطور الحاصل في الادب والشعر ومتى بدأ ذلك وكيف؟ وما اسبابه وما الداعي اليه ؟ احاول في حديثي هذا توجيه الاضاءة على بعض جوانب هذا الموضوع .... الـمـتـن: دام حكم بني العباس ٥٢٤ عاماً هجرياً تمتد بين عام ١٣٢ لغاية عام ٦٥٦ ويقسّم المؤرخون فترة حكمهم الى اربعة عصور: العصر العباسي الأول وهو فترة نهوض الدولة وعصرها الذهبي ثم العصر الثاني وهو فترة السيطرة التركية على مفاصل الحكم ثم العصر الثالث وهو عصر السلاجقة ثم الرابع وهو عصرالمماليك ويعتبر فنُ الطبخِ دلالةً مهمةً على تقييم حياة الشعوب وأسلوب معيشتها وتكاملها البيئي والحياتي من خلال المأكولات نفـسِها اولا، ثم من خلال دلالة المأكولات على منتجات الدولة الزراعية والحيوانية، كما يشير تنوع الطبخ في اي بلاد الى الاختلاط بين الثقافات من خلال اتساع رقعة الدولة وما تضم من شعوب مختلفة الأعراق والطِباع والاذواق وهذا يؤثر -ضرورةً- على اسلوب حياتهم ومعيشتهم ومن ذلك اطباقهم وطعامهم. وأول من كتب في الطبخ وصنف في الطعام كان في زمن بني العباس حيث وُضِع أول كتاب في الطبخ اسمه "كتاب الطبيخ وإصلاح الأغذية" وضعه وصنّفه أبو محمد المظفر بن نصر بن سيّار الورّاق في أواخر القرن الثالث وبداية القرن الرابع بين خلافة الخليفة علي المكتفي بالله المتوفى 295هـ والخليفة جعفر المقتدر بالله المتوفى 320هـ ولم يُكتب او يُعرف -قبل هذا الكتاب- كتاب في فن الاغذية والطبخ، وقد فصل فيه ابن سيار انواع اللحوم وذكر فيه لحوم الماعز والغنم والبقر والجزور والظباء ، وذكر فيه ايضا فوائد لحوم الطيور والاسماك كلها وصنف تأثيرها على جسد ابن ادم وما يصلح كل نوع منها وما يفسد فكان -بالاضافة الى كونه كتاب طبخٍ- دليلاً صحياً لكل أكلةٍ وطبق وذكر فيه الاكلات المقلوّة والمخبوزة والمشويّة منها ما هو معروف لغاية اليوم كالكباب والطواجن وبعض الاكلات المطبوخة كالكشكيّة المصنوعة من البُرِّ والعدسية من العدس ومنها ما لم يبق له ذكر كالسكباج والحضرمية والزيرباج وغيرها ويدلل مطبخُ اي شعبٍ على امرين هامين: الاول ثقافة ذلك الشعب الصحية، والثاني وضعه الاقتصادي، وقد بانت ثقافة الشعوب في الدولة العباسية في كثير من النواحي اولها الفكرية والعلمية من العدد الهائل من علماء الفلك والرياضيات والكيمياء وعلوم اللغة والفقه فتعددت المدارس ومعاهد العلم وازدهرت اسواق الوراقين والنساخين لكثرة المؤلفات والاقبال عليها؛ من اهلها اولاً، ومن الوافدين لاخذ العلم ثانياً، ثم من انتقالها الى حضارات اخرى من خلال الترجمة وانتقال اهل العلم بين المدن والامصار لنشر علومهم ومعارفهم. ولن تجد تعدداً للأطعمة لدى الشعوب المعدمة أو الفقيرة وإنما تتعدد الاطعمة عند اهل الغِنى والترف فاذا شبع بنو آدم من الأساسيات كالخبز واللحم والسمن والبيض فكروا وابتدعوا ما يُقبِلون من خلاله على الطعام وأسموه المقبلات ثم ابتدعوا ما يصلح لما بعد الطعام لمجالس انسهم وسهرهم من اصناف الشراب والنقائع والعصائر والحلويات وهذا كله دلالة على الترف والبحبوحة والقدرة على الشراء ثم علوِّ الذوق في التفنن في الخلط والطبخ ، لاجل ذلك ابتدعت اصناف كثيرة من الاكل والحلويات بما يناسب كل مناسبة ووقت. ويعد الطبخ فناً عاليا كبقية الفنون الجميلة كالرسم والنحت والزخرفة لا يصلح له الا صاحبُ خيالٍ وذوقٍ ودقةٍ وله علم باسرار الطعام ومطيباتها وسعة في الخيال تتيح له ان يتخيل طعم ورائحة كل طبق قبل ان يبدأ بخلطه وطهيه ولديه القدرة على ان يصنف ما يؤكل نيئا او ناضجاً وما يخلط مع غيره وما يضاف اليه من التوابل والمطيبات، فابتكرت في تلك الحقبة حلويات الخبيص والبهطة والزلابية والفتّة وغيرها. ولأن بغداد هي العاصمة الاوفر حظاً بين المدن لبقائها عاصمةً الدولة والدين والشعر والعلم والسياسة لما يزيد على خمسة قرون كان الاقبال عليها من كل اقطار الارض فمن الناس من اتى اليها طمعاً بعلم او تجارة او بوفرة حظ في وظيفة وعمل او من اتاها سائحاً لرؤية المدينة الاجمل والاكثر تطوراً آنذاك، أو لزيارة مراقد الأئمة المنتشرين فيها وحولها أو من أتاها شاعراً متكسباً بقصيدة يمدح بها تاجراً او قائداً وزيراً او اميراً وهكذا استقر في بغداد أجناسٌ من كل فنٍ وذوق فكثرت فيها المطاعم والخانات والملاهي والنوادي وتسابق فيها الطهاة لخلق كل جديد ولذيذ لارضاء زبائنهم وضيوفهم حتى اصبح للطعام سوق رائجة واشتهرت اسماء الأكلات والاطباق وذاع صيتها واستحسنها الناس ومنهم الشعراء حتى تغنى بعض الشعراء بها وبوصفها ولله در ابن الرومي وقد كنى عن السمك بـ "بنات دجلة" بقوله: عَسُرَتْ علينا دعوةُ السَمكِ ... أنّى وجودُك ضامنُ الدَرَكِ يا من اضاء شهابُ غرّتِه ... فَجَلا ظلامَ الليلِ ذي الحَلِكِ اعلمْ وُقيتَ الجهلَ أنّك في ... قصرٍ تلته مطارحُ الشَبَكِ وبناتُ دجـلـةَ في فنائِـكُـم ... مأسورةٌ فـي كـلِّ مـعـتركِ فليصطدِ الصــيادُ حاجَتنا ... يـصــطـدْ مودَتَـنا بلا شَركِ او قوله واصفا الخبز: لا شيء احسنُ من خبزٍ مررتُ به في الكرخ يوما يجيد الخطف للبصر رأيتُه في يد الخبّازِ يَعْرُكُه ... فوقَ الخِـوان كمـثِل الدرِ منتثرِ اذا تناولَ منه درةً رجعتْ ... كالترسِ من كفِه أوحى من القدرِ أرى الرغيفَ بكفيِه يدوّرُه ... تدويرَ طـبٍ على الـتدويرِ مقتدرِ كأنّه في يديِه وهو يبسطُه ... اذا تـكـامـل حسـناً هـالةَ القـمرِ اراه كالبدرِ قبل النارِ لاح لنا ... وعند توريـدِه شـمـسٌ بلا كدرِ والخِوان هي طاولة الطعام فاذا وضع عليها الطعام صار اسمها مائدة ، ومما يؤكد بغدادية بعض انواع المخبوزات واسمها "البراذج" او "البرازق" بتسمية اليوم وهي في اصلها ليست عربية وهو ما يؤكد ان المطبخ البغدادي اخذ مما حوله من فنون الطبخ واضاف عليها وحسّنها واخرجها بصفات جديدة وربما باسماء جديدة أيضاً او أبقى على اسمها كما هو، فيصف ابن سيار طريقة صنعها فيقول: يؤخذ من الدقيق النقي الجيد مَكُّوك ويُجعل فيه من الخمير أوقيتان ومن الملح والبورق عشرون درهماً ويعجن َعجناً شديداً ويغطى حتى يختمر فـإذا اختمر قُطِّع قطعاَ ,و ُقرِّص أ ْقراصاً لطافا يكون مقدار القرص أوقية بالشامي ويمسح على كل قُرص مقدار وزن درهمين زيت أنفاق ثم ُتبسط عـلى الخوان بسطاً معتدلاً في الرقة ويُريّشُ لا ترييشاً كثيراً, ثم ُتغطى بمنديل جافٍّ ويُوقد التنور فإذا حمي وُمسح وهدأ, ألصقت فيه الأرغفة بمنديل تحمل عليه ومن أراد أ ْن ينضحَ في وجوهها ماءً فعل ثم إذا أخُرجـت عند النضج غُمت بمنديل ساعة إن شاء االله وكانت اكلة محبذة لديهم وقد وصفها الشاعر ووصف الخباز الذي يصنعها بقوله: رأيت باقصى كرخِ بغدادَ خابزاً ... وقدّامَه خـبـزٌ يفوقُ المعانيا كأن استداراتِ البرازج اذْ زهتْ بحسنِ بياضٍ واغترفنَ المغانيا صَوانٍ من البلّور لو كنَّ كالذي ... بهِ شُبهتْ أضحتْ لدينا أوانيا ومما يذكر في هذا الباب ان نوعا من انواع الخبز يسمى فتيتاً كان يعمل لابراهيم ابن الخليفة المهدي وكان شاعراً وقد اهدى له الخليفة الامين يوما فتيتاً فاستحسنه فكتب فيه شعراً يصفه ويصف مذاقه وجودة صنعه فيقول: كان لطـفـاً من الأمـيـن مسَرا ... حين اهدى خبز الفتيت وبرا هن اقراص ذي اعتدال سواءٌ ... كلُّ قرصٍ مـنـهـنَّ يشبه بدرا طعمها الشهد في المذاقة والريـ.... ـحُ اذا شم ريح عود مطرا فهي في اللون كاللجين وكالتبر جميعا في الضد بيضاً وصُفرا عُجنت بالطَّبَرزَدِ المحض حتى ... حلتها سكراً وشهداً وعطرا والطَّبَرْزَذُ على وزن سفرجل، نوع من انواع السُّكَّرُ وهو فارسي معرّب واصله تَبَرْزَدْ بالفارسية، ولو تمعنا في الاشعار المذكوة آنفا لوجدنا ان في الثلاثة قصائد وصف لاكلات تعود الى بغداد من خلال نسبتها الى بغداد أو نواحي واماكن وأعلام من بغداد فالاولى ذكر فيها نهر دجلة والثانية ذكر فيها جانب الكرخ من بغداد والثالثة ذكر فيها الاخليفة محمد الامين ابن هارون الرشيد وهناك من الاشعار في هذا الباب الكثير تعذر ذكرها لقصر مساحة الحديث، وهذا يدلل على ترف الدولة والناس والذي وصل الى الحد الذي ذكروا طعامهم في شعرهم وزادوا على ذلك ان تغزلوا به ومدحوه ووصفوه وصفا جميلا يليق بذوقهم وترف معيشتهم ورب قائل يقول: ولماذا لم يشتهر المطبخ قبل العباسيين عند بني امية فقد كانوا ملوكاً أيضا وأسسوا لدولتهم وكانت دمشق قبلة اهل الارض في عهدهم؟ فاقول: هناك اكثر من سبب؛ اولها قرب عهد بني امية بالعهد الراشدي واثره ذلك على الناس في عدم التبذير والاسراف والرضى بالقليل وخلو الحياة من الترف تأثراً بمنهج ومعيشة من قبلهم من الصحابة والتابعين وأن فنون الطبخ كما ذكرت تحتاج الى ترف وبحبوحة كي يزدهر وينال الوفرة من الابداع والتطور، كذلك قصر عمر الدولة الاموية الذي دام ٩٠ عاماً مقارنة بعمر الدولة العباسية والتي دامت بما يزيد على خمسة اضعاف عمر الدولة الأموية، وهناك سبب ثالث وهو ان الدستور الاموي لم يكن يتيح أو يسمح للابن من تقلد ولاية العهد ثم الخلافة الا اذا كانت امه عربية فلم يكن هناك اختلاط بين بني اميه وبقية الأعراق في تزاوج وخؤولة غير عربية تتيح الاختلاط بين الافكار والثقافات على عكس بني العباس الذين كانت غالب خؤولاتهم من غير العرب فاختلطت دماء بني العباس بغيرهم من الاعاجم واختلطت معها كثير من العادات والطباع والتقاليد فأثّر ذلك على قصورهم اولا ثم على العامة. يتبع الاسبوع المقبل ....