مثنى عبدالله …
في السادس عشر من الشهر الجاري أعلنت الحكومة الأردنية تعيين سفير فوق العادة ومفوضا لها لدى دولة قطر، كما اعتمدت سفيرا فوق العادة للدوحة في عمّان. سبق هذا المشهد فصل آخر حدث قبل عامين، حين قررت المملكة في السابع من يونيو/ حزيران عام 2017 خفض التمثيل الدبلوماسي مع الدوحة، وسحب تراخيص قناة الجزيرة للعمل فيها، بناء على (دراسة أسباب الأزمة التي تشهدها العلاقات بين جمهورية مصر العربية والمملكة العربية السعودية ودولة الامارات العربية المتحدة ومملكة البحرين ودولة قطر)، حسب قول الناطق باسم الحكومة ووزير إعلامها حينذاك.
في الأعراف الدبلوماسية يشير اعتماد دولتين سفيرا فوق العادة لكل منها لدى الآخر، إلى أن مصالحهما في شتى الحقول قد قفزت إلى مستويات متقدمة جدا، حتى باتت هنالك موافقة مبدأية من صانعي القرار في البلدين، على كل خطوة تعزز من تعاونهما المشترك، ما يتطلب فتح قناة دبلوماسية عالية المستوى وذات صلاحيات واسعة وغير محدودة، تساعد في تقليص الزمن الذي يتطلبه توقيع الاتفاقيات، وفتح آفاق عمل مشترك أوسع. ومن هنا جاء رفع التمثيل الدبلوماسي بين الدوحة وعمّان دليلا واضحا على مستوى التطور الحاصل. وما بين التفاعل الدبلوماسي الأخير والقطيعة السابقة، يأتي السؤال عن أسباب الحادث الأول والتطور الأخير المعاكس؟
يقينا كانت الخطوة التي اتخذتها السلطات الأردنية آنذاك مفاجئة بكل المعايير، لأنه لم يُعرف عن السياسة في هذا البلد التماهي والتناغم مع الآخرين، بل المشهود لها الإبقاء على علاقات متوازنة مع جميع الأطراف العربية، في حين كانت هذه الخطوة تمثل تناغما واضحا مع محور ضد آخر. كما كانت هفوة خارجة عن التقاليد أيضا، حيث كان الاردن رئيسا للقمة العربية في ذلك العام، وهذا الموقع يفرض عليه التواجد في المواقف الخلافية لتقريب وجهات النظر، ثم التوصل إلى حلول، وليس الانحياز لطرف على حساب آخر، لذا أعطى ذلك القرار السياسي فسحة ظهور للرأي القائل بأن انسجام صانع القرار الاردني مع دول الحصار كان لحسابات اقتصادية، آمل أن يجنيها من بيع موقف سياسي لدول كانت تربطه معها حالة تحالف، كما كانت تعتمد على بعضهم اقتصاديا كالسعودية والإمارات، وتنسق معهم سياسيا على الصعيدين الخارجي والداخلي أيضا، لكن حسنا فعلت عمّان حيث كعادتها ابتعدت عن المهاترات الإعلامية والتهديدات التي سقط فيها البعض. كما حرص المسؤولون فيها على استمرار زيارة الدوحة للتداول في شتى الامور ذات الاهتمام المشترك.
أكثر ما يهدد المصلحة الأردنية العليا هو محاولة الآخرين التجاهل عن عمد لدوره الفاعل في ملفات مهمة في الساحة العربية
أما لماذا عادت عن ذلك القرار فهو لخاصية مهمة تتميز بها السياسة الأردنية، التي تقوم على المراجعة الدائمة للعلاقات الخارجية مع الدول العربية وغير العربية، في ضوء دراسة مستفيضة يقوم بها صانع القرار السياسي، لطبيعة تحرك القوى الأخرى، والمؤثرات الناتجة عن ذلك على المصالح العليا للبلد. فعندما وقفت الدوحة إلى جانب عمّان حين حصلت الاحتجاجات الاخيرة بسبب الوضع الاقتصادي، وقدمت منحة توظيف عشرة آلاف أردني في قطر، مع هبة مالية بقيمة 500 مليون دولار، هذه كلها ذات مردودات إيجابية على المصلحة الاردنية، وبالتالي من الطبيعي أن يتفاعل صانع القرار بإيجابية مع هذه الخطوة، ثم يتحرك فورا لتصحيح الخطأ السياسي الذي وقع فيه. ولو نظرنا إلى الصفحة الاخرى من المشهد سنجد أن ما جنته عمّان من انحيازها إلى دول الحصار سابقا كان كارثيا على مصالحها العليا. فكل من الرياض والقاهرة تاريخيا كانتا تحاولان احتكار القرار العربي، وبالتالي من يلتحق بهما لا بد أن يتنازل عن دوره في صنع القرار العربي، لذلك وجدنا الاردن قد تراجع دوره كثيرا على الساحة العربية وفي المحافل الدولية، على الرغم من أن التفاعلات السياسية في المنطقة العربية وفي الملفات التي لعمّان دور تقليدي فيها قد تغيرت كثيرا وحصلت فيها تطورات مهمة جدا. فقرار الإدارة الأمريكية باعتبار القدس عاصمة لإسرائيل، والسعي لتصفية القضية الفلسطينية، من خلال طرح ما يسمى «صفقة القرن»، كلها ملفات على درجة عالية من الأهمية للأردن، وتمس مصالحه العليا بشكل حاسم، لكنه تفاجأ بأن من انحاز إليهم قد تجاوزوا دوره الرئيسي في عملية السلام، وأنهم اتفقوا مع الامريكان من دون الرجوع إليه، كما أنهم مارسوا أقسى الضغوط عليه كي يجبروه على حضور ورشة العمل في البحرين، من دون أفق سليم للحل. كذلك خذلوه في الجانب الاقتصادي مرات عديدة، وكانوا يسعون من خلال هذا الباب إلى استدراجه لدفع أثمان باهظة. فعلى الرغم من إنشاء مجلس تنسيق سعودي أردني في عام 2016، كان المأمول منه استثمارات كبرى في الأردن لكنها تبخرت. وحتى العضوية الفخرية التي تم منحها له في مجلس التعاون الخليجي في عام 2011، كانت مجرد تحرك سياسي لا معنى له، لأنه لم يحقق للأردن شيئا على أرض الواقع. في حين انخرط هو في مواقف كثيرة إلى جانب أشقائه الاغنياء، حيث انظم إلى التحالف الذي قادته الرياض ضد تنظيم «الدولة»، ونشر طائراته في الأراضي السعودية للدفاع عن المملكة ضد الحوثيين وتضامن معها في سحب سفيره من طهران.
إن أكثر ما يهدد المصلحة الاردنية العليا هو محاولة الآخرين التجاهل عن عمد لدوره الفاعل في ملفات مهمة في الساحة العربية، كذلك تجاهلهم فاعلية عنصر الجغرافيا الأردنية في المعادلات السياسية القائمة في المنطقة. وقد أصاب الانسداد العلاقات الأردنية مع كل من الرياض وأبو ظبي منذ فترة بسبب هذه الأفعال المقصودة لاحتكار ما يسمى الزعامة العربية. إن المملكة الأردنية الهاشمية تمر بمنعطف كبير تواجه فيه خيارات صعبة على صعيد علاقاتها الخارجية، بسبب هذا الكم الهائل من الاندفاعة (الترامبية) إلى خارج حدود المألوف في السياسة الامريكية، وتناغم بعض الدول العربية معه، خاصة في الملف الفلسطيني بالقفز على دورها ومصالحها، ولأنها حاولت مرات عديدة أن تشرح للأشقاء موقفها استنادا إلى مصالحها من دون نتيجة، لذا يبدو أنها اتخذت قرارا مهما بتغير بوصلتها السياسية والاتجاه نحو ما تمليه عليها مصالحها العليا. أما التداعيات المحتملة من هذا التوجه فهي تحت سيطرة ظروف الوعي الاردني الكامل بها. فالازمة الخليجية التي أعاد حساباته بها قد تعايش معها الجميع، ولم تعد عاملا حاسما في العلاقات العربية. كما أن الملف الفلسطيني ودوره في الوصاية على الاماكن المقدسة لا يمكن لاي أحد أن ينتزعها منه.
إن المصلحة العليا تتطلب تعامل الدول العربية الغنية مع الأخرى محدودة الموارد كالاردن مثلا، بطريقة التكامل الاقتصادي والتكافل الاجتماعي وليس الابتزاز والتهديد بالفقر للحصول على مواقف سياسية.
كاتب عراقي وأستاذ في العلاقات الدولية