بقلم: عادل الموسوي
كأن التاريخ أراد منعطفاً ليدون ما يعبر به عن ذات الأمة ومكنونات ضميرها، وما آل اليه أمرها، بعد أحقاب هامشية لم يجد فيها مايستحق الأشارة والتدوين، إختار عصر المرجع الأعلى، إستوقفته الفتوى المقدسة، فدار في فلكها، وتأمل قلوب من تعلقت أرواحهم ببسملتها المباركة وختمها الشريف، وإنعطف لينقل مشاعر المقاتلين بلسان حال أحدهم -وهو يتحدث للتاريخ- قائلاً:
مذ كنت شاباً يافعاً راودني حلم معركة مقدسة تحت راية شرعية تبذل فيها النفس وهي مطمئنة.
ولعل طيف عاشوراء رسم في مخيلة الطفولة -لدي- لابديّة الحضور في تلك الواقعة.
حرب الثمان لم تكن حربي ولا الخليج ولا غيرها، كنت أتوق لفلسطين بمقدار إدراك ذي الثمانية عشر عاماً تزيد أو تنقص، ربما كانت أحلام يقظان بالبطولة، أين أنا وأين السبيل إليها، وأين السبيل بعد بضع وعشرين من العمر في الإلتحاق بالمجاهدين في الأهوار -مثلا- ومثله الإنتفاضة الشعبانية من قبل، لا يقين -لدي- تام بالشرعية، وأي إذن بالخروج وأين السبيل للفتوى والنفس "عزيزة" لا تبذل كيفما إتفق، ربما كانت النفس تبرر لنفسها " إن عمل العامي بلا إحتياط ولا تقليد باطل وغير مبرء للذمة "، صراع مع النفس وربما فقدان للثقة، أو شعور بعدم الأهلية والقبول، تقنطني -آية- " وَلَوْ أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَٰكِن كَرِهَ اللَّهُ انبِعَاثَهُم فَثَبَّطَهُمْ.. ".
في دعاء العهد أتردد عند " فَاَخْرِجْني مِنْ قَبْري مُؤْتَزِراً كَفَنى شاهِراً سَيْفي مُجَرِّداً قَناتي مُلَبِّياً دَعْوَةَ الدّاعي فِي الْحاضِرِ وَالْبادي "، لعلي لا أكون صادقاً بقولي، تحدثني النفس: إنما يكون ذلك بعد الموت، وعند ذاك إن علم الله بي خيراً أخرجني، فأرجع لها بالقول: لكن صراط الآخرة هو صراط الدنيا " وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا" ومن لم يوطن نفسه في الدنيا لخدمة الحجة بن الحسن فما له في الرجعة من نصيب.
أتردد بقول "ياليتنا كنا معكم سيدي.. " ويؤلمني نبز الشانيء مستهزئاً يدعونا بأهل "ياليتنا"، ويعني إننا كاذبون، وكم من خطيب ٍمثبط ٍ قص حلم ذلك الذي حضر عاشوراء في منامه وكأنه سمع نداء الحسين عليه السلام ففر من المعركة فوقع لوجهه ليستيقض وقد هوى من سريره، فقال كفوا عن قولكم "ياليتنا"، ويعني أننا لسنا أهلا لذلك.
كانت الكلمات قاسية مثبطة مهينة، معاول تهدم في الذات العراقية: شعب جبان، تصفقون للحكام، أهل الشقاق والنفاق، "بس مال لطم"، "بس مال تمن وقيمة وهريسة"، عراقيين "ما بيهم حظ، " شوفو الإيرانيين"، "شوفو اللبنانيين"، "شوفو البحرانيين"،.. حتى لفظت الذات العراقية أنفاسها الأخيرة، لم يصبها من القهر والظلم والإستبداد والحروب والحصار وضحايا الإرهاب بقدر ما أصابها من خذلان اﻷصحاب وشماتة الناصبين.
لفظت أنفاسها الأخيرة وخنعت للهزيمة كإستسلام الذبيحة للسكين، حين وقفت "داعش" على أعتاب بغداد "وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا ۖ إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ" فنفخ في الصور من الصحن الحسيني المقدس، أمام القبر الشريف، وعند منبر الجمعة وقف الشيخ عبد المهدي الكربلائي منادياً: " وإنَّ من يضحي منكم في سبيل الدفاع عن بلده وأهله وأعراضهم، فإنه يكون شهيداً.."
إنها "الفتوى المقدسة"
هي هي والله المعركة التي راودني حلمها شاباً، وادركتها كهلاً، وما أمكنه من شعور وأنت في خط الصد وقد تيقنت مرضاة الله وإنك تحمل مسؤولية العراق واثق الخطى بالسير الى الله.
ها وقد تحققت أحلام الشباب والشيوخ بتلك المعركة وقد جذبها قانون المرجع الأعلى وتحقق لجيل خطف خيالاتهم طف كربلاء.. "لطميات" حمزة، وطن، نعي سيد جاسم، محاضرات الشيخ الوائلي، مقتل عبد الزهراء الكعبي، "المشاية" الزيارات والمواكب والخدمة، الحوزة وطلبة العلوم الدينية، التقليد والرسائل العملية، اللطم والزنجيل و "التشابيه" والطبخ، السواد والرايات، أيام عاشوراء ومجالس عاشوراء ومناخ عاشوراء وما أدراك ما عاشوراء ثم ما أدراك ما عاشوراء.
إن تلك المجالس وذلك الإحياء للشعائر وتلك البيئة والمناخ العاشورائي هي التي أوقدت في قلوب المؤمنين جذوة الإنتظار لمعركة مقدسة تحت راية شرعية لتفريغ شحنات الألم واللوعة لما فات من إدراك تلك المعركة ظهيرة العاشر من محرم.
وإن فتوى المرجع الأعلى هي التي أعطت تلك النفوس التائقة فرصة البذل في سبيل الله وهي مطمئنة ف " أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا ۚ وَإِنَّ اللَّهَ عَلَىٰ نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ" فكانت الفتوى المباركة مؤيدةً مسددةً بمنزلة " السَّكِينَةَ " من الله سبحانه "وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا".
شكراً لك سيدي المرجع.
إذ رفعت لنا راية نقاتل تحت ظلها..
أنقذتنا من حيرة الحياة بلا قيمة..
منحتنا الأمان والإطمئنان..
أخرست من دعانا -مستهزئا- بأهل "ياليتنا كنا معكم.." فكنا بحق معهم، وما أعظم مافزنا به معهم.
خرجنا أحياء شاهرين بنادقنا فكيف لا ندعوا دعاء "فاَخْرِجْني من قبري.. شاهِراً سَيْفي" ونلبي دعوة الحجة عليه السلام وقد لبينا دعوى نائب الحجة.
هذا هو ضمير الأمة ووجدانها عجز في ما مر من حقب التاريخ في التعبير عن موالاته، وإستجابته لنداء أوليائه، فأدرك كنهه المرجع الأعلى فإستند وإعتمد ووثق بالنصر وإرتكز بدعائم ما لمحه بعينه البرزخية من إخلاص مقاتليه فدعى للجهاد بتلك الفتوى العظيمة المباركة لتكون منعطفاً تاريخياً ولتكون للعراقيين مفخرة وعزا.