حديث الخميس: نزار قباني

آخر تحديث 2019-07-18 00:00:00 - المصدر: وكالة الحدث الاخبارية

حسان الحديثي

قال عنه بعض النقاد الدارسين لشعره انه أول من نظم الشعر الفصيح بنَفَس المحكي وقال عنه اخرون انه هو من نزع عن الشعر لباسه وزيه الرسمي والبسه لباسه العَرضيّ وزيه التصادفي الزي العابر للطبقية والمقبول لدى الناس كل الناس.

عظمة نزار انه دخل على الشعر في بلاطه الرخامي وبرجه العاجي بلا استئذان واخذه من قصوره وقبابه ومن بين خدّامه وحُجَّابه واخرجه للعامة من الناس فازاح عنه قدسيته ونخبويته وأعاده الى اصله الذي جاء منه الى لسان حال الناس فهو ترجمان حالهم وطبيعتهم.

نزار هو من ادخل الشعر الى الجامعات ومعاهد الطلبه وهو الذي جعله حديثاً يومياً متداولاً على السنة الشباب والصبايا يحفظون عمودَه ويترنّمون بتفعليته ويرددون اغانيه ويتناقلون كتبه ودواوينه، وهو من وضعه على السنة الساهرين في المقاهي البسيطة والنوادي العامرة باللغط والدخان فجعله متاحاً يتغنى به من ليس له سابق علم باللغة وكثير معرفة بالاوزان ودراية بتعقيدات الرموز الفراهيدية.

نزار هو من جاء بالشعر من البيوتات الثقافية والمهرجانات الدوليه وغيّر طبعه من كونه نخبوياً يتداوله اهل القيافة والكياسة ثم حمله على لغة الفهم وجناح العاطفة الى البسطاء من الناس فأدخله الأزقة والحارات الشعبية.

لقد اعاد نزار قبانى للشعر رقته وانوثته وعاطفته واعاد له المفردة القريبة الملامسة للقلوب والقريبة من الانفس بعد ان شط وتاه في وديان البلاغة ووعورة المفردة على يد بدوي الجبل وعمر ابو ريشة من ابناء بلده وعلى لسان الجواهري وحافظ ابراهيم من ابناء لسانه وعربيته.

نزار قباني والشعر كمن يدني فرع شجرة محمل بالثمار الى الصغار والاطفال ممن لا يستطيع الوصول إليه، وكمن يمكن العاشق الكسير على الارض فيرفعه لتقبيل الظعينة.

نزار قباني هو من جعل الشعر لغة العشاق والعاشقات من بسطاء الناس وخلق من بسيط المفردات معانياً عظيمة ومن متداول الكلمات لغة شعرية تؤكد الف مرة اننا اما الشعر بابسط لغاته واروع صوره، هو من جعل للسكوت معنى جديداً وللصمت لغة مفهومة بل وصوتاً مسموعاً، ليس ذلك حسب بل وجعل منه حجة مقنعةً فقال:

فإذا وقفتُ أمام حسنِك صامتاً ... فالصمتُ في حَرَم الجمال جمالُ
كَـلِـمـاتُنا فـي الحُـبِّ تقتلُ حُبَّنَا ... إن الحـروفَ تـمـوتُ حـيـن تُقالُ

نزار قباني هو الذي قدّم المعنى البسيط حد السذاجة كمدخل للادهاش فهو القائل:
الحب ليس روايةً شرقيةً ... بختامها يتزوَّجُ الأبطالُ

وهو معنى غاية في البساطة السردية ليتلطف بك الى الرائع من المعنى ثم ليدهشك بقوله:
لكنه الإبحار دون سفينةٍ ... وشعورُنا أن الوصول محالُ

وهو الذي تحدث بلغة مصائبنا وويلاتنا وترجم غضبنا وحنقنا الى شعر ولكن بلغة جديدة تنفّس عما كمن من ثورات ارواحنا وفورات قلوبنا ودواخلنا كقوله:

أحبيني.. بعيداً عن بلاد القهر والكبتِ
بعيداً عن مدينتنا التي شبعتْ من الموتِ
بعيداً عن تعصّبها، بعيداً عن تخشبِّها
أحبيني.. بعيداً عن مدينتنا التي من يوم أن كانت إليها الحب لا يأتي.

وهو الذي اختزل كثير من الشعر في قليل من الكلمات ورسم صوراً من المتضادات لا يسطيعها الا شاعرٌ عبقري كقوله:

يا شَعْرَها على يدي ... شَلالَ ضَوْءٍ أسودِ

وهو الذي جعل جرأة الشعر اداة يدخل بها الى المُخبّأ من القول ونسل من خلالها الى ما لا يستطاع الافصاح عنه من دواخل المجتمعات والمبطن من الجرائم والمخفي من الجبروت مما يحدث في الغرف المظلمة، فانا وجدت نزار قباني شاعراً في قصائده المستورة اكثر منه شاعراً في كثير من قصائده المشهورة فهو شاعر هائل في قصيدة حبلى:

لا تَمْتَقِعْ!
هيَ كِلْمَةٌ عَجْلَى
إنّي لأشعرُ أنّني حُبْلَى
وصرختَ كالملسوعِ بي "كلاَّ"
سنُمزِّقُ الطفلا
وأخذتَ تشتُمُني
وأردتَ تطرُدُني
لا شيءَ يُدْهِشُني
فلقد عَرَفْتُكَ دائماً نَذْلا

حتى يقول في نهايتها البائسة التي تترجم مئات الحكايات في الغرف المظلمة ووراء والستائر المعتمة وخلف الزوايا المتوحشة:
ليراتك الخمسون تُضحِكُني
لمن النقود.. لمن؟
لتجهضني؟
لتخيط لي كفني
هذا إذنْ ثَمَني؟
ثمنُ الوفا يا بُؤرَةَ العَفَنِ
أنا لم أجِئْْكَ لمالِكَ النَتِنِ
شُكْراً
سأُسقِطُ ذلك الحَمْلاَ
أنا لا أُريدُ له أباً نَذْلا......

لقد اثبت نزار ان اللغة ليست هي وحدها من تحتاج الى جرأة الشاعر وتطاوله على الغريب منها وغير المألوف فيها، بل وخبايا المجتمعات ايضاً وما يدور في الاركان المنزوية تحتاج الى جرأة اكبر فتجاسر على اسرارها ونقلها من العتمة الى العلن وكشف عنها الغطاء بلغة بسيطة سهلة سلسة ولكنها لغة شعرية تتشعب بالارواح وتمسك بتلابيب الجمال ولا تدع القارئ ذا قرار في تركها ولعل قصيدة "البغيّ" -وهي احدى قصائده المتوحشة- اشهر دليل على ذلك والتي يقول فيها:

علَّقت في بـابها قنديلَـهـا ... نازفَ الشريانِ مُحمرَّ الفتيلة
في زقاقٍ ضَوَّأتْ أوكـارُهُ ... كـلُّ بيتٍ فيه مـأساةٌ طـويلَة
غرَفٌ .. ضيِّقَةٌ .. موبوءةٌ ... وعـنـاوينُ لـِ مـاري و جـميلَة
وبمقهى الحيِّ حاكٍ هَـرِمٌ ... راح يَجْتَرُّ أغـانـيـهِ الـذلـيـلَـة
وعَجوزٌ خلفَ نـرجيلتِـها ... عُمْرُها أقدمُ من عُمْر الـرذيلَة

وبوقفة بسيطة وقصيرة امام تشبيهه لعُمْرِ العجوز بأنه اطول من عمر الزذيلة نجدنا امام شاعرية من نوع نادر يُنبينا عن تمكنه من الدرامية التعبيرية التي ارادها في هذه الصورة المدهشة.

لقد كان نزار قباني إمامَ الابتكار في عصره فهو يترع نصوصه منها بحيث تجد له في قصيدة واحدة كل هذه الابتكارات الجميلة:
"حبكِ خارطتي" ما عادت خارطة العالم تعنيني
أنا "أقدم عاصمة للحزن" و "جرحي نقش فرعوني"
"عصفورة قلبي" .. نيساني ..
"نوارة عمري" مروحتي .. قنديلي فوح بساتيني

يجب ان نعلم ان هناك مزاج في هذه المعاني يشير الى الشاعر ويعرّف بَصْمْتَه ويرسمها كاسهم دلالة اليه، كذلك في قوله:
مدي لي جسراً من رائحة الليمون
وضعيني مشطاً عاجياً في عتمة شعرك و انسيني

وقوله:
انا اقدم عاصمة للحزن
و جرحي نقش فرعوني

الذكاء والفطنة هما وراء تسخير كل شي للشعر؛ مآسيه على الصعيد الشخصي والاجتماعي والوطني، دبلوماسيته الشخصية ودبلوماسيته العملية، وسامته وقبوله في المجتمعات الأدبية والسياسية، احساسه وعاطفته المتدفقة، وقبل كل، ما تقدم شاعريته ولغته العاليتان، كل ذلك جعل منه الشاعر المجدد لغةً ومعانياً حتى سارت قصائده ومعانيه في اطراف البلاد، تمر الاعوام ومن بعدها الاعوام على رحيله وما زال هو ذات الجسر الذي يربطنا برائحة الشعر المألوف.

ولكن هناك سؤال يثير نفسه وهو: اما كان يكفيه كل ما تقدم ليترك ثورة الشباب لايام الشباب وشعر النزق لليالي النزق وفورة الدماء لايام فورة الدماء؟ وان ينتقل الى فئة جديدة تتلائم وعمره صعوداً وان يكتب بما يتلاءم مع مراحل سنّه وهذا ما لم يفعله او ربما لم يستطع فعله لتمسكه بشبابه الذي يهوى وحياته التي يحب فبقي كما هو يكتب الشعر بروح النزق والشباب والغواية حتى بعد ان تجاوز عمره الستين وهذا من وجهة نظر الشاعر والناقد فوزي كريم خطأ وانا اوافقه في ذلك فمن اسباب قوة العلاقة بين الشاعر وشعره هو التناسب بين القول والقائل، فالقائل ابن العشرين ليس هو ذاته ابن الستين والسبعين وان حوى جسده ذات القلب وذات النفس والروح ، فالشعر وان جاء كبيراً في مرحلة الشباب الا انه يحتاج الى هدوء الأنفاس وتباطؤ الخطو وابداء الحكمة بما يتناسب والمرحلة العمرية للشاعر.

.
.
.