حديث الخميس : هندسة القصيدة

آخر تحديث 2019-06-13 00:00:00 - المصدر: وكالة الحدث الاخبارية

حسان الحديثي

هل سنجد خللاً في بناء القصيدة او سننظر للشاعر نظرة الأسف إن بيّتَ النيّة وأعدّ قوافيَه قبل البدء بالقصيدة؟

وهل سنصفه بالسذاجة وقلة الحيلة إذا وضع الشاعر قوافيه وقصيدته لما تزلْ في عالم الخيال وغياهب العقل ورحم الفِكْر؟

هل سنطلق عليه نعوت البساطة ونرفع عنه صفة الشاعرية ان فعل ذلك قبل الشروع بالقصيدة او حتى بعد ان اجتاز مدخل القصيدة وكتب المطلع والاستهلال؟

لا شك عندي ان الجواب سيكون -في الأغلب- "نعم" وسنذهب في القول الى ان: الشعر ما جاء عفوياً بعيداً عن التكلف مطبوعاً خالياً من الصنعة منساباً صافياً كماء الجدول الرقراق.

لم افطن في أول قراءة لي لكتاب "الصناعتين الشعر والبلاغة" لابي هلال العسكري الى سبب تسميته لكتابه العظيم هذا بـ "الصناعتين" فهو عندي، كبقية كتب الأدب التي قرأناها ولم نعط أنفسنا وقتاً كافياً في تأمل عنوان الكتاب وسبب تسميته فالكثير منا لم يقف على سبب تسمية الجاحظ -مثلاً- لكتاب "البيان والتبيين" في أول قراءة له ولعل بعضنا لم يفكر في التسمية مطلقاً.

ولكن ان تعددت القراءات صار لزاماً على القارئ ان يقف عند العنوان ويسأل نفسه: لماذا اختار المؤلِف هذا الاسم لكتابه حصراً؟
وهنا انا أسال نفسي: لماذا أطلق العسكري اسم "الصناعنين" على كتابه ثم اتبعها بـ "الشعر والبلاغ"؟ وهل الشعر صناعة؟

واذا كان الشعر صناعة -برأيِ أحد أعلام النقد في الأدب العربي- فلماذا يحاول الشعراء ومِن ورائهم مئات الكتّاب تنحية الجيد من الشعر عن الصناعة؟

ولماذا اذا أردنا ان نعيب على شاعر شعره وصفناه بالـ "مصنوع" ولماذا جعلنا المطبوع من الشعر هو الجيد ثم جعلناه عكس المصنوع منه.
هل كان ابو الهلال العسكري ساذجاً لا يعلم ما يقول؟
ام ان صفة "المصنوع" في الشعر تُعدّ حسنة للشاعر وليس لمزاً بفنه او قدحاً بشاعريته؟
ثم ماذا كان يقصد المتنبي حين قال:
أنَامُ مِلْءَ جُفُوني عَنْ شَوَارِدِهَا؟

هل كان يقصد ان شيطان الشعر واقف خلف بابه لا يمنعه من الدخول عليه سوى استدعاء المتنبي له؟ ليملي عليه ما يقول شعراً
أم كان يقصد انه متحكم بأداته مقتدر بآلته محكمٌ بصنعته؟
فالشاعر -كما نعلم- يلزمه آلة وأداة؛ آلة اللغة والمعاني وأداة الفكرة والخيال فهو في النهاية صانع اذاً.

لنبقَ في باحة المتنبي ونتأمل بديع قوله:
كَثيرُ حَيَاةِ المَرْءِ مِثْلُ قَـليـلِـهَـا ... يَزولُ، وبـاقـي عَـيْـشِـهِ مِثْلُ ذاهِبِ
إلَيْكِ فإنّي لَسْتُ ممّنْ إذا اتّقَى ... عِضاضَ الأفاعي نامَ فوقَ العقارِبِ
ألم يهيئ المتنبي قافية "العقارب" قبل الشروع في هذا البيت لتتلاءم مع مفردة الافاعي؟ هذا ان لم يكن قد هيأها حين كانت القصيدة فكرةً في بالِه قبل الشروع بها.
لعل هذا المثال ينقصه الوضوح، حسناً سناخذ مثالاً ثانياً من نفس القصيدة ونذهب الى قوله:
أتاني وَعيدُ الأدْعِياءِ وأنّهُمْ ... أعَدّوا ليَ السّودانَ في كَفْرَ عاقِبِ

هل اتت مفردتا "كفر عاقب" عفوياً دون اضمار لهذا الموقع قبل الشروع بالقصيدة؟
ولتوضيح الفكرة اكثر سنأخذ مثالاً آخر من قصيدة ثانية وهي قصيدة:
بأبي الشُّموسُ الجانِحاتُ غَوارِبَا ... أللاّبِساتُ مِنَ الحَريرِ جَلابِبَا

وهي قصيدة كان قد كتبها يمدح بها الامير "علي الحاجب" وانا اذكر اسم الممدوح هنا ضرورة وليس من باب العلم بالشيء حيث انه يقول في ذات القصيدة وبعد بضعة ابيات:
أُسُـدٌ فَرائِسُـها الأسُودُ يَقُـودُهـا ... أسَدٌ تَصِيرُ لَهُ الأسُودُ ثَعالِبَا
في رُتْبَةٍ حَجَبَ الوَرَى عَن نَيْلِها ... وعَلا فَسَمَّوهُ عَلِيَّ الحاجِبَا

سنقف عند مفردتي "حجب" و "علا" الماخوذتين من اسم الممدوح المذكور في قافية البيت، لا يمكن لاحد ان يقتنع انه لم يهيئ قافية "الحاجبا" حين شرع في قصيدته بل سنكون في الدرك الاسفل من السذاجة اذا حاولنا ان نصف هذا البيت بالـ "مطبوع" او "العفوي" ونحن نرى الصنعة مبيتةً في خاطره باديةً لنا تصيح بنا ان التفتوا الي، فالمتنبي كان قد خطط وهندس ما يريد قوله فاضمر قوافيه او بعضها قبل الشروع بالقصيدة بما يتلاءم مع الغرض والمناسبة والممدوح، فاين زعمه بقوله "أنام ملء جفوني......"؟ وهل قوله هذا من باب الاستعراض الكاذب ام هو حقيقة وواقع؟

انا شخصيا ارى قوله: "أنام ملء جفوني" من باب "الاستعراض" ولكنه الاستعراض "الصادق" فهو ينام لاقتداره من صنعته وتمكنه من آلته وأداته، ولكن هذا القول سيحيلنا الى سؤال مستحق وهو: فأين الطبع المزعوم اذاً؟

الجواب هو: ان العفوية في الشعر كذبة كبيرة نعلم انها كذبة لكننا نريد ان نصدّقها فنحاول الصاقها بهذا الشاعر او ذاك. اما الشعر فكله مصنوع -الا ما ندر- وما نقول عنه شعر عفوي هو في الحقيقة مجموعة عوامل اجتمعت لدى الشاعر من تمكن لغة وخيال وحرفة في فن الكلام وخبرة في ادارة المفردة وصناعة القافية مع دربة في اجتلاء المعاني، ولن انسى توفرَ شيء من الحظ في القبول لدى المتلقي. فان فُقد عاملٌ من عوامل الشعر هذه انهد ركن من اركان القصيدة والشعراء اثنان:
شاعر محترف يوهمنا -نحن المتلقين- بعفوية "صناعته" وتلقائية ما يصنع من خلال مقدرته وفنه كما فعل ابو الطيب وابو تمام والبحتري وابن الرومي وقبلهم جرير والنابغة...

وشاعر لا يدري كيف "تُصنع العفوية" وكيف يوهم المتلقي بـ"التلقائية" في الشعر فيأتي شعره مرتبكاً مضطربا فيبدو لنا مصنوعاً مفضوح الصناعة. وهؤلاء كثير؛ منهم مَن اطبقت عليه طيات التاريخ فلم يرجع لهم صوت ولم يبق لهم اثر، ومنهم من يعالج بانفاس مترددة واصوات متقطعة فتراه يغيب ويحضر ثم يغيب..

وهذه هي حقيقية الفرق بين المصنوع والمطبوع

اما القصيدة فهي لوحة فنان او تمثال نحات يتجلي شكلها النهائي كاملاً في ذهن الشاعر قبل البدء والشروع بكتابتها كما يتجلى العمل النحتي او لوحة الرسام في ذهن الفنان قبل ضربة الريشة الاولى للرسام ، وقبل دق الازميل الأول للنحّات. وما الاضافات النهائية والاخراج الأخير للقصيدة من حذف وتشذيب واضافة وتهذيب وتحسين وتصويب الا لتجلى كما كما تجلى العروس ثم لتقديمها باجمل وابهى صورة.

ومَثلُ اللغة من المعاني والمفردات في عقل الشاعر كمثل عناصر الكيمياء وتفاعلاتها لدى الكيميائي في المختبر
فكل مفردة لها معنى وكل مزج بين مفردتين ينتج عنه معنى جديد ثالث ليس "بالضرورة" ان يشبه اصل المعنيين للمفردتين اللتين مزَجهما آنفاً، وهكذا.......
كلما تعمقنا في اللغة زادت التفاعلات فزادت المعاني وكثرت الكنايات وتضاعفت الصور لأجل ذلك صارت المعاني لا تستنفد ابداً بل هي في تكاثر وازدياد وتوالد وانشطار الى لا نهاية وما الركون من بعض الشعراء الى المطروق من المعاني والمستهلك من الصور الا لضعف في آلاتهم وادواتهم.

وليس المبدع من كان عفوياً تلقائياً فيما يكتب بل المبدع من صنع العفوية وخلق التلقائية بتمكنه من صناعته بدقيق آلته ومتقن أداته.
.
.