بقلم : ستار الحسني
منذ تأسيس الدولة العراقية عام ١٩٢١ بموجب مؤتمر القاهرة في شهر مارس، وإنشاء دولة ملكية وتشكيل مجلس تأسيسي برئاسة نقيب أشراف بغداد عبد الرحمان النقيب الذي تولى مهمة رئيس الوزراء للحكومة الانتقالية، وبعدها في ٢٣/آب/١٩٢١ تم انتخاب الأمير فيصل بن حسين ملكا على العراق بإرادة بريطانية، لم تستطع الحركات الاسلامية التاثير في فكر وايديولوجيات المجتمع، بل كانت الأفكار تتغير مع تغير الطبقة السياسية الحاكمة، فقد تميزت هذه الحقبة ببروز النزعة القومية في أيديولوجية طبقات المجتمع وخصوصا الوسطى منها.
بقيت مبتعدة خوفً او ضعفً من عدم القدرة على أنتاج حالة سياسية صحية تكون أنموذج يحتذى به، وتركت الساحة لمن هب ودب من الشيوعية والرأسمالية، تتحكم في أخلاقيات وطريقة عيش المجتمع وحتى تفكيره، باستخدام أدوات الأفكار الجمعية، فالشيوعية استطاعة قيادة المجتمع عن طريق خدمته وفرض الأمر الواقع، و الرأسمالية بالديمقراطية التي قيست على احجامهم، وبقي الإسلاميين في موقع التنظير والقصص الهزلية، ولم يدربوا أنفسهم سياسيا.
بعد ثورة ١٤ تموز عام ١٩٥٨ والتي كانت نهاية حكم الهاشميين للعراق، وبداية مرحلة الجمهورية العراقية الاشتراكية ذات الحزب الواحد، بحكم الأمر الواقع واستمر الحال حتى عام ٢٠٠٣، فقد إنساب الفكر الجمعي لطبقات المجتمع وتماهى مع الاشتراكية، نتيجة لما قدمه أصحاب القرار آنذاك للشعب المتطلع لجني نتاج ثرواته بعد اكتشاف البترول، بعيدا عن أيادي المحتل بعد خروج العراق من الانتداب البريطاني، وتحسن الحالة الاقتصادية للفرد، وانحسار الإقطاعية، وتطور الخدمات المقدمة من قِبل الدولة للمواطن.
لم يستمر الحال على ما هو عليه بعد انقلاب ٨/ شباط/ ١٩٦٣ وإعدام رئيس الوزراء عبد الكريم قاسم، ذو الافكار اليسارية التي لم ترق لبعض طبقات المجتمع وبالأخص الاسلاميين، حيث منح صلاحيات واسعة للتيارات اليسارية من الشيوعيين المعارضين لتطبيق الأحكام الاسلامية في القانون العراقي، والذي كانوا خلف إصدار قانون الأحوال الشخصية الذي شجبته المراجع الدينية.
مع صعود شخصيات أشاعة إنها تؤمن بالشعور القومي، وقضايا الأمة المصيرية، كالقضية الفلسطينية، مما زادها شعبية في قلوب الشعب في بداية المرحلة، حتى أتضح أنها تلعب على الأوتار العاطفية، لاستمالة قلوب الناس اليها، لم تعي الحركات والأحزاب الإسلامية خطورة هذه المرحلة، ولم تحرك ساكناً، ألا بعد فوات الأوان، فبقيت تتفرج منتظرة من يقوم بهذا العمل نيابة عنها، فتبخرت آمال الإسلاميين بشروق فجر يوم جديد، يكون لهم تأثير إيجابي وأساسي فيه، وتحول إلى واقع مرعب لحركاتهم وتحركاتهم السياسية والمسلحة، فقد امتلأت السجون، وغصة المقابر الجماعية بجثثهم، وأي أحد ينوي مس السلطة أو الحزب الحاكم بسوء، واستخدم الشعارات المؤثرة في نفس الفرد العراقي كالشعور القومي والعداء للصهاينة، ودغدغة مشاعرهم بالخطابات الثورية الفضفاضة.
بدخول الأميركيين عام ٢٠٠٣ وسقوط نظام الحكم وصل الإسلاميين أخيراً الى دفة الحكم، وبعد سنيين معدودة من السيطرة على مقدرات البلاد، لم يحسن قيادة الدولة، والخروج بها من المصير المجهول إلى بر الأمان، بل أُدخل في معمعة من الصراعات الداخلية كالطائفية والقومية، وعلى إثرها سالت دماء الأبرياء زورا وبهتانا، ووصل الحال من الاقتتال في داخل الطائفة الواحدة، فقد نشبت صراعات بين الأحزاب والحركات المسلحة على تقاسم السلطة وسرقة ثروات البلد.
اتسمت هذه الأحزاب والحركات بالكذب، والوعود التخديرية للشعب، مما ولد سخط وامتعاض لدى المجتمع، فأصبح يقارن بين العلمانية والرأسمالية، مقابل الإسلام السياسي الحالي، ذو التجربة الفاشلة لقيادة الدولة.
كانت ردة الفعل جلية في مواقع التواصل الاجتماعي، التي أصبحت الوسيلة المثلى والمستساغة للتعبير عن الرأي، في ضل التطور التكنلوجي، فكانت السخرية والنقد أبرز معالم الاعتراض على استمرار هذه الفئة في الحكم.
الفوارق الطبقية التي أنتجها فساد الطبقة الحاكمة وهلامية الدولة، أثر في تفكير الطبقة الوسطى والفقيرة، ذات التأثير المجتمعي والثقافي الكبير، فأغلبها من الشباب العاطل عن العمل رغم المؤهلات التي يمتلكها، فهو لا يضمن حياة كريمة له في ضل هؤلاء السياسيين، وأصبح يفكر بعيش تجربة جديدة سواء من اليمين او اليسار، المهم أن تلبى طموحاته بعيش حياة حرة كريمة.
بمرور الوقت اصبح الاسلام السياسي في عزلة، باتت تهدده بشبح الموت البطيء، فلم يعد هناك من ينصت لداعية أو قائد سياسي، يتكلم عن العرض او عن الأمانة أو عن الوطنية " إلا ووضعت طينته بخده".
بعد هذه المرحلة السيئة، والتيه السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وفهم المصطلحات المحددة للدولة الديمقراطية كل حسب رغبته أو تفسيرها على مقاس مخططاته لحصد النتائج المرجوة، ففسرت الديمقراطية بالعبثية، والدولة الشفافة بالعميقة، والوطنية بالتبعية، كما "زاد الطين بلة" نشوء الفوارق الطبقية الواضحة بين المجتمع، نتيجة لفساد الحكومة وانعدام الحد الأدنى من العدالة في توزيع الثروات على الشعب، فأصبح هناك مواطن من الدرجة الأولى، ومواطن من الدرجة الثانية، ومواطن من الدرجة الثالثة والأخير يموت في أغلب الأحيان جوعً أو مرض نتيجة لعدم قدرته على دفع تكاليف حياته اليومية.
اشتراك المؤسسة الدينية في ذنب الصمت عما يحصل من انتكاسة على جميع الصعد، ورفاهيتها يضعها في موضع الاتهام من قريب أو بعيد، وبعدها عن الحياة اليومية للمجتمع، وبالأخص الاقتصادية منها، أدى إلى خلق رأي جمعي يؤكد التنصل عن مسؤوليتها في توجيه وتصحيح الوضع الراهن.