حديث الخميس: مكتوب الجندي چثير

آخر تحديث 2019-08-17 00:00:00 - المصدر: وكالة الحدث الاخبارية

حسان الحديثي
قصة قصيرة

خطي الجميل والمتناسق هو الذي جعلني الكاتبَ "غير الرسمي" للكتيبة العسكرية التي كنت اخدم فيها حتى ان غالب الجنود الذين كانوا من حولي ممن يريد ان يرسل رسالة لامه أو لأبيه أو لحبيبته كان يستعين بي لكتابة ما يريد.
كانت طلبات كتابة الرسائل تزداد حين يقترب يوم الاجازة فيهيئ الجنود الماكثون قرائحهم ودموعهم لمكاتيبهم لارسالها مع الجنود المغادرين في الإجازة الدورية التي تحين كل اربعة اسابيع.

كنت أميناً على ترجمة كلامهم العاميّ الى لغة فصيحة -ان تطلب الأمر- فقد كان اغلب الجنود لا يجيدون البوح باللغة الفصحى وكانت اكثر الرسائل إرهاقاً وتعباً لي هي تلك التي يرسلها الجنود حديثو العهد وصغيرو السن لأمهاتهم، كانت مليئةً بالحنين والأسى ولوعة البعد حتى اني كنت اضيق بها ذرعاً وتشقّ عليّ كتابتُها وأشفق منها على الأمهات فاطلب من اخوتي الجنود تخفيف لغة الخطاب رحمةً بانفسهم وبامهاتهم، وكنت غالباً ما أكتب رسائلهم بالعربية الفصحى فإن تعذر عليَّ ترجمة الجملة العامية او خفتُ ان كاهل الجملة الفصيحة ينوء بحِمْلِ ما اراه في عينيّ الجندي من معنى ، كتبت الجملة العامية كما هي ووضعتها بين قوسين صغيرين . سيما ما احتوى منها على كلمة "يُمّه" بتفخيم الميم أو كلمة "يُوْمْ" وكلاهما تعني "أمي" باللهجة العراقية غير اني لم اجد في قاموس اللغة مترادفةً تبعث الدفء بقلب الجندي وتعبث بقلب الأم كهاتين المفردتين.

ذات فجر لم تبن خيوطه البيض بعد، وبينا كنت من رعية سلطان النوم متلفلفاً ببطانيتي اتقي بها لسعة نسائم ذلك الفجر البارد واتحسس لذتها على وجهي المكشوف، سمعت اسمي يتردد بصوت مألوف متقطّع ويناديني برفق وأدب: استيقظ استيقظ...

كانت لذة النوم على عيني اكثر تمسكاً بي واشد قبضة عليّ مما تسمع اذني، فلم آبه به، وما هي الا لحظة حتى أحسست بيدٍ تربّت على كتفي بهدوء ولطف، فتحت عيني بصعوبة بالغة وانا اجاهد هيبة السلطان الجاثم على اجفاني والقابض على جوارحي كاظفار عقاب كاسر على شلوٍ ساكن.

فتحتها وتبينت وجه صاحب الصوت، انه الجندي "چِثِير" بالجيم المعجّمة والذي عاد من اجازة زواجه قبل اسبوعين وقد جاءني في هذه الساعة المبكرة في يوم مغادرة وجبة الجنود المجازين ليطلب مني أن أكتب له "مكتوباً" لزوجته التي ما زالت بزينة العرس ليرسلها مع احدهم.

كنت اعلم انه يحبُها حباً عظيماً قبل زواجه منها فقد كان يبوح لي ببعض اسرار ما يجد من اكتوائه بجمر الهوى ويشرح لي ما في قلبه من حرقة وشوق طالما انطقا عينيه دمعاً قبل لسانه.

جلس امامي بحياء وانكسار متكوراً على نفسه بجسده النحيل ولفَّ ذراعيه المفتولين حول ركبتيه وجذبهما اليه بقوة حتى بانت عضلات ساعديه واوردة رقبته المتشنجة.

بدا لي انه جاهز للبوح الى الحد الذي كنت استطيع ترجمة وجيب قلبه و تعاقب انفاسه وبريق عينيه الى كلام دون ان ينطق بشيء، ليس ذلك فحسب، بل انني كنت اقرأ في لمعة اصفرار وجهه الذي طغى على سماره وفي تقاسيمه الحزينة كل قصائد الغزل التي احفظها لقيس المجنون بليلى العامرية.

تناولت من حقيبتي دفترَ الرسائل الذي كنت أعدّه لهذا الغرض والقلمَ الاسود ذا الخط العريض الذي أحب الكتابة به لشعوري أن حجم خطه وشدة سواده على بياض الورق يعطي المعاني أبعاد لا اجدها في سواه من الاقلام، ثم قربت قنديلاً متهالكاً ببقايا ضوء تحمله فتيلة سقيمة اشتت بهما ما تخلّف من سواد الليل وخيوط ظلامه المتأخرة.

نظرت اليه نظرةً أوحيتُ له بها انني جاهز، فشرع الجندي چثير يُملي علي ما أكتب مكفكفاً بعض الدمع بأردان خضلات وانا اسرق النظر الى بريق عينيه المحمرتين ككبدٍ مفريةٍ وان كانتا مصوبتين نحو الارض حياءً ومكابرةً.

قال أول ما قال: زوجتي الغالية....
ثم سكت قليلاً...
ثم أخذ نَفَساً عميقاً..
ثم استدركَ فقال: لا...
لا تكتب زوجتي الغالية

بل أكتبْ: حبيبتي الغالية
ثم انطلق قائلاً: هل تعلمين انني لم انمْ ساعةً واحدةً منذ الليلة التي فارقتك فيها قبل اسبوعين؟
ولم اهنأ بطعام بعد آخر وجبة اكلناها سوية؟

ثم رفع رأسه قليلاً وقال: كنتُ -يا حبيبتي- كلما اسلمتُ مقادَ نفسي وعنانَ أجفاني للنوم مرَّ وجهُك الملائكي بي فازداد وجيبُ قلبي وتضاعفت دقاتُه وتصاعدت انفاسي فتنفر مهرة الاشواق من بين جوانحي لتفرّق بيني اجفاني والوسن ولتأخذني اليكِ وتذهب بالنوم بعيداً الى حيث لا ادري. ...

ثم سكتَ غير قليل، وسكتُّ انا ايضاً لافسحَ له الدرب الى فضاء الإلهام حين رأيته يلملم شتات فكره ليُعدَّ الجملة التالية، كنا بحالين مختلفين؛ هو يسْرحُ بفكره في غابة الكلمات وأدغال المعاني، وأنا امسك بقلمي كقناص جاهز للضغط على زناده عند اول حركة يراها من الهدف..

كلّ ذلك ونحن في سباق مع الزمن لاتمام "المكتوب" قبل مغادرة عربة الإجازة الدورية

ثم اندفع قائلاً : الاشواق -يا حبيبتي- ليست محضَ إحساس وشعور، انها خيولٌ بريةٌ جامحةٌ لا يمسكها رباط أو لجام، هي قعرُ تنورٍ مسجور ابيضت جنباته من وهج ما فيه من جمر ونار، انها رعود غاضبة يبعث هديرها الفزع بما تحتها من حياة، لكن العجب ليس بكل ما تقدم ايتها الحبيبة ، انما العجب بترويض تلك الخيول وإبراد ذلك التنور واسكات غضب هاتيك الرعود إذا لامسني بردُ كفِّ مَنْ ثارت لها الاشواق ثم افترّتْ شفتاها لي ببسمة رضى سيذهب عني حينها كلُّ بأس وكأنه المعنى الآخر لقولةِ "كن فيكون".

كنتُ اكتب ما يقول وأردد في نفسي ويل لك من عاشق والف ويل لك من أديب، لقد حاكيت ابن الخطيب حين قال:

ضَع على صَدريَ يُمناكَ فَما ... أجدَرَ الماءَ بإطفاءِ اللَهَبْ

كانت أنفاسه تتسارع مع الكلمات وكان صوته يخفت في نهاية كل عبارة وكأنه قائد مصابٌ بمقتل يمتمت لجنوده ويلفظ لهم وصيته الأخيرة.

وكنت اكتب ما يقول وقلبي يتقطع على قلبه وأشعر انه ان لم يمتْ بنهاية هذه العبارة التي اكتبها له الآن فإنه لا محالة ميت في آخر الرسالة.
كنت انصت اليه ويمر ببالي قول عروة ابن حزام:
كأن قطاةً عُلقتْ من جناحِها .. على كبدي، من شدّة الخفقان

كنت انظر اليه وهو يتفتت حباً وشوقاً فاتذكر قول بشارة الخوري "من يشتعلْ بالحب يبتردِ"

غير اني كنت اكتب واعيش اللحظة بين قلقين: قلقٍ على اتمام الرسالة بخط مقروء العبارة واضح المعنى، وقلقٍ من مغادرة عربة الجنود المجازين قبل اتمامها.

لم اكد أتم "المكتوب" حتى تناولت مغلفاً من حقيبتي وكتبت عليه العنوان بسرعة ثم دسست الرسالة في باطنه واعطيتها له لينطلق بها الى مقر الكتيبة الذي يبعد عنا اكثر من مئتين من الامتار ليسلمها لاحد الجنود من منطقة سكناه.

اخذ المكتوب مني ومشى باتجاه عربة الجنود ولكنه كان خائر القوى منهار الاعصاب كجندي نازفٍ مثخنٍ بالجراح عائدٍ للتو من معركة شرسة، فما كان مني الا ان اقوم على عجل واخطف "المكتوب" من يده وانطلق به راكضاً باقصى سرعتي وانا ارى عربة المجازين بدأت تتحرك مغادرة مقر الكتيبة زدت من سرعتي وصحت بأعلى صوتي منادياً توقفوا ...توقفوا ... ولكن دون جدوى فقد تجاوزت العربة باب الكتيبة وأصبحت بعيدة فيئست منها وضاع صوتي سدى بلا مجيب .... ولم يبق في المكان سواي وصوت انفاسي المتتابعات شهيقاً وزفيراً...

أصبت بالحزن والاحباط وشعرت بالأسى والأسف ووقفت أتلفت يميناً وشمالاً لا ألوي على شيء ولا ادري ما سافعل وكيف ساعود الى صاحبي بالمغلف الذي حوى عواطفه ودموعه ووجيب فؤاده.

عدت امشي متباطئاً منكسراً الى خيمتي مع رسالته يلفني شراع الهزيمة و تدفعني ريح الخذلان وانا افكر كيف ساواجه صاحبي وماذا سأخبره عن امر رسالته.

هنا خطر لي خاطر فاضمرت أمراً وأسرعت بخطاي حتى وصلت مكاني الذي تركته فيه وانا طلق اللسان مستبشر الوجه وقلت له بابتسامة عريضة: لقد ادركت الجنود في اللحظة الاخيرة وسلمتهم المكتوب فاستأنس بالخبر وانشرح صدره وبانت اساريره وذهبت عنه ملامح الحزن والكآبة وبدا لي باحسن حال. وان كنت ساعتها اعيش اللحظة باسوأ شعور وأتعس إحساس وقد ارتكبت خطأين في ساعة واحدة؛ كذبت عليه بعد خذلاني له بعدم نجاحي بتوصيل المكتوب.

مضت الأيام وانا أهمّ كل يوم بإخباره الحقيقة وما ان أوشك حتى تنازعني نفسي الى غير ذلك فأعزف عن الأمر....

وهكذا كان كل يوم يمر طويلاً مريراً وأنا أحاول أن أتفادى لقاءه كي لا أفشي له سرَّ ما حدث، وما أن يأتي الليل حتى أبدأ بالتفكير فيما سافعله والايام تمضي وسيذهب صاحبي قريباً بإجازته ويكتشف فعلتي، سيما وأنه معي في نفس وجبة الإجازة التي ستبدأ بعد أيام وسنكون في نفس العربة التي تنقلنا من وحدتنا الى مقر الفرقة ثم سنركب نفس الباص المتوجه الى العاصمة بغداد.

كانت أياماً عصيبةً حتى حان موعد إجازتنا ومغادرتنا متوجهَين الى أهلينا بعد اربعة اسابيع من الغياب لكنها اربع سنين طويلة على الجندي "چثير" .

كان يجلس بجانبي في الباص المنطلق بنا الى العاصمة بغداد وفي وجهه من آيات الفرح ما لا يوصف كنت أشعر انه لا يستبدل ذلك اليوم بما مضى من حياته ولا بالباقي منها بل لا يستبدله بعمره كله.

اقتربنا من بغداد وما هي الا دقائق ونكون في محطة الافتراق وصاحبي بجنبي ورسالته في جيبي وانا تاخذني فكرة وتردني حيرة حتى ابتدرته قائلا:

هل تعلم يا صاحبي أن مهنة ساعي البريد مهنة عظيمة، إنها من أشرف المهن فهو يقرّب البعيد ويُؤتمن على أسرار الناس و يحمل كثيراً من الفرح في جيوب حقيبته حين يوزع المكاتيب ذات اليمين وذات الشمال بلا كلل او ملل.... كان ينصت لي باهتمام بالغ بل احسست انه استأنس بكلامي وقرأت في عينيه انه يستزيدني منه.
حينها سالته: هل خطر ببالك يوماً ان تكون ساعي البريد؟ أجابني وبسرعة : لا... لم يخطر ببالي هذا الأمر.

هنا قلت له: لعلك اليوم ستكون أجمل وألطف وأرقّ ساع للبريد على هذا الكوكب....

وبينا هو ينظر الي نظرة المتهِم المستغرِب، استللت رسالته من جيبي ودسستها في جيبه وقلت له: أوصل هذهِ الرسالة لزوجتك ودعها تقرأها قبل ان تسلّم عليها فما أجمل ان تقدم بين يديها عبرة الشوق الخالص والحب العظيم يا صاحبي.... ما اجمل ان تقرأ زوجتُك ما كنت قد كتبتَه لها في غيابك، سيكون معناها أضعاف ما ستقوله لها وجهاً لوجه لان الحب المكتوم يا صاحبي أصدق وأسمى الف مرة من الحب المعلوم.

توقف الباص وبدأ الجنود بالنزول منه وانا لا زلت اشرح له لهفة اللقاء مقروناً بسعادة زوجته بالرسالة حتى اني لم أدعه يقول كلمة واحدة.
حملت حقيبتي وتركت مقعدي مسرعاً نحو باب الباص وانا أصيح به بصوت مسموع: أين البأس في أن يكون المرسل هو ساعي البريد يا صاحبي؟
بل ما أجمل أن يكون المُرسل هو نفسه ساعي البريد.....

افترقنا كلٌّ الى وجهته هو بحماسه ولهفته للقاء من يهوى وانا بروح مرفرفة وقلب طليق من قيد "المكتوب".