حديث الخميس: مدرسة ابي نواس

آخر تحديث 2019-07-11 00:00:00 - المصدر: وكالة الحدث الاخبارية

حسان الحديثي

ابو نواس مدرسة التجديد في الشعر العربي وهو اول من ترك المطولات من الشعر منهج الشعر الجاهلي وصدر الاسلام ثم الاموي، واكتفى بان جعل القصيدة تامةً مكتملة ببضعة ابيات بل وقد ركّز ايضاً بجعل البيت الشعري يمثل وحدةً واحدةً للمعنى وقد تفرّع من مدرسته مدرستان الاولى مدرسة المتنبي وابو تمام ومَن قلدهما ونهج نهجهما في التركيز على البيت الواحد في صناعة الشعر وتميزا في بناء البيت الشعري وجعْلِه وحدةً واحدةً تاماً بمعناه قائماً بذاته لا يحتاج بيتاً قبله او بيتاً بعده لتكتمل صورتُه وهذه الـ "ستراتيحية" في البناء هي التي جعلت للمتنبي ومِن قبلِه حبيب ابن أوس كماً هائلاً من الابيات المنفردة عن وحدة القصيدة وهي التي جعلت البيت يشتهر لوحده دون مكمّل له حتى غاب عن اذهاننا -في مناسبات عديدة- اصلُ القصيدةُ والمناسبةُ التي قيل فيها ذلك البيت بسبب البناء المتقن والحكمة الخالدة والصورة المتكاملة التي اودعاها في البيت الواحد مما جعله معنى مكتملا من جانب و يسّر الحفظ عند سامعه وسهّل التذكر له عند المُستشهد بكلام او بخطابة او بمثل من جانب آخر ومثل ذلك عند ابي تمام قوله:
السيفُ أصدقُ إنباءً من الكتبِ ... في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ
وقوله:
لَيْسَ الغَبِيُّ بِسَيد في قَوْمِهِ ... لكنَّ سيِّد قومهِ المُتغابي
وقوله:
يعيش المرءُ ما استحيا بخيرٍ ... ويبقى العودُ ما بَقِيَ اللُحاءُ
ثم قوله الخالد:
نقّل فؤادكَ حيث شئت من الهوى ... ما الحبُّ إلا للحبيب الأولِ
كـم منزلٍ في الأرضِ يألفُه الفتى ... وحـنينُه أبـداً لأول مـنـزلِ

والنماذج كثيرة جدا يصعب جمعها في مكان ضيق كهذا المقال ، كذلك عند المتنبي فالامثلة كثيرة جداً و متشعبة كقوله مثلاً:
إِذا رَأيتَ نُيُوبَ اللّيثِ بارِزَةً ... فَلا تَظُنَّنَ أَنَّ اللَيثَ يَبْتَسِمُ
وقوله:
وَمن صَحِبَ الدّنيا طَوِيلاً تَقَلّبَتْ ... على عَيْنِهِ حتى يَرَى صِدْقَها كِذبَا
وقوله:
أَرى كُـلَّـنـا يَبغي الـحَـياةَ لِنَـفـسِـهِ ... حَـريـصـاً عَلَيها مُسـتَهامـاً بِها صَـبّـا
فَحُبُّ الجَبانِ النَفسَ أَورَدَهُ التُقى ... وَحُبُّ الشُجاعِ النَفسَ أَورَدَهُ الحَربا
وقوله:
إذا غدرتْ حسناءُ وفّت بعهدِها ... فمن عهدها ألّا يدومَ لها عهدُ

بل لعل المتنبي ذهب الى ابعد من ذلك فصارت الصورةُ عنده واضحةً والمعنى مكتملاً في شطر البيت الواحد ولا يحتاج المتنبي في بعض مواطنه لإكمال البيت لتكتمل وحدة المعنى كقوله:

"إذا أنت أكرمت الكريم ملكته" فهذا الشطر مكتمل حتى انه يغنيك في معناه عن شطره الثاني الذي يقول فيه "وإن أنت أكرمت اللئيم تمرّدا" ، وهكذا الحال في قوله "لا تَشْتَرِ العَبْدَ إلاّ وَالعَصَا مَعَهُ" فهو الاخر مكتمل بلا تكملته: "إنّ العَبيدَ لأنْجَاسٌ مَنَاكِيدُ".

وهذا ضرب عال من الشعر البلاغي سار على نهجهما وقلّدهما من المتأخرين احمد شوقي -باختلاف اللغة الشعرية واختلاف المفردة بما يلائم العصر- والامثلة عنده في قوله:
صلاحُ أمرِكَ للأخلاقِ مرجعُه ... فقوِّم النفسَ بالأخلاقِ تَسْتَقِمِ
وقوله:
وإِذا النساءُ نشأنَ في أميّةٍ.. رضعَ الرجالُ جهالةً وخُمولا
وقوله:
وما نيلُ المطالبِ بالتمني.. ولكن تُؤخذُ الدنيا غلاباً
وقوله:
آفة النُّصح أن يكونَ جدالاً ... وأذى النصحِ أن يكون جهارا

أما مدرسة ابي نواس الثانية فيقف فيها فريق آخر رأوا أن القصيدة وحدةً واحدةً لا تتم صورتها ولا يكتمل معناها الا بها كاملة، وهم ثلة من الشعراء لعل مسلم بن الوليد -وهو من معاصريه- هو اشهر اعلامها وهي مدرسة الذين اتبعوا "ستراتيجية" مختلفة تقضي بأن البيت مرتبط ببيت يسبقه وبيت يعقبه والبحتري من الشعراء الذين ساروا على النهج لاجل ذلك لا تستطيع -في الغالب- ان تُفرد بيتاً مكتملَ المعنى من قصائدهم -الا القليل- وقد اثر ذلك على انتشار اشعارهم سيما مسلم ولهذا يصعب ان تجد احداً يحفظ قصيدة كاملة له ولمن تبعه في هذه المدرسة.

أما ابو نواس فيبقى مدرسةً متفردةً تعلّم منها المتنبي وابو تمام وحدة البيت وتعلّم منها مسلم والبحتري وحدة القصيدة فقد ابدع ابو نواس في كليهما واني لاجد بعض شعر أبي نواس اشبه بطائرة اغلقتْ ابوابها للتو تهيؤاً للرحلة ثم سارتْ على المدرج ثم انطلقتْ ثم حلقتْ.

فكلنا يحفظ ويتلو ابياته الخفيفة على القلب والتي يقول فيها "حامل الهوى تعب" وهي نموذج يقرب صورة الطائرة التي اردتها....

فالبيت الاول فيه:
حــامِــلُ الـهَـوى تَعِب يَستَخِفُّهُ الـطَـرَبُ ....تهيؤ للاقلاع

والبيت الثاني:
إِن بَـكـى يُحَقُّ لَــه لَيسَ مــا بِــهِ لَـعِـبُ ....مسير الى المدرج

والبيت الذي يليه:
تَـضـحَـكـيـنَ لاهِـيَـةً وَالـمُـحِـبُّ يَنتَحِبُ ....انطلاق

ثم الذي يليه:
تَعجَبينَ مِن سَقَمي صِحَّتي هِيَ العَجَبُ ....تحليق

ومن عجيب شعر ابي نواس ان بعضَه يحلق بنا مباشرة بلا تهيؤ ومسير وانطلاق، ويغنيك -ان قراته وحده- عن باقي القصيدة ويتم معنى القصيدة به ان قراته معها، ليس ذلك فحسب بل يكتمل معناه بشطره الاول ان شئت، ويتم معناه بكلا شطريه ايضاً. ومثال ذلك قوله:

دَعْ عَنْكَ لَوْمي فإنّ اللّوْمَ إغْرَاءُ ... ودَاوني بالّتي كانَتْ هيَ الدّاءُ