مشرق عباس
تحدث رئيس الوزراء السابق حيدر العبادي في لقاء تلفزيوني مؤخرا بلهجة خطيرة، لكنها صريحة، عن الاحتمالات المفتوحة التي تواجه العراق بسبب انفلات الجماعات المسلحة فيه، بما في ذلك احتمال أن تتسبب إحدى تلك الجماعات المنفعلة بحرب كبرى ليس في العراق فقط بل في المنطقة بأسرها!
وباستخدام جدلية "ماذا لو؟" يمضي العبادي للقول إن من يتسبب بالحروب تاريخيا قد لا يكون أحد أطرافها، ويشير ضمنا إلى التهديد الأميركي المباشر إلى طهران بأن الرد سيكون في إيران على أي خطر يتعرض له الأميركيون في العراق؛ فماذا لو تورطت واحدة من عشرات المجموعات المسلحة باعتداءات جديدة على غرار صاروخ السفارة الأخير؟
بل إن رئيس مجموعة مسلحة هو "واثق البطاط"، الذي كلما تدعي السلطات العراقية أنها اعتقلته نتيجة تهديدات يوجهها للأبرياء أو اعتداءات على دول الجوار يخرج بكامل قيافته ليعلن موقفا جديدا مثيرة للجدل، دعا قبل أيام إلى حملة تطوع للاستعداد للحرب الأميركية الإيرانية المحتملة! وبالطبع أفضل تعليق يمكن الحصول عليه من كبار المسؤولين في العراق هو "أنه مدع لا يمتلك أي قدرات ولا إمكانات ولا يستطيع تنفيذ تهديداته"، مع أنه لا يتوانى عن عرض مقاطع فديو لتدريبات عناصر مجموعته، ويتبنى عمليات كبرى مثل قصف الحدود الكويتية مرة، والحدود السعودية مرة أخرى!
الحقيقة أن وسائل الإعلام العراقية تزخر بمئات الأمثلة من قماشة البطاط، الذين يعرضون أنفسهم كزعماء لمجموعات مسلحة ويستعرضون بأسلحة متوسطة وأحيانا ثقيلة، وبعضهم يستولي على أملاك عامة، أو خاصة، ويتجول بحرية في شوارع المدن برفقة أرتال من حماياته، بل إن هيئة "الحشد الشعبي" التي لا يعرف بالضبط عدد المجموعات المصنفة رسميا ضمنها، باتت تعلن بدورها عن "عصابات تنتحل صفة وصلاحيات الحشد" و"تداهم مقرات وهمية" و"وتعتقل زعماء وهميين" وهي تقوم بذلك على اعتبار أنها تريد ضبط سياق عملها لصالح المجموعات الرئيسية فيها والتي من المفترض أنها تأتمر بأمر رئيس الهيئة فالح الفياض.
وإذا افترضنا، وهذا الافتراض صحيح، أن إيران أوعزت لأصدقائها في العراق بعدم رغبتها بأن يتسبب أي منهم بحرب لها، وأن يتم ضبط سلوكهم وتصريحاتهم ضد الجانب الأميركي، وهذا ما حصل فعلا خلال الأسابيع الماضية، فإن الحديث عن ضبط نحو 5 مجموعات رئيسية ممكن، فيما أن من المشكوك فيه فعلا إمكانية ضبط أكثر من 50 مجموعة أخرى.
السؤال المطروح في هذه اللحظة لا يخص التفتيش في النيات، ومصداقية زعماء الفصائل الرئيسية في العراق، بل يتعلق باستمرار فوضى انفلات السلاح والمسلحين وخشية الدولة بممثلياتها السياسية وأذرعها الأمنية والعسكرية من مواجهتهم.
ثمة أسئلة مؤجلة حول الطريقة التي تم من خلالها دمج "الحشد الشعبي" في سياق الدولة، وإذا كانت هذه الطريقة هي المثلى، أم أن ثغرات كبيرة في الآليات والتطبيقات تتحول اليوم وغدا إلى معبر للانفلات والفوضى؟
في الغالب لن تسنح الفرصة للحصول على إجابات، فالسنوات القليلة الماضية أسست لمنظومة ردود جاهزة تخلط بين العاطفة والترهيب، فيما يدرك الجميع في أعلى سلم الدولة أن هذه مشكلة تكوينية يجب أن تتم مواجهتها اليوم في ضوء المخاطر التي تلوح في الأفق، للحفاظ على سقف الدولة العراقية لكي يستظل به الجميع لحظة الخطر مهما كان السقف متهرئا وفاقدا للصيانة.
ماذا لو فعلها هذا التنظيم وذاك.. وهذه المجموعة وتلك.. وهذا الزعيم وذاك! تلك أسئلة مهينة، لكن القضية تتجاوز ذلك، فأن يرهن شعب كامل مصيره بقرار مجموعة مسلحة، لا يعد أمرا مقلقا للزعماء السياسيين الذين يعتقدون حقا أن بإمكانهم قيادة "وساطة" بين طهران وواشنطن، ويتصارعون للحصول على مقاعد في الطائرات المتوجهة لقيادة تلك الوساطة الغريبة!
"الوساطة" تحتاج إلى مقومات الدولة، و"الحياد" في الأزمات يحتاج إلى مقومات، والعراق الذي يخشى زعماؤه الحديث الصريح عن فوضى السلاح والمسلحين فيه، لا يمتلك تلك المقومات، والوساطة الوحيدة الممكنة هي التوجه إلى الداخل للإجابة عن الأسئلة المعلقة.
الآراء ووجهات النظر الواردة في هذا المقال لا تعبر بالضرورة عن آراء أو وجهات النظر أو السياسات الرسمية لموقع كلمة الإخباري