بقلم: عبير المنظور
جرائم الاغتيال السياسي منتشرة في كل دول العالم، وتُنفّذ ضد أي شخصية قد يقف نشاطها عائقاً امام مصالح الطبقة السياسية، ولكنني لم اجد اغتيالاً سياسياً منظماً للصناعة الوطنية في اي بلد في العالم كما يحدث للصناعة الوطنية في العراق!، والمنفذّون لهذه الجريمة بحق الصناعة الوطنية العراقية تابعون لجهات داخلية وخارجية ومنها ما نفذت الجريمة بقصد او عن غير قصد.
والصناعة العراقية شأنها شأن اي صناعة في كل دولة في العالم مرت بمراحل عديدة وتطورت مع مرور الوقت بتطور الواقع الصناعي لتسد معظم احتياجات المواطن العراقي ولو بنسبة معتدة بها مع فتح باب الاستيراد لتأمين بقية ما يحتاجه الشعب، أُنشأت اول المصانع والمعامل العراقية في اربعينيات وخمسينيات القرن الماضي واستمرت حتى في اصعب المراحل قسوة التي مر بها العراق وهي فترة الحصار الاقتصادية حيث كانت منتجات الصناعة العراقية حاضرة وبقوة في السوق وكنا نرى بفخر (صنع في العراق) على اغلب سلعنا ومنتوجاتنا لغاية عام ٢٠٠٣ بعد الاحتلال الامريكي للعراق حيث توقفت معظم المصانع العراقية لانهيار البنى التحتية بسبب الحرب بالاضافة الى انفتاح السوق على النهج الاستهلاكي مع ضعف السياسات الاستراتيجية للاستثمار وكذلك الفساد المالي والاداري في جميع مفاصل الحكومة العراقية في ظل نظام المحاصصة الطائفية الذي لم يعيّن المسؤول حسب الكفاءة والمهنية مما سبّب التخندق الطائفي والتحزّبات والتحالفات حسب الاهواء والمصالح مما ساهم بشكل او بآخر في هجرة العقول والكفاءات الى الخارج، وهذه من الاسباب غير المقصودة في اغتيال الصناعة الوطنية ولكن الجانب الصناعي تأثر كثيرا بسببها كما تأثرت بقية المجالات بسبب اهمال وضعف الاداء الحكومي.
ولعله كانت تصفية الكفاءات والعقول العراقية عملية ممنهجة ضمن المخطط الامريكي لتدمير العراق واخضاعه للسيطرة على ثرواته عن طريق تحريك الدمى الاستعراضية (الطبقة السياسية) في ظل حكومة ديمقراطية مزعومة تحقق اهداف المخطط الامريكي، ولم تكن الصناعة الوطنية بمأمن من هذا المخطط المدروس، فالطبقة السياسية الفاسدة وبعد سنوات من الاستيلاء على على مقدرات الشعب الاقتصادية مدّت اذرعها الاخطبوطية لتمسك بجميع خيوط الصناعة بيديها واغلاق المئات من المصانع ومحاربة المصانع الاخرى لاعلان افلاسها اضافة الى انتشار ظاهرة ايقاف المصانع المنتجة من قبل مافيات الاحزاب والجهات السياسية المتنفذة لاحالتها الى الاستثمار بحجج واهية وغير مقنعة تماما خاصة اذا ما لاحظنا نسبة الانتاج في تلك المصانع وتشغيل الايدي العاملة.
ولتكتمل صورة مشهد الاغتيال السياسي للصناعة الوطنية في العراق علينا معرفة ان اغلب حيتان السياسة الكبار او واجهاتهم الظاهرية من رجال اعمال وغيرهم الذين يقفون بوجه المنتوج الوطني واغلاق مصانعه المنتجة يعملون في مجال الاستيراد ولهم شركات خاصة في هذا المجال او لهم علاقات مع شركات اجنبية تعقد معهم صفقات تجارية ضخمة لاغراق السوق ببضائع اجنبية رديئة الصنع رغم امكانية توفر المنتوج الوطني وبجودة عالية وبكلفة اقل بكثير من هذه البضائع الاجنبية الرديئة الجودة بالاضافة الى تشغيل الايادي العاملة وتقليل البطالة، ولكن ذلك الفساد يغني جيوبهم حتما، وكل ذلك يحدث وسط صمت مطبق لاتحاد الصناعات في العراق وجهاز التقييس والسيطرة النوعية في وزارة الصناعة.
ورغم عتمة المشهد السياسي في العراق والمتحكم بمقدرات الشعب ونهب ثرواته الا ان هناك بصيص امل يعوّل على الشرفاء في الحكومة العراقية، ففي ميزانية عام ٢٠١٩ هنالك بند اشترط على جميع الوزارات بعدم استيراد اي منتجات او سلع اجنبية تنتجها وزارة الصناعة مما يحافظ على انتاجية الشركات التابعة للوزارة، ونأمل ان يُفعّل هذا القانون ليقف بوجه تلك المافيات السياسية التي تقف عائقا امام عمليات الاصلاح وتعزيز الصناعة الوطنية حتى في ظل تشريع قوانين تصب في صالح الصناعة فانها تُفعّل لصالح تلك المافيات السياسية المتنفذة في هذا المجال، او قد لا تُفعّل هذه القوانين من الاساس وتبقى حبرا على ورق كما في قانون التعرفة الگمرگية وحماية المستهلك ومنع الاغراق السلعي الذي شُرّع عام ٢٠١٠، وان لاحظنا مؤخرا في مطلع العام الحالي ٢٠١٩ حراكا حكوميا في قانون التعرفة الگمرگية من خلال تعاون الحكومة المركزية مع اقليم كردستان في ملف توحيد الرسوم الگمرگية في كافة المنافذ الحدودية، وتفعيل هذه القوانين خطوة مهمة في انعاش الصناعة الوطنية والنهوض بالواقع الاقتصادي، وكذلك من خلال تفعيل القطاع العام والاهتمام بالكفاءات ورسم الخطط الاستراتيجية لدعم المنتوج الوطني والتقليل من استيراد البضائع الاجنبية التي تستطيع الصناعة الوطنية انتاجها واعادة تشغيل المصانع المتوقفة عن الانتاج مما يسهم في توفير فرص العمل وتقليل البطالة وبالتالي ارتفاع المستوى المعيشي للمواطن، وايضا توفير الامكانيات الاقتصادية وتسهيلها من خلال القروض المصرفية لدعم الانتاج الوطني وتسيير عجلته نحو الامام في ظل محاربة واقع الفساد المالي والاداري والسياسي لتعود صناعتنا الوطنية الى الحياة لتواكب التطور الهائل في المجال الصناعي الذي وصل الى مرحلته الرابعة(١) حسب تصنيف منتدى دافوس(٢).
الهوامش:
(١) تطورت الصناعة في العالم عبر مرورها بعدة مراحل الاولى كانت عام ١٧٨٤ بالاعتماد على الآلة البخارية في الانتاج، والثانية عام ١٨٧٠ حيث تم اعتماد الماكنات التي تعمل على الطاقة الكهربائية في الصناعة، والثالثة عام ١٩٦٩ باختراع الحاسوب، وتطورت الصناعة مع وجود الانترنيت، وصولا الى المرحلة الرابعة عام ٢٠١٦ مع ظهور انترنيت الاشياء والحوسبة الكمومية والذكاء الاصطناعي والروبوتات وتقنية النانو والتقنية الحيوية والتحكم في الجينات والطباعة ثلاثية الابعاد وغيرها.
(٢) منتدى اقتصادي عالمي وهو عبارة عن منظمة غير حكومية وغير ربحية اسسها عالم الاقتصاد البروفيسور كارلوس شواب عام ١٩٧١ ومقرها في جنيف بسويسرا.
إنهاء الدردشة
اكتب رسالة...