محمود عبد الغني
أصدر الفيلسوف والمؤرخ والأستاذ في جامعة السوربون، جان فرانسوا برونشتاين عملاً فلسفياً يحمل عنوان «الفلسفة أصبحت مجنونة، النوع، الحيوان، الموت». وقد وصفت المؤرخة الفرنسية «إليزابيث رودينسكو» هذا العمل، في مقال لها بجريدة «لوموند»، بأنه موثّق بطريقة جدية وقوية، ويتميّز بالاختلاف عن مفكري العالم الجامعي الأنغلوفوني الذين، باسم التقدّم، والمساواة أو الغيرية، يسعون إلى إزالة الحدود بين الأجناس، وبين الحيوانات والإنسان، وبين الحياة والموت.قام برونشتاين بمهاجمة أشهرهم: لوديث بوتلر، بيتر سينجر، جون موناي، آن فوستو-ستيرلينغ، دونّا هاراواي…لكنه ابتعد جدّاً عن الرجعيين، ولم يتهم المنفعة الشرعية التي تخصّ بها الحضارة الغربية الهوية، ومعاناة الحيوان أو الموت بدون ألم. كما أنه لم ينتقد الأساتذة الكبار، الذين ابتدعوا خطاباً أخرق، إلا بخوف وسخرية. وهو نقدٌ تضمّن منتخبات من البورتريهات الخارجة مباشرة من رواية لكافكا.
قام برونشتاين في البداية برسم مسار جون موناي (1921-2006)، وهو محلّل نفسي نيوزيلاندي الذي دافع عن قناعة أن نوع الشكل لا علاقة له بالهوية الفردية. ولا يعطي أهمية إلا للدور الاجتماعي: النوع دون جنس. يكفي إذن، في رأيه، تربية ولد كما لو أنه بنت، والعكس صحيح، حتى يمتلك أحدهما هوية مختلفة عن شكله.
في سنة 1966 اعتقد جون موناي أنه عثر على فأر التجربة في شخص دفيد رايمر، البالغ من العمر ثمانية عشر شهراً، والذي احترق عضوه الذكري في عملية جراحية فاشلة، بعد أن أصيب بالتعفّن. وبناء على نصائح موناي، وافق الوالدان على استئصال الخصيتين. كما منحاه اسم بنت وقاما بتربيته باعتباره أنثى.
وحين بلغ سن المراهقة، شعر دفيد، رغم ذك، بأنه ذكر. وخضع لعملية جراحية لاستعادة عضوه، لكن هذه العمليات الجراحية العديدة كانت صعبة التحمّل، فانتحر. وحين شنّ المجتمع حرباً على موناي، ادّعى أنه ضحية لمؤامرة حاكها اليمين المتطرّف. فأصيب باضطرابات عقلية، وأعلن نفسه مناصراً للبيدوفيليا وزنى المحارم.
تجربة فكر
شنّت آن فوستو-ستيرلينغ هجوماً على «ج. موناي». والدكتورة آن مناضلة نسائية وأستاذة البيولوجيا، ومثله نصيرة لفكرة هيمنة النوع على الجنس. فانتقدت هذا الطبيب المفترس ليس فقط لدفعه أسرة دفيد إلى تغيير نوع ابنهما، بل أيضاً لرغبته في نسبه إلى جنس محدّد. فهي ترى أنه يوجد في الطبيعة، على الأقل، خمسة أناس مختلفة، وإن اختيار أحدها ناتج عن التمييز.
قال برونشتاين كم تسبّبت هذه «التجارب الفكرية» في زلازل داخل المجتمع الأميركي، مثل ما اشتهر تحت اسم «حروب المراحيض» التي قسّمت الرأي العام، في 2016، حين تمّت المصادقة على قانون في كارولينا الشمالية يقضي بمنع «متعدّدي الجنس» من استعمال المراحيض الخاصة بالجنس الذي ينتمون إليه. فتطلّب الأمر تدخل الرئيس باراك أوباما من أجل تعميق التفكير في هذه القضية.
نجد أيضاً ضمن هذا الرواق الذي يضم مشاهير الفكر، عالمة الثدييات «دونّا هاراواي»، التي تتبنى قناعة أن الإنسان، والإنسان نصف آلي (سيبورغ)، والكلاب يشكلون نوعاً واحداً. لكن برونشتاين يخصّص جزءاً وافراً من كتابه لنقد أفكار الفيلسوف المنفعي الأسترالي «بيتر سينجر» (1946-…). وهو ابن أسرة يهودية من فيينا هربت من إبادة النازية. عُرف سينجر، منذ نشر كتابه «تحرير الحيوان» (غراسي، 1975- ط. 2: 1993) باعتباره مبدع مصطلحي «فصل» و»ضد الفصل»، والأب المؤسّس ل»النباتية»، هذا التيار الذي انطلق وانتشر في العالم الغربي.
باسم المواجهة الضرورية ضد المجازر المرتكبة في حقّ الحيوانات، لم يتوقّف سينجر منذ أربعين سنة عن تكريس نفسه لتمارين بلاغية لاستئصال الدّناءة، والانشغال بتحسين شرط وجود الحيوانات. فهو يؤكّد أن الإنسان لا ينحدر من القرد لكنه سيصبح قرداً، ويعتبر أن المرضى المصابين بالتثليث الصبغي، والمرضى المصابين بالتحلّل، سيكون أقل جدارة بالحياة من قردة ضخمة تتمتّع بصحّة جيدة. هل ينبغي إذن، من باب الإيثار، التفكير في إزالتهم من الوجود.
في نفس المنظور، لم يتردّد سينجر في إبداء رأيه لصالح خرق حاجز الأنواع: ما دام أكل الحيوانات، يقول، يلحق بها الظلم أكثر من العلاقات الجنسية معها (زوفيليا).
مواقف ديريدا وهذيانات
بيتر سينجر
يكتشف القارئ بذهول حججاً طوّرها مريدو سينجر بتصنيف جديد لعالم الحيوانات، بغرض مماثلتهم بالإنسان: «المتوحشون» يشبهون الشعوب الأصلية؛ «أوائل»- الفئران، الحمام، الخ، يشبهون «المقيمين». لكن ماذا نفعل بالمحار، الحشرات والقشريات؟
في الجزء الأخير من كتاب «الفلسفة أصيبت بالجنون»، يرسم برونشتاين كيف تصرّفت المجموعات الأخلاقية عبر مراحل، منذ 1968، حين شرعت في إعادة رسم حدود الحياة والموت. إن الموت لم يعد هو توقّف القلب عن الخفقان، بل توقف الدماغ الذي لا يمكن استعادته.
لكن ما تؤاخذ إليزابيث رودينيسكو الكاتب عليه، بصفة عامّة، من جهة، عدم أخذ المقدمات الإيجابية في دراسات النوع داخل مصحات تغيير الجنس، أو في تاريخ البناء الاجتماعي. ومن جهة أخرى ترى صاحبة المقال، أن المؤلف لم يميّز بما يكفي بين مواقف جاك ديريدا حول الحيوانية، و فلاسفة آخرين، وبين هذيانات «سينجر». ورغم هذه التحفظات، فإن لهذا الكتاب فضل فتح نقاش أساسي حول حاضر حارق. فهو يبيّن كيف انقلب التيار التقدمي على نفسه بسبب الأحاسيس الطيبة. كما أنه عمل على إطلاق درس إنساني حقيقي.