حكاية، كأنها من زمن آخر!

آخر تحديث 2019-01-30 00:00:00 - المصدر: موقع كلمة

أحدهم!

يحكى ان شاباً يافعاً من فضلاء الحوزة العلمية اضطر بحكم الظروف ان يكون بخدمة والده الذي اضطر بدوره ان يتصدى لمهمة كبرى في هرم المرجعية، في زمن هيمنت الدكتاتورية على كل مرافق الحياة. وقاسى ما قاسى من آلام ومحن مع بقية أبناء شعبه، ما تنوء بحمله الجبال الراسيات، وهو في موقع لا يحسد عليه.

حتى اذا انجلت الغبرة وسقطت الدكتاتورية، حمّل مسؤوليات جسام بحكم ظروف المرحلة الجديدة، وهو مستمر رغم ذلك بدرسه وأبحاثه، حتى أصبح علامة فارقة في محيطه العلمي الصارم، الذي لا يخضع لأنصاف العلماء، ولا يرفع القبعة إلا لمن يستحقها!! بغض النظر عن حسبه ونسبه وموقعه...

المرحلة الجديدة أكسبته خبرة عالية بدهاليز السياسة، وألاعيب الساسة، وهو المؤتمن على ماضٍ وحاضر ومستقبل!! ورغم إقبال الدنيا بقضها وقضيضها عليه، فإنه بقي محتفظاً بوقاره وبساطته وترابيته. حتى اصبح لكثيرين اسوة في التقى والعلم والزهد والذكاء والحكمة وبعد النظر.

تقول الحكاية: انه لا يمتلك شبراً من الأرض وهو ابنها، ولا حسابات بنكية وهي في متناول يديه، والسيارة التي يتنقل بها أحياناً قليلة لضرورات العمل يأنف من ركوبها متوسطو الحال في مجتمعه، وهي ليست له. لم يسافر في المرحلة الجديدة إلا مرة واحدة بسبب مرض أبيه، في ظروف صعبة، والاصحاب في البلد البعيد يعرفون أنه عزف عن أي حركة أو تجوال سوى مرافقة والده من المستشفى إلى البيت وبالعكس. ورفض مقترحات من زيارة مكتبة عامة مهمة، أو متاحف ذات قيمة، و و و... ليس لأنه لا يرغب بذلك، فهو بشر كسائر الناس له رغباته واحتياجاته المشروعة. ولكنه قرر منذ اليوم الأول لمهمة والده ان يترك حتى ما هو مشروع ومباح في سبيل حفظ مكانة المرجعية وسمعتها. لم يُشاهد على مآدب طعام، أو جلسات سمر، مسخراً كل وقته وطاقاته للعلم والعمل.

التزم بصرامة بمنهج والده، فلا يخطو خطوة، أو يقول قولاً إلا بعد اطلاعه على صغائر الأمور فضلاً عن كبيرها! وكل كلام غير ذلك، افتراءات وتهم باطلة، لا دليل عليها، وسيحاسب الله مطلقيها يوم تكشف السرائر. فهو الأمين المؤتمن ويشهد كل من عاشره من الساسة وغيرهم على ذلك.

لا يعرف المجاملة على حساب الحق والصواب، حتى وسم بالجفاء والقسوة!! وكأنه ابن مدرسة جده (ع) القائل: "ما ترك لي الحق من صديق".

اخلاصه للعراق وقضية شعبه لا حدود لها. فهو صاحب الهموم الكبرى. يحترق، يتألم، يعاني، وهو يعيش مأساة شعب لا تنتهي...

وبعض صفاته، أنه: منهجي الرؤية، صافي الذهن، واضح النظرة، رائد أفكار، سريع البديهة، فقيه ألمعي، شاعر مرهف الإحساس، محاور ممتاز، عقلاني النزعة، مقنع ذو حجة، ذو ثقافة اسلامية وانسانية واسعة، قلمه ماشق أنيق، وبيانه متماسك دقيق، يحسب للكلمة ألف حساب، فتخرج من بين أنامله ناضجة مبهرة، زاهد من دون تكلف، ذو فراسة عميقة، يرق لإخوانه فيخجلهم، ويخشن لأهل الباطل فيرهقهم، سهل ممتنع، باب قلبه مفتوح للعاملين والنزيهين، ومغلق أمام العاطلين والفاسدين، متواضع مع اعتداد، استشرافي بعيد المدى، سلوكه مدرسة، وأخلاقه العملية مثار اعجاب.

من يعرف بطل الحكاية سوف يؤيدني في كل ما وصفت، ويزيد عليه، ومن يجهله سيتهمني بالمبالغة والافراط، فضلاً عن تهمة التملق والتزلف، وهذا أمر طبيعي، لأن الناس أعداء ما جهلوا. ويشفع لي في دفع التهمة الاخيرة ان كاتب هذه الكلمات سيبقى مجهولاً لدى الجميع.

لهذه الصفات وغيرها، أحبه من أحبه بلا حدود، وليس لأنه ابن مرجع فقط!! وأبغضه من أبغضه بلا حدود أيضاً، وهذه سنة الحياة.

ولعل من أشد ظلاماته انه ابن مرجع الأمة!! وذلك شرف له، والظلامة: لأنه رجل قائم بذاته، ولديه ما لا يمتلكه الكثيرون علماً وفضلاً وتوقّداً، ولكن موقعه النسبي جعله محكوماً بمنظومة لها اعتباراتها الخاصة! تقيده وتحدّه!!

ونظراً لأهليته العلمية، وما يتمتع به من حنكة وتجربة وعمق في الشؤون العامة، شاع في بعض الاوساط العلمية والسياسية امكانية ترشحه للمرجعية بعد وفاة والده اطال الله في عمره فكان ان اجتمع مع ثلة من فضلاء الحوزة العلمية قبل سنوات في جلسة مهمة معروفة لدى أهل الفضل ابلغهم بوضوح انه ليس متصدياً للموقع المرجعي بعد والده بأي شكل من الاشكال، وليتقدم من فضلاء الحوزة من يجد في نفسه الأهلية لذلك.

قام بذلك ليس لأنه غير مؤهل، بل لأنه يعتقد جازماً ان التوريث الديني أسوء من التوريث السياسي!! حتى لو كان بمستوى صلاة الجماعة!! فأين من ذلك دعاة الاصلاح الديني؟!

ولو أسهبنا في ذكر صفاته لطالت الحكاية! الحكاية المؤلمة المفرحة في آن... المؤلمة لما يعانيه، والمفرحة لأنها تبقي الأمل قائماً بوجود هكذا نموذج، بهكذا زمن...

لم يستطع أحد أن يتهمه بأي صفات مشينة لا سمح الله فبدأ البعض بتوهم اشكالات ادارية لا أساس لها، يسمعها من مبغض له هنا ومتضرر منه هناك.

أدعو لمن يسيء إليه جهلاً بالهداية، أو بغضاً وحسداً بالغفران، وأدعوهم إلى تقوى الله، وأقول: "اللهم اغفر لقومي إنهم لا يعلمون".

أما حكايته فسوف نرويها لأبنائنا وأحفادنا ليتعلموا عن مراتب الكمال، ومظاهر الجمال. أولادنا يحتاجون النموذج الاسوة، لا يكفيهم ما نقرأ لهم من أحاديث وروايات، وها هي الاسوة امامهم.

شكراً لك أيها العظيم أيها القادم من زمن آخر شكراً لأنك أبقيت فينا الأمل بأن لمفاهيم الدين وقيمه مصاديق بشرية!!

  • المقالات تعبّر عن وجهة نظر كتّابها