حديث الخميس: منادمة

آخر تحديث 2019-08-08 00:00:00 - المصدر: وكالة الحدث الاخبارية

كان كلما اعد القدح لشرابه اخذه بلطف ثم دعكه بمنديله ولمّعه حتى توهّج كالمصباح فإذا ارضاه بريقُه واقنعه لمعانُه اخذ زجاجة الخمر ودارَ فيه قليلاً، ثم رفعه قبالة عينيه وتأمله ثم رفعه الى أعلى وجعله بينه وبين مصدر الضوء ونظر الى مستوى الخمرة فيه، ثم زاد عليه قليلا من الخمر ثم رفعه مرة اخرى وصوب نظره وقدّر مستوى الخمر في كأسه، وهكذا فِعْلُهُ مرةً بعد مرة .... يزيد عليه شيئا فشيئا حتى اذا اطمئن من انتصاف الخمر في كأسه خفّفه بصب الماء عليه بما يعادل ما به من خمر، ثم ملأها بمكعبات الثلج فإذا بدأ الحببُ يتسامى من اسفل الى اعلى حالاً على حال وروحاً تلو روح ألقى جسده الى الوراء واتكأ، وأراح ظهره واسنده على كرسيهِ فأقرأ بوجهه آثار النشوة والارتياح وقد انصف خمره وماءه وعَدلَ في مزجه بينهما نصفاً بنصف ليتركه أمامه قليلاً وهو ينظره اليه بلطف ويرمقه بلين حتى تتعرق حوافّه وتندّى جوانبه فاذا كانا -هو والكأس- شأن حبيب قبالة حبيب بادر لمى كأسه بمصةً بعد مصة وحسوة تتلوها حسوة وانا انظر اليهما كعاشقين فيصيبني من الانتعاش من منظره وهيأته ما يصيبه هو من الخمر، وهكذا حاله حتى يُسلم ليلَه لصباحِه. وكنت اذا سألتُه عن حاله تلك وفعلِه ذاك ولِمَ العدل بين الخمرة والماء قال: انا اشرب على الطريقة النوّاسية. ولم اكن اعلم يومها ما الطريقة النوّاسية ولماذا اسماها بهذا الاسم الغريب ونعتها بذاك النعت العجيب فأثارت كنايتُه تلك في نفسي الف فضول وبعث وصفه ذاك بخاطري الف سؤال ولم اشبع فضولي ذاك ولا حيرتي تلك حتى سألته: وما الطريقة النوّاسية؟ فسكت غير قليل وانا اقرأ في عينيه لذته في تعمده وتقصده تأخير جوابه وهو يقرأ في عيني حيرة ارتباكي وانتظاري له. وما ان اكتمل عنده نصاب ما يريد من بلوغ فضول السؤال واكتمال غاية الانتظار اجابني بسؤال: المْ تقرأ قول ابي نواس؟ قلت اي قول تقصد؟ فسكت مقدار سكوته الاول ثم قرأ لي ابياتا مكتملة الروعة وكنت اسمعها منه لاول مرة:  أَثـنِ عَـلـى الـخَـمـرِ بِـآلائِــهـا ... وَسَـمِّـهـا أَحـسَنَ أَسمائِها لا تَـجـعَـلِ الـمـاءَ لَـهـا قـاهِراً ... وَلا تُـسَـلِّـطْـها عَلى مائِها كَـرخِـيَّـةٌ قَـد عُـتِّـقَـت حَقبَةً ... حَتّى مَضى أَكثَرُ أَجزائِها فَـلَـم يَـكَـد يُـدرِكُ خَـمّـارُهـا ... مِنهـا سِـوى آخِـرَ حَوبائِها دارَت فَأَحيَت غَيرَ مَذمومَةٍ ... نُفوسَ حَسراها وَأَنضائِها وَالـخَـمـرُ قَـد يَشرَبُها مَعشَرٌ ... لَيسوا إِذا عُـدّوا بِـأَكفائِها وحَسراها اي متعبيها، وانضاء جمع نضو وهو الهزيل وهذه احدى الذ واجمل قصائد ابي نواس في الخمر وفيها شعر رائق وان أُخذتْ عليه حجةً في تعلقه بالخمر الا انه جعل للشرب قاعدة طريقة وأدب متمثلة بالعدل بين الخمر والماء. وقد تحدث عنها طه حسين في "حديث الاربعاء" فأنصفها وظلمها: فأما انصافه لها ففي قوله: انظر الى هذين البيتين، انظر إلى سهولة اللفظ، وخلوه من التكلف، انظر إلى هذا النظم يكاد يكون نثراً، وانظر إلى دقة هذا المعنى الذي قد لا يعجبك في نفسه، ولكنه على هذا جميل دقيق، يمثل عقل أبي نواس، واصطباغه بالصبغة الفلسفية التي كانت عامة في عصره كَرْخِيَّةٌ قَدْ عُتِّقَتْ حِقْبَةً ... حَتَّى مَضَى أَكْثَرُ أَجْزَائِهَا فَلَمْ يكَدْ يُدْرِكُ خَمَّارُهـا ... مِنْهَا سِـوَى آخِـرِ حَوْبَائِهَا والحَوبَاء النَفْس، ثم يضيف في تحليله للقصيدة بقوله: فهذه الدقة لا تستهويك ولا ترغبك في الخمر، ولا تنزع بك إلى حب الشراب، ولكنها في نفسها جميلة محببة، وانظر إلى استئناف الثناء على الخمر، في لفظ حلو سهل غير متكلف ولا متصنع:  دَارَتْ فَأَحْيتْ غَيْرَ مَذْمُومَةٍ ... نُفُوسَ حَراهَا وأَنْضَائهَا والْخَمْرُ قَـــدْ يَشْرَبُهَا مَعْشَرٌ ... لَيْسُوا إِذَا عُدُّوا بِأَكْفَائِهَا انتهى قول طه حسين.... وأما ظلمه اياها، فقد تكلم طه حسين عن بعض ابيات هذه القصيدة ونسي درة عقدها وزينة معانيها وهو قوله: لا تَـجـعَـلِ الـمـاءَ لَـهـا قـاهِراً ... وَلا تُـسَـلِّـطْـها عَلى مائِها وهذا البيت فيه من الحسن والجمال ما يفوق الوصف ويُطمع الحرف، فقد اتم روعة المبنى بروعة المعنى وأكمل حسن الاشارة بسهل اللفظ ثم خلّده حين اطلق فيه قاعدة ظريفة وطريقة في أدب الشراب واسس فيه معادلة في كيمياء المزج مبنية على الانصاف بالانتصاف. وقد حاول هذا المعنى قبله حسان ابن ثابت ولكنه لم يصل الى ما وصل اليه ابو نواس في بيته آنف الذكر ولم يستطع ان يصل جمال وحلاوة بيته، فقد قال حسان في لاميته الشهيرة:  وَلَقَد شَرِبتُ الخَمرَ في حانوتِها ...صَهباءَ صافِيَةً كَطَعمِ الفُلفُلِ يَـسـعـى عَلَيَّ بِكَـأسِـها مُتَنَطِّفٌ ... فَـيَـعُـلُّـني مِنها وَلَو لَم أَنهَلِ إِنَّ الَّـتـي نـاوَلـتَـنـي فَـرَدَدتُـهـا ... قُتِلَتْ، قُتِلتَ فَهاتِها لَم تُقتَلِ ولو نظرنا في قوله "قُتِلَََتْ قُتِلتَ فَهاتِها لَـم تُقتَلِ" لوجدنا فيه معنى ابي نواس اي: قُتلتْ بالماء لمّا صارت نسبة المزج فيها غير عادلة فزاد الماء على الخمر فقتلها.  والغريب ان حسان في ابياته الثلاثة تلك قد ناقض نفسه وخالف معناه فهو بعد ان وصفها للتو بقوله "صَهباءَ صافِيَةً كَطَعمِ الفُلفُلِ"، ويقصد بـ "طعم الفلفل" اي انها كانت ذاتَ طعم مركز قوي ولاذع عاد ليقول انما رددتها الى الساقي لانها كانت "مقتولة" اي مخففة بالماء. "إِنَّ الَّتي ناوَلتَني فَرَدَدتُها ... قُتِلَتَْ ......." ويبدو ان ابا نواس قد حاول ان يبيّن طريقته تلك في اكثر من مكان ولكنه لم ينجح وما قوله:  فقوما فامزجا خمراً بماء ... فإن نتاجَ بينهما السرورُ الا محاولة فاشلة على ما ذكرنا من عدله وانصافه بين الخمرة والماء فلم يوفّق فجاء بيته هذا باهتاً بارداً لا يترك أو يثير في النفس ما يتركه ويثيره قوله "لا تجعل الماء لها قاهراً". ولأبي نواس شعر كثير في الخمر والمنادمة وقد حاول في غير موضع ان يفلسف مجلسه ويخلق منه آداباً ويعكس بعض محاسنه فقصر تارة واجاد باخرى ومن جميل ما جاء في هذا الخصوص قوله: كَــمْ مُتْرَفٍ عَقَلَ الحَياءُ لِـسـانَهُ ... فَـكَـلامُـهُ بِــالْـوَحْـي وَالْإِيـمــاءِ لَـمَّـا نَظَرْتُ إِلَى الْكَرى في عَيْنِه ... قَــدْ عَـقَّـلَ الجَـفْـنَـيْـنِ بِالإِغْفَاءِ حَـرَّكْـتُهُ بِـيدِي وَقُـلْتُ لَــهُ انْتبِهْ ... يَــا سَـيِّـدَ الْخُـلَـطَـاءِ والنُّدَمَـاءِ حَـتَّـى أُزِيـحَ الْهَمُّ عَنْكَ بِـشَـرْبَـةٍ ... تَـسْـمُـو بِصَاحِـبِـهَـا إِلَى العَلْياءِ فَأَجَابنِي وَالسُّكْرُ يَخْفِضُ صوْتَهُ ... وَالصُّبْحُ يَدْفَعُ فِي قَفَا الظَّلْمَاءِ إِنِّـي لَأَفْـهَـمُ مَـا تَـقُـولُ، وَإِنَّــمــا ... رَدَّ الـتـعَـافِـي سَـوْرَةُ الصـهْبَاءِ وفي هذه الابيات من جميل الوصف وبديع الكناية ما يغري بالقراءة والعناية ويثير الرغبة في التكرار والإعادة ويحض على الاسترسال والزيادة، فمذ بدأ بوصف جليسه بـ "المترف" وقد اراد به انه صاحب أدب وخلق وحياء ولم يرد به ترف الحال بالغنى والمال، وهذا ما يدل عليه بوصفه ان كلامه وحي وإيماء، وقد غلبه النعاس فأزاح عنه سكونه وهدوءه بشربة كان احد اثارها انها تسمو بصاحبها الى العلياء، وما ان امتعنا بلطف قوله "وَالسُّكْرُ يَخْفِضُ صوْتَهُ" حتى ادهشنا بجمال وصفه لانقضاء الليل وقد ادركهم الصباح بقوله "وَالصُّبْحُ يَدْفَعُ فِي قَفَا الظَّلْمَاءِ" ثم يختمها بأن "سورة الصهباء" وهي الخمر قد ردت التعافي اليه. وانا هنا لا ابتغي الخمر غاية في الحديث ولا اضعه هدفاً للقول وانما لاوضح ان هذا العبقري ابا نواس شاعرٌ برداء فيلسوف وفيلسوفٌ بعباءة شاعر فهو لم يأتنا بعلو ادبه ووضوح حنكته وصفاء صنعته وحسب بل أثبت لنا انه أول من نحّى مطولات القصائد جانباً فأوضح معناه وبيّن قصده بأبيات قليلة فيها من عذوبة اللفظ ما يُتم الامتاع وفيها من حسن المعاني ما يحقق اعلى حالات اللذة والادهاش . فكان بحق اول المُحْدِثين في الأدب العربي وأول من القى عن كاهل الشعر إرثاً ثقيلاً من الالفاظ الغريبة والمعاني القاسية والدلالات الحادة وازاح عن اكتاف القصيدة العربية ثقلاً عظيماً وحملاً متوارثاً متمثلاً بالتطويل الاسهاب والاعادة والاطناب. وهو اول من مسح عن وجه القصيدة غبار الصحراء وغسله بعبيط ماء الشعر وأنقذها من الجفاف والقساوة ونفض عن ردائها آثار الصحراء والبداوة ثم سافر بها الى لين الحضارة ولطف المدنية فالبسها من قشيب اللفظ وجديد المعاني ما ابدل حالها وجمّل صورتها ليخرجها صافيةً كعيون الاطفال ويجلوها مشرقةً كخدود العرائس. وأذا كان احدُ اسباب البلاغة حسنَ المعنى بسهل اللفظ وقِصر الشرح، فلن يكون الحسن ابن هانئ اشعر اهل زمانه وحسب، بل وابلغهم قولاً واوضحهم صورة واصفاهم دلالة واشارة.