نساء السعودية بين جحيم التشدد وضياع الهجرة.. كيف يعشن في الغرب؟

آخر تحديث 2019-01-19 00:00:00 - المصدر: النبأ

شرت سارة عزيزة، وهي صحفية فلسطينية أمريكية تُغطي الشرق الأوسط والهجرة وحقوق الإنسان، مقالة مطولة في مجلة The New Yorker الأمريكية، تناولت فيها قضية فتايات سعوديات، هربن من جحيم بلدهن، إلى اللجوء بألمانيا، فهل ينجحن في الإفلات من قبضة السلطات بالرياض، ولعنة العقاب؟

"أرغب في اللجوء، وزوجي لا يعرف بذلك"

في صبيحة يوم 18 أغسطس/آب 2017، نزلت رنا (اسم مستعار) من رحلتها على متن الخطوط الجوية السعودية في مدينة ميونخ الألمانية، كانت عيناها ذابلتين، وتمسك بحقيبة جلدية صغيرة. وكان زوجها، وهو رجلٌ يكاد يكون غريباً عنها كانت قد تزوجته قبل يومين فقط في الرياض بجرّة قلمٍ من والدها، يسير أمامها. ومع اقتراب الاثنين من نقطة مراجعة جوازات السفر، سلَّم الزوج رنا جواز سفرها متردداً، وكان قد أخذه منها قبل هبوط الطائرة. استرقت رنا نظرةً داخل جواز السفر للتأكُّد من أنَّ الملاحظة التي كتبتها وهي داخل حمام الطائرة كانت لا تزال مطوية ومحفوظة بين صفحاته الجديدة. كان الطابور يتقدَّم ببطءٍ. وكان قلب رنا يخفق. أنهى ضابطٌ ألماني أوراق زوجها، ثُمَّ أشار إليها. قدَّمت رنا وثائقها للضابط من الجانب الآخر للنافذة الزجاجية. وداخل الوثائق، كانت هناك استغاثة قصيرة مكتوبة باللغة الإنجليزية، تقول: "أرغب في التقدُّم بطلب لجوء". ثُمَّ قالت بلغةٍ ألمانية ركيكة: "mein Mann weiß nicht" أو "زوجي لا يعرف بهذا".

اللحظة الذهبية المنتظرة بعد حياة مأساوية طويلة

استغرق الوصول لهذه اللحظة حياةً كاملة، إذ كانت تهيمن على ذكريات رنا الأولى نوبات عنف والدها ضدها، الذي سبق أن دفع سوء معاملته والدتها للهرب مع رنا، التي كانت لا تزال طفلة دارجة آنذاك. مثَّلت هذه التجربة درساً مبكراً للطفلة عن العادات الأبوية السعودية، إذ تخلَّت والدة رنا، تحت ضغط عائلتها، عن آمال الحصول على الطلاق وعادت إلى زوجها. ولاحقاً، شرحت مُبرِّرها لرنا، قائلة: "معاناة سوء المعاملة في إطار زواجٍ جدير بالاحترام أفضل من العيش سيدةً يلاحقها العار".

وفي المدرسة، كانت رنا مغتاظة من الساعات الطوال التي تمضيها في دراسة الدين، الذي علَّمها أن "تخشى جهنم، وتحترم الرجال باعتبارهم أساساً قوَّامين على النساء". وفي جامعة الأميرة نورة بنت عبد الرحمن، أودت بها مرحلة وجيزة من النشاط على الإنترنت إلى مكتب التأديب، حيث هدَّدتها الإدارة باتخاذ إجراء لدى الشرطة. ولاحقاً، حين كانت تحاول مساعدة صديقةٍ تعاني العنف المنزلي، تعرَّضت رنا للتوبيخ من السلطات، لمحاولتها تقديم بلاغٍ للشرطة.

"نظرتُ إليه، ورأيتُ نهاية حياتي"

وبعد مرحلة الكلية، وقف والد رنا عائقاً بوجه آمالها في بدء مسيرةٍ مهنية بمجال الترجمة الإنجليزية، وكان والدها يعتبر أنَّ احتمال قيامها بذلك أمرٌ يجلب الخزي. وتمكَّنت في نهاية المطاف من بدء مشروعٍ صغير لإصلاح الهواتف المحمولة، بالاشتراك مع عدة صديقاتٍ لها، لكنَّها سرعان ما واجهت أسوأ كوابيسها؛ إذ رتَّب والداها لزواجها. وأبلغها خطيبها الشاب في أول لقاءٍ لهما، أنَّه يرغب في إنجاب الأطفال بعد الزواج مباشرةً، وأنَّها ستُكرِّس حياتها لتربية الأطفال.

وقالت لي رنا: "نظرتُ إليه، ورأيتُ نهاية حياتي". لكنَّ رنا، التي كانت في الرابعة والعشرين من عمرها بذلك الوقت، كانت لا تزال غير راغبة في الاستسلام. وتروي قائلةً: "أدركتُ أنَّه لن يكون لي مستقبل في السعودية. لم يكن أمامي من خيار إلا إيجاد مهرب". وفي هذا الإطار، جعلت زوجها الجديد مساعداً لها دون أن يدري؛ إذ وافق على اصطحابها في شهر عسل، وهو ما منحها ذريعةً للحصول على جواز ووثائق سفر، وهو الأمر الذي ليس بإمكان أي امرأة سعودية عمله دون إذن وليِّها، بل كان الزوج متعاوناً حين اقترحت أن يسافرا إلى ألمانيا، التي استقرَّت رنا بعد بحثٍ مستفيض على أنَّها أفضل وِجهة لطلب اللجوء في أوروبا.

"وأخيراً، أختار الآن لنفسي الحرية"

بعد لحظاتٍ من تسليم جواز سفرها في ميونيخ –في أول يومٍ لها خارج بلدها الأم- جرت مرافقة رنا بعيداً عن زوجها، الذي سرعان ما ثارت ثائرته. وعلى مدار الساعات الـ14 التالية، جرى نقلها كثيراً بين منشآت احتجاز متنوعة، كانت كلٌ منها مُكتظة بالمهاجرين من مختلف أنحاء العالم، قبل أن تُخصَّص لها غرفة بمنزلٍ قريب في منتصف الطريق. وبعدما ارتمت على السرير في تلك الليلة، غير قادرةٍ على الحركة من شدة الإرهاق والتعب، راحت فكرة واحدة تدور في رأسها. فقالت لي: "تركتُ ورائي حياةً اختارها لي الآخرون، وأخيراً، أختار الآن لنفسي. كنتُ أفكّر في أنَّ هذا الاختيار هو الحرية".

الأجندة "الطموحة" لخصم المرأة السعودية الجديد

لكن حتى بعد تملُّص رنا من القبضة الخانقة لزوجها وأبيها، وضعت نفسها، بغير قصد، في مرمى خصمٍ جديد أقوى. فبالعودة إلى السعودية، هيمن ولي العهد، محمد بن سلمان، على البلاط الملكي السعودي، وكان يعمل بلا كللٍ ولا ملل من أجل الترويج لنفسه في صورة إصلاحيّ ليبرالي. فأنفق الأمير الشاب مليارات الدولارات على حملة علاقاتٍ عامة دولية، تُروِّج لرسالة، مفادها وجود نهضة سعودية، من شأن الرعايا في ظلها أن يتمتعوا بِحُرية ورخاء غير مسبوقَين. وبدورها، ستصبح هذه السعودية الجديدة "مركز قوة استثمارية" لرؤوس الأموال العالمية، وندّاً يحظى بالاحترام بين أقوى اقتصادات العالم. وكثيراً ما ركز ولي العهد على موضوعات تمكين المرأة، باعتبارها دليلاً على الصحوة الليبرالية في بلاده، فتعهَّد بزيادة حصة النساء في القوة العاملة إلى 30% بحلول عام 2030، وتعهَّد كذلك بالسماح للنساء بقيادة السيارات، للمرة الأولى في تاريخ البلاد.

وأدَّت أجندة ولي العهد "الطموحة" إلى إكسابه قبول الكثيرين في الغرب، الذين أشادوا به باعتباره المُبشِّر بخليجٍ عربي أكثر اعتدالاً، بل وحتى أكثر ديمقراطيةً. لكن في الداخل، كان محمد بن سلمان يستولي على السلطة عبر وسائل استبدادية صارخة. فبحلول نهاية عام 2017، قبل نحو عام من مقتل الصحفي السعودي البارز جمال خاشقجي، احتجز محمد بن سلمان مئات الأشخاص، بينهم مدنيون وأفراد من العائلة الملكية، في مسعىً للتضييق على المعارضة، سواء المعارضة الحقيقية أو المُتصوَّرة.

وفي الوقت نفسه، كان ولي العهد يشرف على حملة سرية لقمع السعوديين في الخارج، تعمل من خلال السفارات والقنوات الخلفية، لإسكاتهم عن طريق الابتزاز، والترهيب، والإعادة القسرية إلى السعودية. ولم تكن هذه المساعي مقتصرة فقط على المعارضين المعروفين أمثال خاشقجي، الذي فرَّ من السعودية في الفترة نفسها التي فرَّت فيها رنا تقريباً. إذ كانت الحكومة السعودية تُوسِّع شبكة رقابتها ومضايقاتها أكثر فأكثر، لتشمل المواطنين السعوديين العاديين ممن لم يكن لهم نشاط سياسي كبير، أو لم يكن لهم نشاط على الإطلاق. بدا أنَّ سبب هذا هو قضية التحكم في الصورة: فمع أنَّ رنا امتنعت عن إعلان آرائها المنتقدة للحكومة، ظلَّت تُمثِّل مشكلة ديموغرافية مقلقة لمحمد بن سلمان.

ازداد عدد طالبي اللجوء السعوديين بصورة كبيرة منذ بدء صعود ولي العهد، من 575 حالةً عام 2015، وهو العام الذي ظهر فيه محمد بن سلمان في المشهد السياسي، إلى أكثر من 12 ألفاً في عام 2017. (هذا بالإضافة إلى عددٍ آخذ في التضخُّم من السعوديين الذين اختاروا المنفى الاختياري، في إطار عمليات للحصول على تأشيرات منفصلة بخلاف اللجوء، مثل خاشقجي).

 كان النقد الضمني الذي يحمله هذا النزوح كافياً لإثارة غضب ولي العهد. وقريباً ستعلم رنا ما الذي علَّمته قضية خاشقجي للعالم بعد ذلك: الفكرة التي استحوذت على الأمير الشاب، والمتمثلة في حاجته للسيطرة على سُمعته، لم تعبأ بحدودٍ وطنية.

بدأ الأمر برسالةٍ على تطبيق واتساب ظهرت على هاتف رنا بعد أسابيع قليلة من وصولها إلى ألمانيا. وكانت قد انتقلت إلى بلدة صغيرة شمال شرقي البلاد، حيث كانت تقيم بمُجمَّعٍ محجوز للأسر اللاجئة. وصلت الرسالة من إحدى صديقات وشريكات رنا التجاريات في الرياض، تُبلغها فيها أنَّ المتجر الصغير لإصلاح الهواتف المحمولة، الذي ساعدت في إقامته، كان يواجه مشكلة مع الحكومة.

وفي زيارةٍ قامت بها مؤخراً للمصرف، أُبلِغَت الشريكة أنَّ اسم رنا قد عُمِّم، ونتيجةً لذلك، جمَّدت السلطات أصول الشركة. أثارت هذه الأنباء حيرة رنا، التي عملت بجهدٍ مُضنٍ لترتيب أمورها قبل مغادرة السعودية، فسجَّلت الشركة لدى إدراتين حكوميتين مختلفتين، بينهما وزارة التجارة والاستثمار، كي تمنح شريكاتها توكيلاً رسمياً. استعانت شريكات رنا بمحامٍ، أبلغهنَّ أنَّ السلطات لن تتراجع عن قرارها، مع أنَّ أوراقهنَّ سليمة.

قالت رنا: "فشل كل شيءٍ حاولن عمله. وتُصِرُّ السلطات وحسب على أنَّه يتعين عليَّ الذهاب إلى السفارة لحل المشكلة". (جرى تغيير اسم رنا، وكذلك أسماء النساء الأخريات في هذا التقرير، من أجل سلامتهن).

الأموال كورقة ضغط

وتستخدم الدولة السعودية في كثيرٍ من الأحيان الأموال و"الخدمات الوطنية" الأخرى كورقة ضغطٍ، لإغراء مواطنيها بالذهاب إلى لقاءاتٍ وجهاً لوجه مع مسؤولين حكوميين.

وقد تلقَّت طالبة لجوء سعودية، فرَّت إلى مدينة فرانكفورت الألمانية صيف عام 2018، رسالةً تحذيرية بعدما هبطت طائرتها، تفيد بأنَّ الحكومة قد جمَّدت حسابها المصرفي. وأُخطِرَت لاحقاً بأنَّ بطاقة الهوية الوطنية وكل الامتيازات الممنوحة للمواطنين السعودين، وضمن ذلك تجديدت جواز السفر، والخدمات المصرفية الإلكترونية، وتصريحات الإقامة، قد أُلغيت. وتلقَّت تعليمات بالعودة إلى السعودية لحل المشكلة.

استخدمت السلطات السعودية النشاط المصرفي كذلك كوسيلةٍ لتحديد مواقع المواطنين، وذلك حسبما يقول آدم كوغل، الباحث بشؤون الشرق الأوسط في منظمة هيومن رايتس ووتش، والذي يُركِّز على السعودية. واستشهد بحالة 3 نساء سعوديات فررن إلى لبنان في عام 2016، إلى جانب سبعة من أطفالهن. وقال: "بعد 20 دقيقة من مسح بطاقاتهن الائتمانية من أجل التسجيل في أحد الفنادق، وصلت السلطات اللبنانية كي تُسلِّمهن للسعوديين". وكانت قضية خاشقجي الخاصة مُتوقعة على الورق؛ فبعدما سعت الحكومة للحصول على وثائق من أجل زواجه القادم، بالقنصلية السعودية في إسطنبول يوم 28 سبتمبر/أيلول 2018، أُبلِغ بالعودة بعد أسبوع، وهي الفترة التي نُصِبَ فيها الفخ لقتله.

"هل أدخل السفارة؟"

كان لدى رنا، الهادئة والمتروِّية بطبيعتها، شكوك جديّة بشأن دخول قنصلية بلادها في برلين. وقبل قتل خاشقجي بأشهر، كانت رنا قد سمعت الكثير من القصص -بعضها موثَّقٌ والبعض الآخر شائعات- عن سعوديين يختفون في الخارج. قالت رنا: "داخل السفارة، لا أكون في ألمانيا، بل على أراضيهم (أراضٍ سعودية). قد أختفي دون أن يعلم أحد، أو دون أن يكونوا قادرين على مساعدتي". ولم تكن أيٌّ من شريكات رنا التجاريات على علمٍ مسبق بخطتها للفرار من البلاد، لكنَّهنَّ جميعاً تفهَّمن ترددها في الاجتماع مع المسؤولين.

وأضافت رنا: "الآن، لا سيما تحت حكم محمد بن سلمان، الجميع متشككون في الحكومة". في هذه الأثناء، حاولت رنا التركيز على حياتها الجديدة المربكة في كثيرٍ من الأحيان بألمانيا. وفي المُجمَّع، تصادقت مع بضع سيداتٍ سعوديات كُنَّ قد فررن من منازلهن القمعية على أمل الحصول على حياةٍ جديدة، تماماً كما فعلت هي.

وكانت رنا منجذبة بصورةٍ خاصة إلى فرح، وهي مُدرِّبة سابقة لما يُعرَف بـ "BodyPump" (أداء التمارين الرياضية على أنغام الموسيقى)، تبلغ من العمر 25 عاماً، من الرياض، تتمتَّع بشعرٍ كثيف داكن وثقةٍ قوية. قالت رنا والابتسامة ترتسم على وجهها: "إنَّها ودودة وجريئة للغاية عكسي تماماً". وكان أحد الأمور المشتركة بينهما هو خلافاتهما الإشكالية مع الدولة السعودية.

"كيف عرفوا الكثير جداً عن حياتي"؟

في غضون أيام من وصول فرح إلى ألمانيا، بدأت تتلقّى رسائل على تويتر وتطبيق سناب شات من حساباتٍ موالية للحكومة، تُحذِّرها من أنَّها ستدفع ثمن تلطيخ سُمعة السعودية. بدأت فرح كذلك تعرف من صديقاتها في السعودية أنَّ السلطات السعودية كانت تستجوب أشخاصاً تربطهم علاقة بها. وقالت صديقاتها إنَّ المحققين، خلال الاستجواب، عرفوا معلوماتٍ شخصية عن حياة فرح بألمانيا، وضمن ذلك تفاصيل تخص أماكن وجودها وأنشطتها. قالت لي فرح: "كان هذا أمراً مختلفاً. كيف عرفوا الكثير جداً عن حياتي؟ هل ينقل لهم شخصٌ أعرفه المعلومات؟". وفي حين كنتُ أنا وفرح نتشارك أرجيلة ومشروب الشيكولاتة بالحليب في الشقة غير المطليَّة والمُعرَّضة لتيارات الهواء البارد، والتي تُسمِّيها رنا الآن منزلاً، انتقلنا للحديث عن العائلة.

خرجت رنا من المطبخ، تحمل صينية من معكرونة السباغيتي وصوص جبنة القشدة -وهي واحدةٌ من الوصفات القليلة التي كانت قد أتقنتها منذ أن حصلت على شقة خاصة بها- وانضمت إلينا على الأريكة، التي يمكن فردها لتتحول إلى سريرٍ تنام عليه. كانت كلتا السيدتين على علمٍ بأنَّ الحكومة تعاقب أقارب من تعتقد أنَّهم غير موالين أو يُشكِّلون خطراً على الدولة. واستشهدت فرح بحالة عمر عبد العزيز، وهو ناشطٌ سعودي يعيش حالياً في كندا. فبعدما هزأ عبد العزيز بجهود الحكومة لإسكاته، ألقت الدولة القبض على شقيقيه الموجودين في مدينة جدة.

وبالمثل، ضايقت الحكومة أفراد عائلة خاشقجي بعد فراره من الدولة، وفرضت حظر سفرٍ على ابنه صلاح. تعرَّض أفراد بعائلة فرح للاستجواب بعد فترة وجيزة من هروبها، وقطعت منذ ذلك الحين علاقاتها التي كانت متوترة مع عائلتها. قالت فرح: "لم أرغب في حدوث أي شيءٍ لعائلتي، حتى لو لم نكن مُقرَّبين من بعضنا".

وتقول رنا إنَّ معظم أقاربها وصديقاتها مترددات بشأن الحديث معها؛ خوفاً من التعرُّض للانتقام. وقالت لي: "أحياناً أحصل على مقطع فيديو صغير أو رسالة على تطبيق سناب شات من أحد أشقائي الأصغر سناً، لكن في الغالب لا يتجاوز الأمر ذلك. لا أفتقد السعودية على الإطلاق، لكنَّني بالفعل أفتقد والدتي".

حالة الهدوء الهش انهارت!

مع ذلك، جاهدت السيدتان كي تخلقا شعوراً بوجود حياةٍ طبيعية، فشغلتا نفسيهما بدروس اللغة الألمانية، وشبكة نتفلكس، والعمل بدوامٍ جزئي. لكنَّ حالة الهدوء الهش هذه انهارت في أبريل/نيسان 2018، حين قابلت فرح رجلين عربيين غريبين خارج المبني الذي تقع فيه شقتها.

وكانت رسالتهما، التي نقلاها باللهجة العربية السعودية، نذير شؤم. فأوضحت فرح قائلةً: "أخبراني بأنَّهما يعرفان معلومات عني، وأنَّهما يعرفان مَن أكون: امرأة سعودية فرَّت من بلادها. وقالا لي: (ستندمين)". لم يُقدِّم الرجلان أي بطاقات تعريف حكومية ولم يطلقا تهديداتٍ معينة. لكنَّ فرح كانت متأكدة من أنَّهما مواليان للنظام. وفي الوقت نفسه تقريباً، تلقَّت صورة مبهمة على تطبيق واتساب من رجلٍ يدَّعي أنَّه موظف بوزارة الداخلية.

وفي الصورة، يظهر ملفٌ مفتوح على أحد المكاتب يضم اسم فرح وصورتها. واحتوى المستند أمراً بإلقاء القبض عليها. وبعد بضعة أسابيع، ظهر رجلان يقودان سيارة رياضية متعددة الأغراض في شارعٍ خالٍ كانت فرح تسير وحدها فيه ليلاً. وفي حين كانت السيارة تقترب ببطء منها، توارت فرح خلف شجرة.

خرج الرجلان من السيارة، على ما يبدو بحثاً عنها. كان الشارع مظلماً للغاية بدرجة تمنع التعرُّف على الرجلين، لكنَّها شكَّتفي  أنَّهما كانا نفس الرجلين اللذين التقتهما عند شقتها. وحَكَت، واضِعةً يديها على وجهها: "كنتُ متأكدة جداً من أنَّي كنتُ سأتعرض للاختطاف. كنتُ أظن أنَّني سأختفي هذه الليلة؛ كنتُ أظن أنَّ هذه هي النهاية". لكنَّها شعرت بالارتياح بعد ظهور اثنتين من المارَّة في الشارع، فسرعان ما عاد الرجلان إلى السيارة وانطلقا مُسرعَين.

لا يتوجَّب أن تكون منخرطاً في السياسة حتى تُستهدَف

لطالما استخدمت السعودية الإكراه ضد مواطنيها في الخارج، لكنَّ الدلائل تشير إلى أنَّ هذه الممارسة اشتدت تحت حكم محمد بن سلمان. ففي أكتوبر/تشرين الأول 2018، صرَّح مسؤولٌ سعودي لوكالة رويترز، بأنَّ ولي العهد أصدر "أوامر دائمة بالتفاوض مع المعارضين وإعادتهم"، مُضيفاً أنَّ هذا يمنح المسؤولين "السلطة للتحرُّك دون الرجوع إلى القيادة".

وتوسَّعت تلك الجهود، التي أشرف عليها سعود القحطاني، المستشار البارز السابق لولي العهد والمتورط في جريمة قتل خاشقجي، لتستهدف المنشقين والأشخاص غير النشطين على حدٍ سواء. فقال عبد الله العودة، وهو أكاديمي سعودي وزميل أول بمركز الأمير الوليد بن طلال للتفاهم الإسلامي-المسيحي التابع لجامعة جورج تاون الأمريكية: "قبل محمد بن سلمان، كان لدى معظم السعوديين شعور عام بمواضع الخطوط الحمراء، وإن بقيتَ بعيداً عن تلك الخطوط، فربما تكون آمناً. لكن بات مستحيلاً معرفة مواضع الخطوط الحمراء. إنَّ الرسالة التي تبعث بها الحكومة الآن هي: لا يتوجَّب أن تكون منخرطاً في السياسة حتى تُستهدَف. فمجرد الجهر قليلاً برأيك، حتى في القضايا الاجتماعية أو الدينية، قد يجعل منك هدفاً وقد تتعرَّض للأذى". وقالت هالة الدوسري، وهي أكاديمية وباحثة سعودية مقيمة لدى مركز حقوق الإنسان والعدل العالمي في جامعة نيويورك، إنَّ استراتيجية الرقابة الاستباقية هذه تعد علامة مُسجَّلة للمملكة العربية السعودية تحت قيادة محمد بن سلمان، وأضافت: "يريد محمد بن سلمان السيطرة الكاملة على الخطاب العام السعودي. وليس لديه أي تسامح مع أي شخص قد يتحدى صورته أو يُسيء إليها".

ويشعر كثير من الطلاب السعوديين الذين يدرسون في الخارج ضمن منحٍ دراسية حكومية بهذا التأثير المُخيف أيضاً. ففي السنوات الأخيرة، تعرَّض الكثيرون منهم للتهديد بتعليق منحتهم الدراسية أو تعليقها بالفعل؛ انتقاماً من انتقادهم المتصوَّر الحكومة. وفي بعض الحالات، قال الطلاب إنَّ السلطات السعودية اتصلت بهم وطلبت منهم العودة إلى المملكة، أو التوجَّه إلى السفارة أو القنصلية المحلية، للتفاوض بشأن استمرار المنح الدراسية. إذ قال هاني البندي، وهو سعودي تخرَّج في جامعة إنديانا: "تلقيت مكالمةً من امرأة، قالت إنَّها كانت تعمل لحساب الحكومة السعودية. وقالوا لي إنَّ تغريداتي السياسية جعلتني عدواً للبلد، وإذا لم أتوقف، فإنهم سيقطعون كل التمويل الدراسي المخصَّص لي ولزوجتي". فامتثل البندي لرغبتهم؛ خوفاً من تعريض مستقبله للخطر.

وتحدَّث عددٌ من الطلاب كذلك عن لقاءاتٍ مع بعض نظرائهم كانوا يخشون أن يكونوا مخبرين حكوميين. وقال كوغل الباحث بمنظمة هيومن رايتس ووتش: "يتلقى الطلاب السعوديون رسائل ضمنية وواضحة للابتعاد عن أي شيء قد يكون له علاقة بالسياسة. ونشهد علامات متزايدة، لا سيما تحت حُكم محمد بن سلمان، على مراقبة أحاديثهم وأنشطتهم في الحرم الجامعي".

التهديد والمراقبة واختراق الحسابات!

وفي شهر أكتوبر/تشرين الأول 2018، قبل يوم واحد من اختفاء خاشقجي، كشف مركز Citizen Lab البحثي الكندي عن مؤامرة واضحة للحكومة السعودية لاستخدام برنامج تجسس لاختراق الحسابات الشخصية لعبد العزيز، الناشط والطالب السعودي الذي يدرس في كيبيك بكندا. (جديرٌ بالذكر أنَّ منحة عبد العزيز الدراسية الحكومية أُلغيت في عام 2013، بسبب انتقاده الحكومة السعودية).

وفي واقعةٍ درامية موازية، فوجئ نحو 9 آلاف طالب سعودي، كانوا يدرسون في كندا، بإلغاء مَنَحهم الدراسية الحكومية في شهر أغسطس/آب 2018، حين وقع صدامٌ بين كندا والسعودية بشأن مصير الناشطين السعوديين المسجونين. ومثل رنا، يخشى كثير من السعوديين الآن من أنَّ حتى أفضل محاولاتهم للرقابة الذاتية قد لا تحميهم في العهد الحالي، الذي يتسم بالحساسية المُفرطة والرقابة المشددة العابرة للحدود تحت حُكم محمد بن سلمان.

على أبواب سفارة الخوف

وصلت رنا إلى البوابات المحصنة للسفارة السعودية في برلين قبل الساعة التاسعة صباحاً بقليل، في حين كان شركاؤها في السعودية يواجهون ضائقة مالية حادة. وقالت: "كان مشروعهم يعاني بالفعل، لأنَّهم لم يتمكنوا من إيجاد أي طريقة للوصول إلى أموالهم". وكرَّرت السلطات السعودية إصرارها على أن تتوجَّه رنا إلى السفارة السعودية. وقالت رنا: "سألت لاجئين سعوديين آخرين عن رأيهم في ذلك، فحذروني جميعاً من الذهاب". وعارضت فرح أيضاً هذه الفكرة بشدة، لكنَّ اهتمام رنا بأصدقائها تجاوز في النهاية خوفها على نفسها.

وقالت: "شعرت بالذنب، لأنني أضعهم في هذا الموقف. فقررت الذهاب، حتى لو كان ذلك محفوفاً بالمخاطر". وفوق جدران السفارة المطلية بالكروم، كان العَلم السعودي، المزخرف بالخط العربي والسيف المرسوم، يرفرف في النسيم الدافئ. وظلَّت فرح، التي أصرت على مرافقة رنا، متيقظةً على الرصيف الواقع خارج السفارة مباشرة. ودخلت رنا السفارة دون موعد مُسبق؛ إذ لم تكن تريد إعطاء السلطات السعودية أي إخطارٍ سابق بشأن زيارتها. وعند مدخل السفارة، حيث كانت الموظفات يرتدين الزي الرسمي المتمثل في العباءات والحجاب، نسخت تفاصيل بطاقة هويتها وسلَّمت هاتفها المحمول. وعند سيرها بطول الممر الرخامي إلى غرفة الانتظار، شعرت بوحدةٍ مريرة. ومرَّت ساعاتٌ حتى تم استدعاؤها. وأمضت ذلك الوقت تمشي جيئةً وذهاباً في غرفة الانتظار، وتُحدِّق خارج النافذة في ملعب قريب. وأخيراً، وصلت امرأةٌ شابة مُحجَّبة لمرافقتها. وتحدثت إليها المرأة ببهجةٍ آلية، مشيرةً إلى الفوائد العديدة للحياة في المملكة العربية السعودية ومتباهيةً بالفرص العديدة السانحة أمام النساء هناك، بيد أنَّ رنا فضَّلت عدم الرد.

وبعد ذلك بلحظات، وصلا إلى غرفةٍ صغيرة حيث كان هناك رجلان في انتظارها، أحدهما زائد الوزن وشاحب اللون، والآخر نحيف داكن البشرة، وكانت هناك ضابطةٌ تجلس بجوارهما. فقالوا لرنا مدمدمين: "السلام عليكِ"، ووجَّهوها إلى أحد المقاعد. فجلست رنا مُثبِّتةً ذراعيها على جانبيها، وقابضةً يديها لإخفاء ارتجافها. وكانت رنا تأمل نقاشاً قصيراً بشأن حسابها المصرفي السعودي، لكنَّها واجهت استجواباً استمر ساعة، إذ اتهمها المسؤولون الثلاثة بتعمُّد الإساءة إلى صورة الدولة السعودية بتزييف قضيتها على أنَّها قضية حقوق إنسان.

وقالوا لها: "هذا مجرَّد تمرد على أسرتك. ألا ترغبين في قضاء شهر رمضان معهم؟ يمكننا ترتيب ذلك. إنَّهم يفتقدونك". فأوضحت لهم بأدبٍ أنها لا تريد العيش في بلد شعرت فيه بالحرمان من حقوقها. فأثارت هذه الإجابة غضبهم من جديد، في حين تعهَّدوا لها بعدم "اعتقالها" في الرياض. لكنَّ رنا شعرت بأنَّ إصرارهم تهديدٌ ضمني. (جديرٌ بالذكر أنَّ السفارة السعودية في برلين لم تردَّ على طلب للتعليق).

أسوأ الكوابيس!

وفي إحدى مراحل التحقيق، بدأ الرجل النحيف يلمح إلى أن رنا أتت إلى ألمانيا "لممارسة الجنس غير الشرعي"، قائلاً إنه يعرف أنَّها لا تعيش بمفردها. (إذ كانت رنا آنذاك تعيش مع أحد أصدقائها في شقةٍ واحدة). وطلب منها المسؤولون أن تعطيهم جواز السفر الألماني الخاص بها لاستخراج نسخةٍ مصورة منه، من أجل تسجيل بياناتها. لكنَّها رفضت. فحاولوا طمأنتها قائلِين: "لا تقلقي، ستتمكني من أخذ جواز سفرك والخروج من هنا اليوم"، لكنَّها رأت أنَّ كلامهم بمثابة تذكيرٍ بقدرتهم على منع خروجها سالمةً من السفارة. حاولت رنا، دون جدوى، توجيه الحوار مرةً أخرى إلى قضية شركائها. وقالت: "بدأت أدرك أنهم ليس لديهم أي نيةٍ لمساعدتي في مشكلة مشروع شركائي التجاري. فركَّزت بعد ذلك على أمْرين فقط: ألَّا أقول أي شيء عن حقوق الإنسان، وأن أخرج من هناك في أقرب وقت ممكن". فأخبرت المسؤولين الثلاثة بأنها "تفكر" في العودة إلى المملكة العربية السعودية. وبعد ذلك، سمح لها المسؤولون الساخطون بالخروج، لكنَّهم أشاروا إلى أن معاناة شركائها ستستمر ما دامت رنا في ألمانيا. خرجت رنا من السفارة في وقتٍ متأخر في العصر مرهقةً ومرتجفة. فانفرجت أسارير فرح في الخارج بعد ساعاتٍ من الانتظار والقلق. وقالت فرح إنها كانت تستعد لإبلاغ الشرطة، وطلبت فوراً معرفة ما حدث في الداخل. لكنَّ رنا لم تُجبها إلا بردودٍ متقطعة ممزوجة بشعور القهر. واختلط الشعور بالذنب والخوف مع الإحساس بالارتياح، في حين كانا بطريقهما نحو محطة القطار. فهل زادت رنا الطين بلةً؟ وهل ستُشدِّد الحكومة السعودية الآن مضايقاتها إياها أو أصدقاءها وعائلتها في الوطن بعدما توجَّهت إلى السفارة، لكنَّها رفضت رغباتهم؟ ظلَّت التساؤلات تداهم رأس رنا وهي تلتفت حولها باستمرار؛ خوفاً من أن يكون هناك شخصٌ يتعقبها.

"عاملوني كأني مجرمة"

وما زالت فرح ورنا منزعجتين من الشدة التي تعامل بها المسؤولون معهما، إذ قالت رنا وهي تتناول المقرمشات في أمسيةٍ باردة بأواخر العام الماضي (2018): "عاملوني في السفارة كأنني مجرمة! لم أكن أتوقع ذلك. فأنا هنا لا أحاول إثارة المشكلات، ولست ناشطة. لا أريد سوى حياة هادئة، وأن أعود إلى شقتي كل ليلة بسلام". في حين قالت فرح، التي كانت تجلس بجوارها: "أخشى الآن أن أكتب أي تغريدةٍ حتى". قبل رأس السنة الجديدة ببضعة أيام، كانت رنا وفرح تُدخِّنان النارجيلة وتحتسيان الشاي مع لينا، وهي طالبة لجوءٍ وصلت إلى ألمانيا مؤخراً من السعودية. وكي تهرب لينا من السعودية، اخترقت هاتف والدها المحمول وسجَّلت الدخول إلى تطبيق "أبشر" المرتبط بوزارة الداخلية السعودية. ومن خلال التطبيق، استطاعت استخدام امتيازات ولي أمرها لإصدار تصريح بالسفر، وسرعان ما غادرت البلاد. وعند وصولها إلى ألمانيا، علمت لينا أنَّ أسرتها أبلغتها عنها السلطات في السعودية، فتجمَّد حسابها المصرفي السعودي، وأُلغي رقم بطاقة هويتها السعودية فوراً، لكنَّ لينا اعتبرت ذلك ثمناً صغيراً مقابل حريتها. وقالت: "بعد 26 عاماً من المعاملة السيئة، فأي مكانٍ سيكون جنةً مقارنةً بالسعودية".

"لقد تغيَّرت السعودية، عودي إلى هناك!"

لكنَّ مستقبلها أصبح غامضاً عندما رفضت الحكومة الألمانية طلبها الحصول على اللجوء. وقالت لينا إنَّ القاضي في جلسة الاستماع رفض طلبها، مستشهداً بـ "الحريات والإصلاحات الجديدة" التي دشَّنها محمد بن سلمان. وقالت: "لقد قالوا لي: (تغيَّرت السعودية، عودي إلى هناك. لقد أصبحت حقوق المرأة تُراعى الآن)". وعند سماع ذلك، أطلقت الشابات الثلاث ضحكةً عالية باردة. ويُذكَر أنَّ طلب فرح، الحصول على اللجوء قد رُفِض أيضاً في الصيف الماضي. وقالت: "لقد قالوا لي إنني المُذنبة لأنني ناشطة، وإن الحكومة في السعودية تتغير على أي حال، فلِماذا أُثير المشكلات؟". لكنَّ لينا وفرح قدَّمتا استئنافين ضد رفض طلبَيهما، وهما الآن قيد النظر. تقول فرح: "قال لي متحدثٌ باسم المكتب الاتحادي للهجرة واللاجئين في برلين: (في جلسة الاستماع الشخصية، يحصل طالب اللجوء على فرصةٍ لشرح أسباب هروبه. وعلى أساس ذلك، يدرس القاضي المسؤول عن القرار مدى ضرورة منح طالب اللجوء حمايةً، ونوع هذه الحماية)". وقد حظي طلب رنا اللجوء بالموافقة في ربيع العام الماضي (2018)، لكنَّ غالبية طلبات السعوديين الذين تعرفهم، من بينهم طالب لجوء مثليّ الجنس يعيش في مدينة ألمانية بالقرب منها، كان مصيرها الرفض. وقالت: "هناك شعورٌ بأنَّ حالتنا ليست خطرة جدا،ً لأننا لا نفرُّ من حربٍ، مثل السوريين على سبيل المثال. والكثيرون يقولون لنا إنَّ أوضاع المرأة في السعودية صارت أفضل تحت حُكم محمد بن سلمان".

"إننا ملاحَقون بالخطر أينما ذهبنا!"

وصحيحٌ أنَّ النساء السعوديات سُمِح لهن، منذ شهر يونيو/حزيران من العام الماضي (2018)، بقيادة السيارات، وأنَّ الحكومة السعودية قلَّصت بعض القيود القانونية المفروضة على النساء، إلا أن رنا ورفيقتيها يخشين أن يكون مصيرهن السجن، أو أسوأ من ذلك، إذا عُدن إلى السعودية، إذ قالت لينا: "ستقتلني عائلتي بالتأكيد"، في حين أشارت فرح إلى أنَّ النساء في السجون السعودية لا يخرجن إلا بكفالةٍ من أولياء أمورهن. وقالت: "سيضعني أبي هناك ويتركني، فهذا ما يحدث دائماً مع النساء غير المُطيعات". وهذا بالضبط ما ذكرته رهف القنون في الشهر الجاري (يناير/كانون الثاني 2019)، حين اعترضتها السلطات التايلاندية ودبلوماسيٌ سعودي ببانكوك في أثناء محاولتها الهرب إلى أستراليا؛ وهو ما دفع رهف (18 عاماً)، إلى حبس نفسها في فندق المطار، وكتابة استغاثاتٍ على موقع تويتر، وإرسال رسائل إلى وكالة Reuters عبر هاتفها، إذ قالت في تصريحاتها للوكالة: "إخوتي وعائلتي ومسؤولو السفارة السعودية ينتظرونني بالكويت. حياتي في خطر". (جديرٌ بالذكر أنَّ رهف أُطلِق سراحها تحت رعاية المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين بعد ذلك بيومين). تشعر رنا وصديقتاها الآن بأنَّهن أكثر عُرضةً للخطر من أي وقتٍ مضي، بعد مقتل خاشقجي ومِحنة رهف التي كان اعتقالها وشيكاً، إذ قالت لينا: "أظهر لنا محمد بن سلمان أنَّه يستطيع فعل أي شيء يريده. لقد تركه العالم يُفلت من عقوبة القتل. لذا أصبحت الأمور أسوأ بالنسبة لنا. فهو يشعر الآن بأنَّه أقوى، وليس أضعف، كأنَّه مُحصَّن ضد الجميع". وكثيراً ما تُغيِّر الشابات الثلاث شققهن وينَمن في مجموعاتٍ بدلاً من النوم بمفردهن. ويتجنَّبن كذلك أي مظهرٍ من مظاهر النشاط السياسي أو التحدُّث في السياسة، وهذا ربما يكون فوزاً جزئياً لمحمد بن سلمان. لكنَّ هذه الاحتياطات لا تُبدِّد خوفهن من وصول قبضة الحكومة السعودية إليهن، إذ قالت رنا: "لسنا كالأشخاص الذين فرُّوا من الحرب في بلادهم، فهُم عندما يأتون إلى هنا، يتركون الحرب وراء ظهورهم ويصبحون آمنين. لكننا ملاحَقون بالخطر أينما ذهبنا".