حديث الخميس: غيلان في ذاكرة الشعر

آخر تحديث 2019-08-01 00:00:00 - المصدر: وكالة الحدث الاخبارية

حسان الحديثي

غيلان هو اسم ذي الرمة ومي هو اسم حبيبته التي بكاها وتنقل وراءها وقد اشتهر عنه تغنيه بالاطلال وآثار الديار ومحاكاته اياها وهو القائل:
وقفت على ربعٍ لميّةَ ناقتي ... فما زلتُ أبكي عندَهُ وأخاطبُه
وأسقيه حتى كـاد ممـا أبثّه ... تُكـلّـمـنـي أحجـارهُ ومـلاعبـُه

وقوله اسقيه اي اسقيه بدموعي ، وقد تركتْ قصته اثراً كبيراً فيمن جاء بعده حتى اصبح مثلاً في كثرة الترحل طلباً لديار مَيّة، ومثلا لمناجاته الديار والطلل لاجل ذلك ذكره بعض الشعراء واشاروا اليه وضربوه مثلاً ومنهم الفرزدق حين قال:

ودَوَيَّةٍ لو ذو الـرميمةِ رامَـها ... لقصّر عنها ذو الرُميمِ وصيدحُ
قطعتُ إلى معروفها منكراتِها ... إذا اشتدَّ آلُ الأمعز المتوضح

والدَوَيَّة هي المفازة الموحشة الخالية من البشر وصيدح اسم ناقة ذي الرمة وقد انهكها كثرة ترحله عليها طلباً لأخبار حبيبته "مَي" فأصبحت مثلا هي الاخرى واشتهرت مثله ، والآل هو السراب والأمعز هو الصلب من الصخر والمتوضح اي المستبين. وفي المعنى مبالغتان جميلتان:

الاولى: ان ذا الرمة وصيدح لم يُبقيا فلاةً ولا مفازةً الا وسلكاها ومشيا بها وراء مَيّة. وهو مبالغة في طول البحث والمسير وكناية عن حبه وهيامه بـ"مي"

والثانية: انه -اي الفرزدق- اكثر منهما مشياً في المنكر من الطرق والصعب من الفلوات والمفازات ولكن مشيه ذاك كان في سبيل المعروف بل واكثر من ذلك انه يمشي تلكم الارض حتى ولو كانت ارضاً من صلب الحجارة أو اشتد بها السراب من وطأة الاجهاد والتعب بحيث يقصّر فيها ذو الرمة وناقته صيدح.

ومن الشعراء الذي ذكروا ذا الرمة ايضا ابو تمام في قصيدته المشهورة "السيف اصدق انباءً من الكتب" والتي نظمها في فتح عمورية من قبل الخليفة العباسي المعتصم ويقول فيها:
لم تَطْلُعِ الشَّمْسُ فيهِ يَومَ ذَاكَ على
بـانٍ بـأهـلٍ وَلَـم تَـغْـرُبْ على عَـزَبِ

مـا ربـعُ مـيَّـةَ مـعـمـوراً يطـيفُ بـهِ
غَيْلاَنُ أَبْهَى رُبى ً مِنْ رَبْعِهَا الخَرِبِ

ولا الْخُـدُودُ وقـدْ أُدْمينَ مِنْ خجَلٍ
أَشهى إلى ناظِري مِنْ خَدِّها التَّرِبِ

وفي هذه الابيات الثلاثة من جمال الكناية ووروعة الشعر وحسن المبالغة ما يجعلنا واقفين متأملين في اللغة وطرائق السبك كثيراً فهو يقول:

لم تطلع الشمس ذلك اليوم -اي يوم غزوة عمورية- على "بانٍ بأهل" اي متزوج من جيش الروم لأنه اما قُتل او أُسر او هرب "ولم تغرب على عزَب" اي لم تغرب على أعزب من جيش المعتصم لانه عاد بزوجة من السبي من هذه الغزوة وهذه من المبالغات الهائلة، اما قوله:
ما ربع ميّة معموراً يطيف به … غيلانُ أبهى ربيً من ربعِها الخربِ

اي ما الحي الذي تعيش فيه مية حبيبة غيلان "ذي الرمة" اذا كان معموراً جميلاً بأبهى -والباء هنا واقعة في جواب "ما"- بأبهى وأجمل منظراً من رؤية مدينة عمورية عند الجند وان كانت قد اصبحت خربةً من آثار الحرب والدمار

ولا الخدود وقد أدمين من خجلٍ …أشهى إلى ناظري من خدِّها التَّرِب

أي: ولا خدود الجميلات وقد توردن احمرارا من الخجل اشهى من مدينة عمورية وأوقع وأحب اليَّ وان علاها تراب الحرب.

وحديث الديار والاطلال والاحجار كثير في شعر العرب ومن ذلك ما جاء منسوباً في كتاب اثار الشهباء و الفيحاء لشاعر يدعى القاضي أبو يعلى المعري وهو من بلدة صغيرة اسمها شياث او سياث قريبة من معرة النعمان في سوريا ويقول فيها حين رأى قوماً يهدّون بيوتاً ليقيموا عليها بيوتاً جديدة:

مررتُ برسمٍ في شياثَ فراعني ... به زجلُ الأحجار تحت المعاولِ
تـنـاولـهـا عـبـلُ الذراع كـأنّـمـا ... رمى الدهر فيما بينهم حرب وائلِ
أتـتلـفـها؟ شُـلّـت يمينك، خََلّهـا ... لمُـعــتـبــرٍ، أو زائـــرٍ، أو مُـسـائـلِ
مـنـازلَ قـومٍ حـدثتنا حديثهم ... ولم أرَ أحلى مـن حديث الـمنازلِ

اما قوله "زجل الاحجار" تحت المعاول فيُحمَل على معنيين

الأول: الزَّجْل اي الرَّمْي بالشيء تأْخذه بيدك فتَرْمِي به فيكون معنى البيت: راعني رمي الاحجار تحت المعاول

والثاني الزجل هو الصوت والضجيج واللغط فيكون المعنى ارق واعذب اذ جعل للحجارة صوتا وأنيناً من ضرب المعاول وشدة الهدم.
والعبل هو الضخم، وقصد بقوله "حرب وائل" حربَ البسوس بين بكر بن وائل وتغلب بن وائل،

وأما قوله "ولم ار احلى من حديث المنازل" فهو معنى ندي بماء الشعر لين بالعاطفة مترع بالعذوبة

وهذه اللغة هي لغة شعر وليست لغة خطاب لان الحديث يُسمع ولا يُرى ولو نظرنا الى البيت بعين الحقيقة لأعبناه ولكننا استحسناه وقبلناه ووقع في انفسنا موقعاً لأننا نظرنا الى لغته ومجازه بعين الشعر.

وكأني بهذا الشاعر الجميل هذا حاكى بقوله هذا قول النابغة:
عوجوا فحيوا لنعمٍ دمنة َ الدارِ ... ماذا تحيونَ من نؤيٍ وأحجارِ
فاستعجمتْ دارُ نُعْمٍ ما تُكلـمُـنا ... والـدارُ لـو كلمتنا ذاتُ أخـبـارِ

ومعنى ابي يعلى آنف الذكر اجمل واقرب من معنى الذبياني لان الأول حاكى المنازل وانطقها وجعل لها حديثاً حلواً اما النابغة فقال "لو كلمتنا" اي جعل كلامها امراً مستحيل الحدوث بـ "لو" ذلك ان "لو" حرف امتناع لامتناع فامتنع الإخبار من الديار بامتناع كلامها.

ومن جميل ذكر المنازل هذه الابيات لابن الشهرزوري وهو شاعر عباسي متأخر وقد مر بقبر أخيه فقال:
مـررت على قبر تداعت رسـومُـه ... ومنزلُـه بـيـن الـحـوائـج آهـلُ
فريد وفي الإخوان والأهل كثرة ... بعيد ومن دون اللقاء الجنادلَ
فـحـرّكَ مني سـاكناً وهـو ساكنٌ ... وثقّفَ مـنّـي مـائلاً وهـو مـائـلُ
وقلتُ لـه إن كنت أخليتَ منـزلاً ... فقد مُلئت بالحزن منك المنازلُ
علـيكَ سـلامُ الله مـا ذرّ شـارقٌ ... ومـا حنَّ مشتاقٌ وما ناح ثاكـلُ

ولكن رغم كل ما ورد من معان في شعر العرب في الاطلال وآثار الديار الا ان شعر ذي الرمة كان احزن وأبكى وأحن وأشكى فهو القائل:
ألا يـا دارَ ميَّة َ بالـوحـيدِ ... كَـأَنَّ رُسُومَهَا قِطَعُ الْبُرُودِ
سقاكِ الغيثَ أولهُ بسجلٍ ... كَثِيرِ الْمَآءِ مُرتَجِزُ الرُّعُودِ

والقائل:
ألا يا اسْلَمي يا دار مَيّ على البِلى ... ولا زالَ منهلَّاً بجرعائكِ القطرُ

والقائل:
ألا حيِّ أطلالاً كحاشيةِ البُردِ ... لميَّةَ أيهاتَ المُحيلُ من العهدِ

والقائل:
ألا أيُّهذا المنزلِ الدَّارسِ اسلمِ ... وَسُقِّيتَ صَوْبَ الْبَاكِرِ الْمُتَغَيِمِ

والقائل:
لا بَلْ هُوَ الشَّوْقُ مِنْ دَارٍ تَخَوَّنهَا ... مَـرّاً سَـحَابٌ وَمَـرّاً بَـارِحٌ تَرِبُ
يبدو لعينيكَ منها وهـيَ مـزمنةٌ ... نُؤْيٌ وَمُسْتَوْقَدٌ بَالٍ وَمُحْتَطَبُ

لقد ضيّع عمره في السفر والترحال وضيع شعره في بكاء الدمن والاطلال ولقد صدق الفرزدق حين سمع شعره
فسأله ذو الرمة: كيف ترى ما تسمع يا أبا فراس؟
فقال الفرزدق: ما أحسن ما تقول
قال: فما لي لا أُذكر مع الفحول؟
فقال له الفرزدق : قصّر بك عن غايتهم بكاؤك في الدِمَن ووصفُك للأبعار والعطن.
.
.
.