الإستراتيجية البريطانية إزاء العراق.. إقتصاد وتبديل ثقافي وهيمنة سياسية

آخر تحديث 2018-10-27 00:00:00 - المصدر: عين العراق نيوز

الإستراتيجية البريطانية إزاء العراق.. إقتصاد وتبديل ثقافي وهيمنة سياسية

متابعة/.. لقد كانت بريطانيا أقوى دولة في العالم خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، وكذلك في بداية القرن العشرين، إذ مارست دوراً عالمياً من خلال قوتها المالية والصناعية والبحرية، والامتداد الواسع لهذه الإمبراطورية ساعد كثيراً في تدعيم قوتها.

وبريطانيا دولة عظمى لها سياسة خارجية مميزة، ومؤسسات معروفة لها آليات متكاملة في كيفية صياغة إستراتيجياتها وصنع القرار السياسي الخارجي. ويعد العراق من أهم الدول التي حظيت ولا تزال تحظى باهتمام بريطانيا، ومؤسسة السياسة الخارجية فيها على وجه التحديد، تدرك تماماً أهمية العراق لبريطانيا تحديداً، وأهميته في العالم عموماً، ومن أهم الأسباب التي دعتني لاختيار موضوع الإستراتيجية البريطانية إزاء العراق بعد 2003 الآتي:

إن المملكة المتحدة البريطانية هي من أهم الدول الذي له دور رئيس في القرارات السياسية والاقتصادية في المحافل الدولية والاتحاد الأوروبي بشأن الشرق الأوسط عموماً والعراق خصوصاً. وبريطانيا لها تاريخ عريق في العراق وتعد من مؤسسي الدولة العراقية الحديثة بعد الحرب العالمية الأولى، ولها أدوار مهمة في الساحة السياسية العراقية، واستمر تأثير سياسات بريطانيا إزاء العراق وبالتحالف مع الولايات المتحدة والذي أدى إلى احتلال العراق في 2003.

إن بريطانيا هي من أهم الدول المؤسساتية الديمقراطية في العالم، والتي لها أسلوبها المميز في صياغة استراتيجيها في السياسة الخارجية. يرجع تاريخ العلاقة بين العراق وبريطانيا إلى العام 1640م حينما وصل موظفو ووكلاء شركة الهند الشرقية في البصرة والتي أسست لهذه العلاقة, ولو أن الشركة لم تتمكن في بادئ الأمر من تجد موطئُ قدم لها بشكل ثابت إلا أنها وجدته وثبتته بعد قرن من العام المذكور، فقد أصبح وزن الشركة ملحوظاً منذ حوالي 1775م عندما كان البريطانيون يحمون ويقودون السفن المسلحة التي يملكها والي بغداد والتي كانت ترفع العلم البريطاني.

وفي أعقاب اندلاع الحرب العالمية الأولى في العام 1914 ودخول الدولة العثمانية (التي كان العراق تحت سيطرتها) في تحالف إلى جانب ألمانيا، نزلت القوات البريطانية على الشواطئ العراقية, وسيطرت على البصرة بعد انسحاب القوات العثمانية في تشرين الثاني 1914، وواصلت القوات البريطانية تقدمها باتجاه بغداد، ونجحت بالسيطرة عليها في 11 آذار 1917، ثم تقدمت حيث سيطرت على كركوك في شهر آب من العام 1918، ثم سيطرت على الموصل في تشرين الثاني من العام ذاته، ليصبح كامل العراق تحت الاحتلال البريطاني.

كان العراقيون الوطنيون وبالرغم من تمتعهم بحرية التعبير تحت النظام البرلماني إلا أنهم لم يكونوا مقتنعين بالانتداب. لقد طالبوا بالاستقلال كحق من حقوقهم، كما وعدوا خلال إعلان الحرب والمعاهدات، ولقد تمت عدة محاولات لتعريف العلاقات الانكلو عراقية كما تنص عليها معاهدتي 1926 و 1927 دونما تحريف أساسي بمسؤوليات بريطانيا. تمت مراجعة المعاهدات البريطانية من قبل الوطنيين ليس فقط من ناحية كونها تعيق الاعتراف بطموحات العراق الوطنية، بل أيضا من ناحية ضررها بالنمو الاقتصادي للبلاد.

قررت بريطانيا أن تضع حدا لهذا المأزق وتسوي مصالحها مع طموحات الوطنيين العراقيين. وأعلنت بأن الانتداب سينتهي في 1932، من خلال المعاهدة التي وقعت في 30 حزيران 1930، والتي أقرت تأسيس تحالف قوي بين العراق وبريطانيا، مع إقرار “التشاور التام والصريح بين الطرفين في جميع الأمور التي تخص السياسة الخارجية، والتي قد تؤثر على مصالحهما المشتركة”. وللعراق إدارة النظام والأمن الداخلي ويدافع عن نفسه تجاه الاعتداءات الأجنبية، بإسناد بريطانيا. ويجب التشاور مع بريطانيا حول أي خلاف يحصل بين العراق ودولة ثالثة يشتمل على خطر الحرب بينهما، على أمل إيجاد تسوية استنادا إلى ميثاق عصبة الأمم. في حالة وجود تهديد وشيك بالحرب، فيتخذ الطرفان وضعا دفاعيا مشتركا. واقر العراق بأن حماية وإدامة طرق المواصلات الأساسية البريطانية تصب في مصلحة الطرفين. لذا منحت بريطانيا مواقع لقواعد عسكرية جوية لقطعاتها قرب البصرة وغرب الفرات، ولكن تلك القوات ” سوف لن تشكل بأي حال من الأحوال قوة احتلال، ولن تشكل أي خرق للحقوق السيادية للعراق”. وان مدة صلاحية هذه المعاهدة هي لـ 25 سنة، وتكون نافذة حال دخول العراق إلى عصبة الأمم، وفي 3 تشرين الأول 1932 قبل العراق في عصبة الأمم المتحدة كدولة مستقلة.

وفي 2 أيار 1941 قامت ثورة ضد الوجود البريطاني بقيادة رشيد عالي الكيلاني وحلفائه قادة الجيش العراقي العقداء الأربعة، وتم تشكيل حكومة جديدة بعد مغادرة نوري السعيد إلى خارج العراق، ولم تستطع الثورة الاستمرار في المقاومة، فاستسلمت بعد شهر من الحرب، وتم التوقيع على هدنة مكنت بريطانيا من استعادة السيطرة على العراق. وفي كانون الثاني 1943 أعلن العراق الحرب على دول المحور.

وخرج العراق من حلف بغداد في 24 آذار 1959، وبدأ جلاء القوات البريطانية من قاعدة الحبانية في 6 نيسان 1959، وبحلول 31 أيار 1959 غادرت العراق آخر مجموعة من الجنود البريطانيين، وفي 21 حزيران 1959 اتفق البلدان على خروج العراق من الكتلة الإسترلينية.

المنطق الذي يحدد عملية صياغة السياسة الخارجية للمملكة المتحدة البريطانية، لم يتغير بشكل ملحوظ منذ القرن الماضي. وبشكل عام إن مقترح صياغة السياسة الخارجية البريطانية حول قضية معينة، يتم إعداده من قبل الوزراء والمسؤولين والخبراء المعنيين على أساس مناقشة البدائل مع الأخذ بعين الاعتبار الأسباب التاريخية وأولويات المصالح الوطنية في أهمية القضية أو المقترح، ومدى مشاركة المؤسسات ذات الصلة في القرارات ومشروعية القضية. وحين تصاغ هذه السياسة تدخل مرحلة التفسير، كما يجب أن تفسر من قبل المسؤولين الرسميين، وبعدها تدخل حيز التنفيذ وذلك من أجل تحقيق الأهداف المرجوة.

والسياسة الخارجية الجديدة في حينها لحزب العمال كانت تتمتع بكل هذه الخصائص والتوترات، وخلال السنوات بعد 2003، فأن توني بلير أثر في قرارات السياسة الخارجية البريطانية، ومن هنا نرى انه من غير المفيد التفكير في أن السياسة الخارجية للمملكة المتحدة كانت باتجاه واحد، لأن الحكومة تنتهج سياسات خارجية متعددة في وقت واحد وهي تشمل مجموعات مختلفة من المؤسسات والجهات الفاعلة والضغوطات الخارجية حسب نوعية القضية.

البعد الاقتصادي:

في المجال الاقتصادي هناك نخبة من السياسيين والتكنوقراط، والبنوك المركزية، والشركات الخاصة التي ساعدت في إعداد السياسة الخارجية الجديدة لحزب العمال، ذلك أن اقتصاد المملكة المتحدة اقتصاد دولي أكثر مما هو اقتصاد داخلي بالمقارنة مع الدول الأعضاء في مجموعة السبع (G7)، فضلاً عن أن رأس المال الدولي متداخل كثيراً مع اقتصاد بريطانيا إذ أن الاقتصاد البريطاني يعتمد على الاستثمار الأجنبي بشكل مباشر، وهيمنة الشركات الأجنبية على قطاع الصناعة لدرجة قد تؤثر على سياسة الاقتصاد في المملكة المتحدة، وهذا يبين بأن الحالة الاقتصادية للمواطن البريطاني في المملكة المتحدة ضعيفة أمام صدمات الأسواق المالية الأجنبية أن القرارات المالية في مصلحة الشركات الأجنبية.

ونظراً لهذا السياق، يصبح من الواضح أن نرى الأبعاد الاقتصادية للسياسة الخارجية لحزب العمال تميزت بمتطلبين متناقضين، وحكومة بلير حاولت أن تجلب طريقة جديدة سميت بـ “الطريق الثالث” للتفكير في قلب عملية صنع السياسات. من جهة أخرى، حاول حزب العمال إقناع مجموعة متنوعة من الجمهور في الداخل وخارج البلد في محاولة عدم تسييس السياسات الاقتصادية الكلية تماشياً مع مبادئ ما يسمى تجمع ما بعد واشنطن. وهذا التجمع أكد على أن من أجل كسب مصداقية الاقتصاد الكلي في عالم الأسواق ورأس المال العالمية والنقدية والمالية يجب الفصل بين السياسة النقدية والسياسة المالية، وإعطاء الاستقلالية للبنوك. ولذلك كانت مسؤولية صنع السياسات الاقتصادية الدولية في بريطانيا سلمت إلى المصرفيين والتكنوقراط الذين كان همهم الأول يكمن في إرضاء البنك المركزي، واسترضاء رأس المال المتحرك دولياً لبناء ثقة المستثمرين. كما ولعب التكنوقراط وأصحاب الشركات من القطاع الخاص دوراً فعالاً في رسم السياسة الخارجية لحزب العمال.

البعد الجغرافي

بالرغم من الحديث عن العولمة، لا يزال البعد الجغرافي له أهميته، وهناك دول محددة لها أهمية خاصة جغرافياً أكثر من غيرها بين دول العالم، وعملية صنع القرار السياسي متأثر بهذه المسألة وبالأخص الدول ذات الأهمية من حيث الموارد (البشرية والإنسانية). ولهذا اقترحت وزارة الخارجية البريطانية باستثناء أعضاء دول الاتحاد الأوروبي، أن تكون معظم علاقاتها الثنائية الهامة مع الولايات المتحدة وروسيا والصين واليابان في العقد المقبل في المملكة المتحدة. وبالتالي من المرجح أن هذه الدول سوف تحظى باهتمام على مستوى أعلى في التسلسل الهرمي في وايت هول في علاقات المملكة المتحدة مع مختلف المناطق في العالم.

ولنأخذ بنظر الاعتبار حالة العلاقات البريطانية مع الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي، فالسياسة الخارجية لبريطانيا إزاء دول الاتحاد الأوروبي لها سياقات فريدة من نوعها، إذ أصبحت تلك العلاقات أشبه بالقضايا الداخلية بين دول الاتحاد الأوروبي ولا تعد سياسة خارجية. حيث هذه العلاقة قد ولدت فكرة استكشاف إلى أي مدى أصبحت السياسات الخارجية للدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي بأنها أكثر أوروبية.

إن صنع القرار السياسي الخارجي في الشؤون الداخلية للاتحاد الأوروبي في عهد حزب العمال البريطاني تم من خلال مكتب رئيس الوزراء، ووزارة الخارجية والوزراء ذات الصلة، والممثلية الدائمة للمملكة المتحدة (UKREP) في بروكسل، والأمانة العامة الأوروبية في مكتب رئاسة الوزراء، واثنين من لجان مجلس الوزراء، منها الدفاع ومكتب سياسة ما وراء البحار (DOP) واللجان الفرعية لشؤون أوروبا.

أما خارج الاتحاد الأوروبي، فوزارة الخارجية لها الدور القيادي تقليدياً، وذلك في كل من المحافل الدولية متعددة الأطراف مثل الأمم المتحدة والكومنولث و(ذلك في حالة عدم وجود ممثل رئيس الوزراء) وفي العلاقات الثنائية في المملكة المتحدة.

البعد الاستراتيجي

إن البعد الاستراتيجي هو أحد المحاور الأساسية لصنع القرار السياسي، حينما يقوم البعد الجغرافي ليلعب دوراً في صياغة بعض جوانب عملية السياسة الخارجية، مع ذلك فإن البعد الجغرافي ليس دائماً يؤثر مباشرة على كيفية اتخاذ القرارات بشأن نشر القوات المسلحة البريطانية.

وعلى سبيل المثال فإن إرسال القوات البريطانية للقتال لا يزال يتطلب موافقة رئيس الوزراء شخصياً، ولاسيما في العمليات السرية، مثل عملية باراس في سيراليون في شهر أيلول 2000. وعند الإقرار بشأن قضايا التدخل العسكري، فمثلا بلير مثل أسلافه، فضل العمل على نطاق محدود وفي لجان تتألف من موظفي الخدمة المدنية الموثوق بهم من قبل الوزراء والمستشارين، بدلا من الحكومة ككل.

والتدخل العسكري لحزب العمال، في عملية ثعلب الصحراء في العراق، تم الاتفاق عليه من خلال اجتماع لجنة (DOP) (اللجنة المسؤولة عن نشر القوات) بينما كان هذا القرار لغير المطلع على أعمال هذه اللجنة يبين بأنه قرار رئيس الوزراء فقط، ولكن الواقع كان خلاف ذلك، وبالطبع مثل هذا القرار لم يكن خالي من إقرار دستوري لرئيس الوزراء البريطاني بلير أيضاً. فقد أفادت التقارير بأن رئيس الوزراء بلير اجتمع بالمستشارين على نطاق واسع في دائرة صنع القرار الاستراتيجي (ديفيد مانينغ، جوناثان باول واليستر كامبل)، ووزير الخارجية، جاك سترو، وزير شؤون مجلس الوزراء ريتشارد ويلسون، ورئيس لجنة الاستخبارات المشتركة (JIC)(Joint Intelligence Committee)، جون سكارليت، رئيس MI6 ريتشارد ديرلوف، ورئيس MI5 ستيفن لاندر. ومع ذلك، ربما لتهدئة المخاوف بشأن وسائل الإعلام وأمام حزبه، عقد بلير في وقت لاحق اجتماعا في مجلس الوزراء مع سبعة من الوزراء في الحكومة حينها للتنسيق بشأن العمليات العسكرية في أفغانستان، وهذا مماثل لما حدث في عمليات ثعلب الصحراء في العراق وكوسوفو.

إن هذا البعد في السياسة الخارجية لتوني بلير ولد انتقادات صارمة وسميت في حينها نمط السياسة الخارجية لرئيس الوزراء توني بلير الذي كان مفرط بالسرية، وبعيداً عن القرار الجماعي، وكانت العلاقات مع الوزراء في الحكومة ليست بالتنسيق وإعلام كافة الإدارات الحكومية، وهذا أثار الجدل بين الحكومة ولجنة الاستخبارات البريطانية المشتركة مع لجنة بلير. وقد جرت العادة في نظام مجلس الوزراء البريطاني أن يرتدون معطفاً طويلاً ويعملون في لجان فرعية سرية والقرارات تجري على أساس الاتفاقيات بدلاً من القواعد. واستناداً إلى هذا النمط من العمل، تبين بأن أعمال مجلس الوزراء تكون مختلفة في ظل رؤساء الوزارات المختلفة، وأنه من الصعب لأشخاص خارج النظام البريطاني أن يحصل على معلومات موثوقة حول كيف وأين يتم اتخاذ قرارات محددة بشأن السياسات الخارجية البريطانية.

إن الموقف البريطاني تجاه العراق أشار بان الحكومة البريطانية أخذت قراراتها استناداً إلى التهديد الذي شكلته أحداث 11 سبتمبر والحاجة الماسة للملكة المتحدة أن تقف جنباً إلى الجنب مع إدارة الرئيس جورج بوش وهذا من أجل الوقاية من المخاطر المحتملة. في هذه الحقبة خرجت لجنة المخابرات البريطانية JIC من دورها التقليدي وبلير كان يريد أن يسمع أكثر من ما هو بحاجة إلى دراسة الوضع.

واستلم جوردن براون منصب رئيس الوزراء للمدة من 2007-2010 وكان رئيساً لحزب العمال في بريطانيا، إذ راقب الشعب البريطاني والسياسيين حكومة براون متوقعاً تغيراً جذرياً في السياسة الخارجية لبريطانيا بعد حرب العراق، لأن معظم الشعب البريطاني كان ولا يزال يتذكر النواحي السلبية للتدخل البريطاني في العراق والتكلفة المادية والمعنوية والخسائر البشرية التي سببها ذلك التدخل.

وفي سنة 2012 رفضت الحكومة البريطانية الكشف عن الوثائق التحقيقية للجنة تشيلكوت، التي تشير إلى محاضر واجتماعات مجلس الوزراء في الأيام التي سبقت غزو العراق في عام 2003. وفي الوقت نفسه نجحت وزارة الخارجية البريطانية بالحصول على قرار الحكم الذي يمنح الموافقة على كشف المحادثة التي جرت بين جورج دبليو بوش و توني بلير قبل أيام من الغزو. وذكرت الحكومة البريطانية أن الكشف عن اتصال هاتفي بين بوش وبلير قبل أيام من الغزو سوف يشكل تهديداً للعلاقات البريطانية الأمريكية، وتفاصيل تحقيقات لجنة تشيلكوت المتكون من مليون كلمة كان من المقرر أن يعلن للجمهور عام 2014. أما بالنسبة للمعلومات التي تخص الولايات المتحدة الأمريكية في تحقيقات لجنة تشيلكوت بخصوص الإعلان عن التقرير النهائي، فتجري حاليا مفاوضات مكثفة وصعبة مع الولايات المتحدة الأمريكية حول نشر هذه الوثائق. أما بخصوص رأي جوردن براون بالحرب على العراق فقد ذكر أمام لجنة التحقيق الذي حضره في جلسة استغرقت أربع ساعات بأنه يعتقد أن الحرب كان لابد منها استناداً إلى المعلومات الاستخبارية التي قدمت للمخابرات البريطانية بأن العراق كان يشكل تهديداً.

وفي 22 مايس 2011 غادرت القوات البريطانية المتبقية في العراق كلها، ونقلت إلى الكويت بعد أن رفضت الحكومة العراقية طلب بريطانيا للبقاء في العراق وتمديد مهمتهم.، وهكذا نرى أن المملكة المتحدة وعلى الرغم من إمكانية استشعار رؤية مثالية لعملية صنع القرار, فإن المؤسسات والجهات الفاعلة في رسم السياسة الخارجية للمملكة المتحدة تختلف حسب القضية المطروحة.

ما هي توجهات السياسة البريطانية إزاء العراق بعد العام 2003

وصلت العلاقات السياسية بين الدولتين إلى أسوأ درجاتها بعد أحداث الكويت في عام 1990، واستمرت العلاقات الدبلوماسية بينهما على مستوى “شعبة رعاية المصالح” رغم قطع النظام السابق في العراق لهذه العلاقات مع بريطانيا في كانون الثاني 1991.

قطعت بريطانيا جميع علاقاتها الدبلوماسية مع النظام السابق، وعدّت عدداً من الدبلوماسيين العراقيين أشخاصاً غير مرغوب بهم فوق أراضيها، مع اشتداد حملة الإعداد للحرب ضد نظام صدام حسين عام 2003، واستمر هذا الحال حتى اتفقت الحكومتان العراقية والبريطانية بعد التغيير في العراق على إعادة العلاقات الدبلوماسية بينهما في 28 حزيران 2004 على مستوى السفراء.

وقد شهدت العلاقات بين البلدين تطورات مهمة خلال السنوات القليلة الماضية فبعد انتهاء العمليات العسكرية البريطانية في العراق في نيسان 2009، وانسحاب القوات البريطانية المقاتلة مع نهاية تموز 2009، وبعد وصول حكومة ائتلافية جديدة في بريطانيا عام 2010 خلفا لحكومة حزب العمال السابقة، تسعى الحكومة البريطانية الحالية إلى إقامة علاقات ثنائية قوية بمختلف المجالات مع العراق، مركِّزة على الروابط الثقافية والتعليمية والتجارية والتنموية، إذ تنظر الحكومة البريطانية إلى العراق الجديد على أنه حجر أساس للاستقرار في منطقة الخليج العربي.

وعبرت الحكومة البريطانية عن رغبتها في دعم العراق على تطوير قدراته الذاتية كونه شريك أساسي في معالجة التحديات العالمية التي تواجه البلدين، المتمثلة بالقدرة على توفير الاستقرار والأمن والرخاء المستدام، وتعد الحكومة البريطانية أن استقرار العراق ونجاحه في ترسيخ الديمقراطية في الوقت الحاضر ذو أهمية كبيرة بالنسبة للمصالح البريطانية داخل المنطقة وخارجها، وترى الحكومة البريطانية بأن بإمكان العراق أن يمارس دوراً فاعلاً في حفظ التوازن الإقليمي، ولاسيما مع إيران، وذلك من خلال موقعه الجيوستراتيجي، وعلاقاته مع دول الجوار العربية، فضلاً عن الاحتياطي النفطي الهائل، وموارده البشرية.

لقد وجدت بريطانيا نفسها مرة أخرى في العراق بعد الحرب في عام 2003 وأُسندت للقوات البريطانية مهامها العسكرية في مدينة البصرة، ولكن بعد تسليم البصرة للقوات العراقية، أكد كل من العراق وبريطانيا على ضرورة تطوير العلاقات الاقتصادية بين البلدين، هذا ما أكده وزير الخارجية البريطاني، ديفيد ميليباند، خلال زيارته إلى العراق بمناسبة تسليم قوات بلاده مقاليد الأمن في البصرة للقوات العراقية، إذ قال: "بحلول ربيع عام 2008 سيقلّص الوجود العسكري في البصرة إلى 2500 جندي، ونود الآن أن نركز على آفاق جديدة للتعاون في المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وكانت قواتنا العسكرية بقيادة الجنرال موهان قادرة على بناء علاقات وثيقة مع نظرائهم العراقيين”.

وفي بيان صادر عن رئاسة مجلس الوزراء نقلاً عن رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي أكد فيه حرص حكومته على إقامة أفضل العلاقات مع بريطانيا، وفتح آفاق التعاون المشترك في المجالات كافة، مؤكدا أن المرحلة المقبلة ستشهد إنشاء مشاريع متعددة لإعادة إعمار البصرة وجميع المحافظات الأخرى، داعيا الحكومة البريطانية للمساهمة بنشاط في هذه المشاريع والمساعدة لدعم وتطوير الاقتصاد العراقي.

إن هيئة التجارة والاستثمار البريطانية في العراق هي هيئة تتكون حاليا من فريق صغير متخصص من المهنيين العاملين والناشطين مع شركائهم ونظرائهم في الهيئات المهنية الأخرى، ويعملون من أجل مساعدة الشركات العراقية والبريطانية للوصول إلى تجارة ناجحة في العراق والمملكة المتحدة، كما وتساعد الشركات البريطانية للتعرف على الفرص المتاحة لانجاز الأعمال التجارية في البلاد، ودعمها للوصول إلى السوق. كما أنهم يعملون أيضا مع الحكومة العراقية لتحديد وللتغلب على العقبات التي تحول دون ممارسة الأعمال التجارية في العراق، بما في ذلك عن طريق مجلس التجارة الوزاري المشترك للعراق والمملكة المتحدة. وهيئة التجارة والاستثمار والموظفين التجاريين في السفارة البريطانية في بغداد، تغطي قطاع التجارة في وسط وجنوب البلاد بما في ذلك البصرة، وفي القنصلية البريطانية في أربيل، وتغطي التجارة في إقليم كردستان. فضلاً عن ذلك، تتوفر للشركات البريطانية بوابة لاستكشاف فرص تجارية جديدة وتوسيع أسواقها دوليا. والعراق لديه كل مكونات النجاح والإرادة الوطنية وان تقر لتصبح واحدة من أغنى وأنجح الاقتصاديات نموا في العالم. هذه الشركة تعمل مع الدولتين للتغلب على التحديات التي تقع وتوجد أمام تشجيع ومشاركة أكبر عدد من رجال الأعمال البريطانية في الاقتصاد العراقي سريع النمو.

وتسعى الحكومتان العراقية والبريطانية إلى بناء أسس سليمة للعلاقات الثنائية بينهما، تسمح بالديمومة والاستمرار، وتقوم على الاحترام المتبادل بعد سنوات من الشك والريبة التي فرضتها سنوات العزلة التي عاشها العراق جراء سياسات النظام السابق.

وتشعر الحكومتان العراقية والبريطانية أن ساحة الالتقاء بينهما بدأت بالاتساع شيئاً فشيئاً مع التغيرات المتعاقبة التي مرت بالعراق بعد عام 2003، والتي ساعدت في بروز مصالح مشتركة لا يمكن إغفالها. وتتلخص هذه المصالح في ما يأتي: 1- الحرب على الإرهاب: ترى كل من الحكومة العراقية ونظيرتها البريطانية أن المنظمات الإرهابية كالقاعدة والتنظيمات المتشددة الأخرى تستهدف استقرار البلدين في نظامهما السياسي وبنيتهما الاجتماعية المتنوعة عرقيا ودينيا، وبالتالي فان الحكومة البريطانية تدعم العراق في معركته ضد الإرهاب، وترى أنه إذا فشلت القوات العراقية في هذه المعركة، فإن تنظيم القاعدة سيكسب مركز انطلاق يمكن أن يتحرك منه لنقل نشاطاته صوب الساحتين الإقليمية والعالمية، ويستطيع به تهديد مصالح القوى الغربية في العالم العربي.

2- الاستقرار في العراق: تشعر بريطانيا بوجود واجب أخلاقي وسياسي لدعم جهود الاستقرار في العراق وهذا متأتي من الدور الذي لعبته لندن في الإطاحة بنظام صدام حسين عام 2003. وتبذل بريطانيا محاولات جادة لتهيئة الظروف السياسية والاقتصادية والعسكرية الملائمة للحكومة العراقية لكي تفرض القانون وتوفر مستلزمات الأمن للمواطنين إدراكاً منها أن استقرار العراق يعني استقرار منطقة الشرق الأوسط وعدم الاستقرار فيه سينعكس سلباً على كامل المنطقة وقد يمتد بتأثيراته السلبية على العالم بأسره لما تصدره هذه المنطقة من النفط والغاز.

3- نشر الديمقراطية وثقافة حقوق الإنسان: تتضافر جهود الحكومتين البريطانية والعراقية من أجل دعم الديمقراطية الوليدة في هذه الأخيرة والتي قامت على مبادئ احترام حقوق الإنسان والتداول السلمي للسلطة ومراقبة الشعب لأداء الحكومة عبر السلطة التشريعية المنتخبة. وتطرح بريطانيا وجهة النظر القائلة بأن العراق يمكن أن يكون أنموذجاً للديمقراطية وقيم التسامح في المنطقة العربية وأن تحركات البعض لوأد هذا النموذج إنما تصب في خانة الإبقاء على حالة التخلف السياسي الذي فرضته بعض الحكومات العربية على شعوبها منذ عقود.

4- المصالح الاقتصادية المشتركة: تهدف الحكومتان العراقية والبريطانية إلى زيادة التعاون التجاري والاقتصادي في المجالات كافة. إذ تنظر الحكومة البريطانية بجدية كبيرة إلى ما يمكن أن يتحقق من معدلات عالية من التبادل التجاري بين البلدين في المستقبل، وذلك في إطار نظرة الحكومة البريطانية الائتلافية لعلاقات بريطانيا التجارية مع العالم، ومحاولاتها لتطوير تلك العلاقات لتصب في خطط الحكومة لإصلاح الاقتصاد البريطاني، لاسيما في ظل الأزمة المالية العالمية، والتي ولّدت الكثير من الضغوط على اقتصاد المملكة المتحدة، وحقيقة أن العراق مصدر أساسي للنفط، وما يحققه ذلك من موارد مالية ضخمة، يمكن أن تدفع بعجلة إعادة الإعمار إلى الأمام هيأت أرضية صالحة لنسج علاقات اقتصادية ناجحة وملبية للمتطلبات الاقتصادية لكلا البلدين.

5- فضلاً عن ذلك فقد سعت المملكة المتحدة لتوسيع علاقتها مع العراق من خلال افتتاح المركز الجديد لتقديم طلبات التأشيرة البريطانية في بغداد بتاريخ 24 كانون الثاني 2013 من قبل وزير للتجارة والاستثمار البريطاني اللورد كرين رسميا، وذلك بحضور وزير الخارجية العراقية هوشيار زيباري للمرة الأولى. وبذلك أصبح المواطن العراقي قادرا على التقديم لطلب الحصول على تأشيرات المملكة المتحدة من بغداد. وفي تصريح” أدلى به في حفل الافتتاح، اللورد كرين، وقال: “لفترة طويلة جدا لم تكن بريطانيا قادرة على تقديم مجموعة من الخدمات للمواطنين العراقيين وذلك للحصول على تأشيرة السمة السياحية لزيارة المملكة المتحدة، وزيارة الأصدقاء والأقرباء في بريطانيا، وكان من الضروري أن يسافر المواطن العراقي إلى عمان أو أي مكان آخر للحصول على تأشيرة بريطانية. وهذه العملية كانت مضيعة للوقت ومكلفة، ولذلك قررت الحكومة البريطانية افتتاح مركز لاستلام المعاملات من العراق وتسهيل منح السمة”.

6- كما تحاول الدولتان توطيد علاقاتهما التجارية من خلال تشكيل اللجنة الوزارية العراقية البريطانية التي تم الاتفاق عليها في بغداد في شهر أيلول 2012، بحضور وزير الخارجية العراقي ووزير الخارجية البريطانية وليم هيغ، وشكلت اللجنة الوزارية العراقية – البريطانية المشتركة، وعقد أول اجتماع لها في بغداد، وعقد الاجتماع الثاني للجنة الوزارية بتاريخ 25 تشرين الثاني 2013، في لانكستر هاوس التابع لوزارة الخارجية البريطانية في لندن. وترأس الاجتماع وزير الخارجية هوشيار زيباري والوفد المرافق له كل من ووكلاء وزارات الخارجية والنفط والمالية والداخلية وممثلي الأمانة العامة لمجلس الوزراء والبنك المركزي العراقي ووزارة التجارة ومجلس رجال الأعمال العراقي وسفير العراق في المملكة المتحدة. وبحضور وزير الدولة لشؤون الخارجية البريطاني، وعضو في البرلمان البريطاني هيو روبرتسون ووزير التجارة والاستثمار لورد غرين، وممثلي الوزارات البريطانية المعنية وممثلي كبار الشركات البريطانية المصرفية وقطاع البنوك والدفاع والطاقة وممثلي رجال الأعمال البريطانيين والعراقيين. وخلال الاجتماع تم بحث أهم معوقات ومقترحات لتطوير عمل المجلس الوزاري المشترك لتوطيد العلاقات الاقتصادية الثنائية، منها موضوع منح السمات، الضرائب، الدفاع، الرحلات الجوية المباشرة، نظام تسجيل الشركات في العراق، المناقصات والبنوك العراقية. انتهى6

المصدر: مركز الدراسات الإستراتيجية والدولية/ جامعة بغداد