أشباح بابل.. ترقص وتسخر
سرمد الطائي
لا يتخيل احد ان نستعير اليوم شريعة حمورابي ونقوم بتطبيق بنودها. انها موصوفة بالقسوة، كما قوانين روما واثينا ومصر والاسلام. وكما في العديد من التعاليم التاريخية عبر الحضارات. لكن ان تقف امامها في متحف، فإنك تعثر على شيء يستحق ان تحدق فيه البشرية.
ان لمسات الجمال التي خلفها الاقدمون مهدت لظهور أهم الديانات الخالدة، حتى ان عالم اثار بريطاني صرخ وهو يفك بعض رموز ملحمة جلجامش: لقد عثرت على العهد القديم.
وعلى هذا الغرار، كنا مساء الجمعة وبما يشبه الرحلة المرتجلة، نقف عند خرائب بابل خارج الحلة. شاب مهذب استغرب وجودنا في هذا المكان المعزول المظلم. وبدل ان يعترض على توقيت زيارتنا، عرض بسرعة ان يأخذنا في جولة تستمر ساعة داخل "متاهات" المدينة العتيقة.
مررنا بشارع الموكب وبقية الاسفلت البابلي القديم، ولمسنا النقوش التي حفرت على الطين قبل اكثر من 3 آلاف سنة. ورأينا "المتاهات" خلف سور القصر وقاعة العرش حيث لقي الغزاة والحماة مصرعهم مرارا. ولاحظنا كيف نسج العنكبوت خيوطه على الحجر البركاني لأسد بابل ما يعني ان لا احد يزوره تقريبا وأن العناكب "آمنة" هناك.
وعبر ضوء الموبايل رحنا نتابع الطابوق الذي يحمل اسم الدكتاتور السابق، والذي لم يكتف بخربصة حاضرنا، بل عبث بالماضي الذي تمتلكه كل الدنيا.
عند بوابات معبد ننماخ رحت اقول للاصدقاء ان اكثر ما يهمني كمهتم بتاريخ الديانات، هو هذا الليل الذي يمد المرء بخيال عن اشباح الآلاف من كتبة الاساطير والحكايات واخبار الملوك والآلهة والمحاربين والكهنة... من وضعوا "مغامرة العقل الاولى" في تفسير الكون وأطلقوا العنان لكل جنون الفكر اللاحق.
رحت ادون فقرات من هذا المقال داخل الخرائب.. ارددها فترد الجدران الصدى. خشوع غريب لا يزال مهيمنا علي حتى الآن. الاشباح التي اتخيلها ألقت في روعنا اشياء كثيرة.
الا يمكن ان نقوم يوما بإحياء ليلة حتى الفجر لقراءة نصوص قديمة.. بضعة ألحان للسنطور وربما رقص تراثي متنوع؟ أليست هناك طريقة كي نقول ان بابل او ما تبقى منها، هي مناسبة مثالية لإعادة دمجنا في العالم المعاصر بعد ان كنا يوما في قلب العالم القديم.
الحسرة تكبر وأنت تتخيل ان المدن الاثرية العظيمة يمكن ان تضيء وتزدحم بالسائحين في هذا الليل. بينما اطلال بابل واور واريدو مظلمة ينسج فيها العنكبوت بيوته بأمان. الحسرة تكبر وانت تبدأ العمل صباحا فتأتيك المعلومات والاخبار بكل ما هو سيء في العراق ومؤلم عن تلكؤ ادارتنا للمال والتنمية وازمات السياسة.
رحت اتذكر "المتاهات" قرب اسوار قاعة العرش في بابل. ارواحنا وكلماتنا تنخرط كتعويذة فاسدة في متاهة من هذا الطراز.
أشباح بابل تقبع داخل الخرائب المظلمة، وتعبث راقصة بخيوط العنكبوت وهي تحيط الاسد ونقوش الآلهة والملوك الغابرين. الارواح تحدق في ظلمة جميع مدننا.. وترقص وتسخر. ضحكاتها تجلجل في رأسي حتى الآن.