بقلم: د. عماد عبد اللطيف سالم
كثيرون يعتقدون أنّ لا معنى، ولا جدوى، من عقد المقارنات بين البلدان والدول، فلكُلّ منها ظروفها الموضوعية، وسياقات تطورها التاريخية.. و.. و.. و لا أدري ماذا بعد.
نحنُ "خارقون" في كل شيء، و "عارفون" بكلّ شيء، إلاّ في بناء البدايات الصحيحة لكلّ شيء.
هناك مثال بسيط، مادمنا نأنُّ ونموءُ من سوء أوضاعنا المناخية "القاتلة"، بكلّ ما في كلمة القتل من معنى.. وهذا المثل يتعلّق بالزراعة تحديداً (ذلكَ أنّنا طَلّقنا الصناعة بالثلاث، طلاقاً بائناً "بينونة كبرى"، ولا داعي لذكر الأسباب، لأنّ ذكرها هو سببٌ رئيسٍ للقتل في هذا البلد "الأخضر"، الجميل).
لم نترك نارنجةً واحدةً، ولا نخلةً، ولا زيتونةً في حدائق البيوت، صغيرةً أكانت أم كبيرةً (لمن مايزال في بيته حديقة، من حدائق الأزمنة البائدة، في أرض السواد "العظيمة").. إلاّ وقطعناها.
لم نترك بستاناً إلاّ وجرفناه، لألفِ سببٍ وسبب.
لم نترك مقترباً لجسر، أو حافّةِ لطريقٍ، أو متنزّهاً، أو كورنيشاً، أو ممرّاً مُشَجَّراً بين شارعين، إلاّ وبِعناهُ، أو "أجّرناهُ " أو "استثمرناهُ" بالمزادِ "السريّ" لمن نعرفُ، ولمن لا نعرف، وكلنّا يعرفُ ذلك، ويعرفُ من يقف وراءه.
هَجَرنا الأراضي الزراعية (أو تمّ تهجيرنا منها).. أو أهملناها.. وحوّلناها إلى أرضٍ من الرملِ والقصَب البريّ، وفي أفضلِ الأحوالِ إلى كازينوهات، ومطاعم، ومولات (وليسَ إلى مصانع).. وبذلكَ تمّ غمر أخصب تربةٍ في الكون بالملح والسَبَخ.. ومَن كابرَ وغامرَ وأصَرّ على التشبُثِّ بالأرضِ، وزراعة ماتبقّى لهُ منها، قمنا بتلقينهِ دروساً في العقاب الاقتصادي، لم يختبرها "فلاّحٌ" أو "مُزارعٌ " في التاريخ.
و لم يحدث هذا لنا، ولبلدنا، بعد عام 2003 فقط، بل بدأ قبلها بكثير.. لذا فإنهُ ليس ظاهرة مُستحدثة، بل هو سلوك سياسي ومُجتمعي، و "سُلطوي" و"شخصي"، بدأَ وأمتَدَّ منذ ثمانينيات القرن الماضي، وترسَّخَ الآن.
توليدُ الدخل، توفير الغذاء، وتحسين الطقس.. ثلاثيّةٌ تعرفُ كلّ شعوب البلدان المُتخلِّفة، أنّها ترتبطُ بالزراعة، قبل أيّ نشاطٍ آخر.
وهاهي أثيوبيا تبدأ خطوتها الأولى، الضروريّة والصحيحة.. في مقارنة، تبدو كالمفارقة الغريبة بالنسبة لنا.. وخاصّةً الآن..
[أعلنت إثيوبيا عن تسجيلها رقما قياسيا بزراعة 355.6 مليون شتلة خلال 12 ساعة فقط، ضمن حملة تشجير أطلق عليها "البصمة الخضراء" يقودها رئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد، تهدف إلى زراعة 4 مليارات شتلة في جميع أنحاء البلاد.
وأوضح وزير الزراعة الإثيوبي أن الحملة حققت نسبة نجاح تجاوزت الهدف المحدد الذي وضع له وهو 200 مليون شتلة.
وأضاف أن 23 مليون شخص قد شاركوا في هذه الحملة، بينهم 7 ملايين من النساء.
وبهذا تكون إثيوبيا قد تفوّقت على الهند التي سجَّلت رقماً قياسياً في يوليو/حزيران 2017 بزراعة 66 مليون شجرة خلال 12 ساعة في ولاية ماديا براديش].
وبهذه المناسبة أيضاً، يمكن لأيّ شخصٍ أن يبدأ بإطلاق "أسبابه" حول "عدم القدرةِ" على تحقيق ذلك، وبالتالي تسفيه كُلّ شيء، وتسطيحه، وسحقهِ في مهده.
وستبدأ الأسئلة "القاتلة"، على غرار: من يقوم بتجهيز الشتلات ؟ من يقوم برعايتها، ويسقيها لاحقاً بالماء ؟ متى نزرعها ؟ أين نزرعها (هل نزرعها في المحافظات المتضررة من النظام السابق، أم المحافظات المتضررة من النظام الحالي، أم المحافظات المتضررة من "داعش") ؟ هل نزرعها في "المناطق المُتنازَعْ عليها"، أم نؤجّل ذلك لغاية إنجاز التعداد العام للسكّان ؟ هل نزرعها في كركوك، أم ننتظر تطبيق المادة 140من الدستور؟ من يزرع هذه الشتلات ؟ كيف نزرعها ؟ أيّ الشتلات نختار؟ و ماذا إذا دخلُ الفاسدون، وقاموا بتحويل "الحملة" إلى "صفقات" فسادٍ جديدة!!!! و.. و.. وغيرها كثير.
لدينا أمانة بغداد، ووزارات التخطيط، والزراعة، والموارد المائية، والتعليم العالي والعلوم والتكنولوجيا، والثقافة والسياحة.
لدينا المئات من مراكز البحوث، والآلآف من "منظمات" المجتمع المدني.
لدينا الملايين من "الخبراء" و "المُثقفّين" و "الإعلاميّين" و "المُدَوّنين"، ِ و"الناشطات والناشطين"، و "المدنيّين" و "المُتأسلِمين"، و "المُجاهدين" والمُعارِضين"..
فإنْ كانت كلّها لا تعرف كيفية القيام بذلك.. وكانوا كُلّهم لا يعرفونَ كيفيّة القيامِ بذلك..
إسألوا الهند (بلد الإثنيات، و التوافقات والإختلافات، والتنوع العرقي والقومي والمذهبي و اللُغوي والديني).. كيف تمكّنَتْ من فعل ذلك ؟
إسألوا اثيوبيا (التي أصبحت بلداً مُتقَدّماَ ومُتَحَضِّراً مُقارنةً بكم).. كيف تمكنت من فعل ذلك ؟
كيف قامت (وهي أثيوبيا)، بزراعة 355.6 مليون شتلة خلال 12 ساعة فقط ؟
إسألوا.. فالسؤالُ ليسَ عَيْباً.
إنّ العجزَ عن فِعلِ كُلّ شيءٍ، وأيّ شيءٍ (مهما كانَ بسيطاً).. هو العَيْب.