حديث الخميس: المتنبي بين مفردتين

آخر تحديث 2019-05-23 00:00:00 - المصدر: وكالة الحدث الاخبارية

حسان الحديثي

قال ابو الطيب المتنبي يمدح سيف الدولة الحمداني في حلب ويهنئه بعيد الاضحى سنة اثنين وأربعين وثلاثمائة للهجرة:
لِـكُـلِّ اِمــرِئٍ مِـــن دَهــرِهِ مــــا تَـعَـوَّدا
وَعادَاتُ سَيفِ الدَولَةِ الطَعنُ في العِدا

وهذا البيت هو أحد أكثر مطالع المتنبي انتشاراً كما أن القصيدة من أشهر قصائده لأهميتها الأدبية وأيضاً لأهميتها الاجتماعية والسياسية في سيرة ابي الطيب المتنبي وقد كثر -آن ذاك- حساده وزاد كارهوه لمكانته شعراً وحظوته لدى سيف الدولة الحمداني.
وقد ورد فيها بيتٌ يعدّه أهل الأدب أحد أجمل أبياتها وأكثرها إشارة الى فخره واعتداده بنفسه شاعراً وحكيماً وهذان الامران -الفخر والاعتداد بالنفس- هما ديدنه في أغلب قصائد المدح التي لا يشرع فيها حتى يفتخر بنفسه أديباً وفارساً ، وقد روي هذا البيت بروايتين باختلاف مفردة واحدة بينهما، فقد ورد مرةً بلفظ "الطائر المحكي" :
وَدَع كُلَّ صَوتٍ غَيرَ صَوْتي فإنّني
أنَا الطّائِرُ المَحْكِيُّ وَالآخَرُ الصّدَى

وورد أيضاً بلفظ "الصائح او الصائت المحكي" :
وَدَع كُـلَّ صَـوتٍ غَيرَ صَوتي فَإِنَّني
أَنا الصائِحُ المَحكِيُّ وَالآخَرُ الصَدى

وقد ورد هذا البيت بعد قوله:
أجزْنِي إذا أُُنشِدْتَ شعرًا فإنّما
بشعري أتاك المادِحون مُـردّدا

وكلا اللفظين "الطائر والصائح" جميل ولا يغير من قوة البيت وبلاغته وإشارته ودلالته غير ان المعنى يختلف باختلاف المفردة فيتغير معنى مفردة "الصدى" المتعلقة بمعنى الطائر في اللفظ الأول، والصائح في اللفظ الثاني.

فأما اذا كان القول الأول وهو: أنَا الطّائِرُ المَحْكِيُّ وَالآخَرُ الصّدَى
فإن المقصود بـ"الصدى" هنا هو طائر يعيش بين الصخور والأحجار وقد ورد اسمه في بعض اشعار العرب، قال توبة ابن الحِميَر صاحب ليلى الأخيَليّة:

ولو أَنَّ لَيْلَى الأَخْـيَـلِـيَّـةَ سَـلَّـمَـتْ
عـلـيَّ، ودُونِـى جـنـدلٌ وصَفائحُ

لَسَلَّمْتُ تَسْليمَ الـبَـشَـاشَـةِ أَو زَقـا
إِليْها صَدًى من جانب القَبْرِ صائحُ

الجندل والصفائح: هي احجار يثقّل بها قبر الميت حديثاً كي لا تنبشه هوامّ الارض لتأكله ومع مرور الزمن يبني طائر الصدى عشّه تحت تلك الاحجار والصفائح ، وزقا: اي صاح ونفر والصدى: هو الطائر الذي اراده المتنبي بقوله "والآخر الصدى" وهو تقليل وتحقير لغيره من الشعراء الذين يحيطون بسيف الدولة يريد انهم دونه لا يصلون الى مرتبته فهم صغار مختبئون كطائر الصدى وهو الأعظم منهم شأنا بوصفه نفسه بالطائر المحكي كناية عن عظمه وهيمنته وتأثيره.

وأما اذا كان قول المتنبي: أنَا الصائح المَحْكِيُّ وَالآخَرُ الصّدَى

-وروي ايضا "انا الصائت المحكي" والصائت والصائح بمعنى ووزن واحد وضدهما "الصامت" ويجمع على "صوائت"
فعنذ ذلك سيتغير معنى "الصدى" وهو الصوت الذي يعود على الصائح في الارض الخلاء من رجع الصوتِ وترديده وقد قالت العرب عن الصدى انه صوت الجبل اي ما يرتد اليك عند صياحك في واد وكأنه جواب الجبل لك، قال امرئ القيس:

صـمَّ صَــداهــا وعَـفـا رَسْـمُـهـا
واسْتَعْجَمَتْ عن منطِقِ السَّائل

صمَّ اي سكت، وعفا اي صار قديماً دارساً واستعجمت اي اصاب لسانها عجمة والعجمة عكس الفصاحة.
وعندها سيكون معنى قول المتنبي انني انا القائلُ الأصل للشعر، الناطقُ الفذُ للحكمةِ وما تسمعه من بقية الشعراء من حولك انما هو رجع وترديد لصوتي ويتم به معنى البيت الذي سبقه وهو قوله:
ومـا الدّهرُ إلاّ مِـن رُواةِ قـصـائـدي
إذا قُلتُ شِعرًا أصبَحَ الدّهرُ مُنشِدا

والافتخار بالشعر والحكمة قديم ودائم لدى المتنبي فهو القائل في صباه:
أمِطْ عَنكَ تَشبيهي بمَـا وَكَأنّهُ
فَمَا أحَدٌ فَوْقي وَلا أحَدٌ مِثْلي

والقائل:
أنـــا تِرْبُ النّدى ورَبُّ القـوافـي
وسِمامُ العِدى، وغيظُ الحَـسـودِ

لا بقومي شرفْتُ بل شرُفوا بي
وبنـفـسي فـخـرْتُ لا بـجـدودي